كان طلال سلمان، المراسل العربي في مجلة الصياد، يسهر عند أصدقائه مساء 28 أيلول 1970. قرابة الساعة التاسعة ليلا، سمع الساهرون صوتاً في الشارع، ثم راحت الأصوات ترتفع، وصولاً إلى إطلاق الرصاص، قبل أن يعرف الخبر الذي يصفه بالصاعقة: مات عبد الناصر. عاد إلى البيت وبكى، وزوجته كذلك. “أذكر أني نمت باكراً، أبكر من أي ليلة مضت. إغماء أو هرب. سمّه ما شئت”. لم تكن هذه حاله وحده “لقد شعر الناس بأنهم أصبحوا أيتاماً برحيل عبد الناصر. كانت صدمة هائلة، لم نستفق منها إلا بعد أيام، إلى أن سارت جنازته الفعلية في القاهرة فيما أقيمت مسيرات تشييع رمزية له على امتداد الوطن العربي. ردّ الفعل في لبنان كان هائلاً، بالإضافة إلى التظاهرات والتشييع الرمزي، الحشود التي أمّت السفارة المصرية يومها قد تكون من أكبر الحشود في تاريخ هذا البلد. كلّ قرية تقريباً أقامت له جنازة”. يضرب سلمان مثلاً “مزرعة بيت شحادي” الكائنة فوق بلدته شمسطار: “أهلها رعاة ماعز، فقراء وبسيطون، حملوا تابوتاً وضعوا فيه بعض الأحجار وساروا به إلى شمسطار، المدينة بالنسبة إليهم. ارتدت النساء اللون الأسود، ووضع الرجال الكوفيه السوداء علامة الحزن”.
لا يناقش سلمان كثيراً نظرية موت عبد الناصر مسموماً إذ “لا دليل حسياً” على الأمر، لكن برأيه هناك ما هو أخطر من ذلك “كان مريضاً، وكان الروس يريدونه أن يتعالج عندهم ونصحه الأطباء بالراحة لأنه كان معروفاً أنه سيموت إذا أُرهِق كثيراً. القمة التي عقدها من أجل معالجة مذابح أيلول الأسود في الأردن أنهكته. بقي ثلاثة إلى أربعة أيام بلا نوم تقريباً، بالتأكيد هذه القمة كانت من بين الأسباب التي سرّعت وفاته”. يتذكر سلمان كلّ ما كتب بعد وفاة عبد الناصر لا سيما ما كتبه محمد حسنين هيكل من وصف تفصيلي “لأنه كان عنده في البيت. يذكر أن عبد الناصر عاد من وداع أمير الكويت في المطار وكان يشعر بتعب وإرهاق شديدين جداً. بعد فترة بسيطة، دخلوا إلى غرفته، فوجدوه ميتاً”.
عندما استيقظ طلال سلمان في صباح اليوم التالي لإعلان الوفاة، شعر بأن محور الكرة الأرضية انكسر. كيف لا، وقد رحلت “أكبر شخصية عرفناها في المنطقة في القرن الأخير، لقد رأيت أثره في الجزائر، في المغرب، في ليبيا، بالاضافة إلى لبنان وسوريا والعراق واليمن”. يروي حكاية عن لسان الكاتب المغربي الراحل الباهي محمد أنه كان في الدار البيضاء، وكان عبد الناصر متجهاً إليها بالباخرة: “التقى الباهي محمد بشيخ قبيلته وهو من الصحراء المغربية، فسلّم عليه وسأله عمّا يفعله، فأجابه أنه قدم لرؤية عبدالناصر. سأله: وماذا تريد منه؟ أجاب: أشكو له نقص الماء عندنا في الصحراء. قال الباهي: وما علاقة عبد الناصر بالماء؟ فأجابه الشيخ: كيف لا تكون له علاقة؟ أليس هو شيخ مشايخ العرب؟ أي أنه كان هناك إحساس بأن عبد الناصر مسؤول عن الأمة كلها. لقد ساد هذا الانطباع على المستوى الشعبي، وجنازته أكدّت هذا الأمر”.
برحيل عبد الناصر، “انطوت صفحة كاملة من تاريخ الأمة، وفتحت صفحات جديدة. كلّ شخص صار يكتب صفحة على خاطره بعدما ذهب الكبير. ذهب القائد الذي كان يشعر الجميع بأنهم غير قادرين على التصرّف من دونه. بدأ الصغار يكبرون وكلّ من كان لديه مشروع آخر، أخرجه”.
لقاء عبد الناصر
قبل ولادة هذه المشاريع التي سنأتي على ذكرها في الحلقات المقبلة، وقبل رحيل عبد الناصر بنحو 12 سنة، كان طلال سلمان قد بدأ عمله الصحافي. بداياته كانت في جريدة النضال ثم الشرق، التي انتقل منها سريعاً إلى مجلة الحوادث حيث عمل مع سليم اللوزي، الناصري الهوى. تزامن عمله في الحوادث مع إعلان الجمهورية العربية المتحدة في شباط/ فبراير 1958، وزيارة عبد الناصر إلى سوريا. أخبرهم اللوزي أن فريق عمل المجلة سيذهب معه إلى دمشق لإلقاء التحية على الزعيم المصري. خبر أفرح سلمان كثيراً، فقد كان عبد الناصر بالنسبة إليه “الزعيم المرتجى الذي انتظره العرب من بعد النبي محمد. كانت علاقة الجماهير به خرافية، أسطورية. رجل حقق لك أسمى الأحلام التي تحملها: الوحدة العربية. إفشال العدوان الثلاثي، بناء السد العالي. بعد فشل العدوان الثلاثي، اكتشف العرب أنفسهم. أتذكر مثلاً حادثة عن باخرة مغربية رفض عمّال الميناء في نيويورك إفراغ حمولتها. أضرب كلّ عمال النقل في الوطن العربي احتجاجاً. كان هناك شعور بأن العرب اكتشفوا أنفسهم أمة واحدة”.
استعدّ سلمان للزيارة، بعدما أخبر والديه اللذين بكيا فرحاً. “الجاكيت التي ارتديتها يومها كنت قد اشتريتها من زوج عمتي الذي كان يعرض بضاعته على باب أحد المحال في سوق سرسق، إذ كان أصحاب المحال يؤجّرون الأبواب في حينه، ووضعت “قلم البيك” في الجيبة الخارجية”، يقول ضاحكاً وهو يطلب منا رؤية القلم في الصورة التي تجمعه بعبد الناصر مسلّماً عليه باليد. تحققت هذه المصافحة لأن سليم اللوزي كان قد رتّب الزيارة، وسلّم أسماءهم مسبقاً إلى القيّمين على الرحلة، ما أتاح لهم المرور بين الحشود المخيفة لكثرتها “أمضى الناس ليلتهم على الأرصفة ليستيقظوا صباحاً ويكونوا أول من يرى عبد الناصر، الشرفات محجوزة، سطوح البنايات المجاورة كلها محجوزة. البشر نمل. نمل. شيء لا يمكنكم أن تتخيلوه إذا لم تروه. أعتقد أن نصف لبنان حجّ إلى الشام. على الأقل النصف، في السيارات، في الباصات، في الشاحنات وبعضهم ذهب سيرا على الأقدام”.
برفقة الشرطة العسكرية، وصل الزوّار إلى بوابة قصر الضيافة. “أتذكر منظراً لا أنساه، فتاتان تسلقتا سور القصر الحديدي وإحداهما كادت ترمي بنفسها من أعلاه لتصل إلى عبد الناصر. اضطرت الشرطة العسكرية إلى حملها، وأشار عبد الناصر بالسماح لها بالصعود. كانت حالات من الجنون. حبّ جارف. شيء خيالي”.
عندما دخلوا إلى قصر الضيافة وقفوا في صفّ طويل ليسلّموا تباعاً على أكبر قائد في المنطقة. “كنا في الطابور، سليم اللوزي وشفيق الحوت وأحمد شومان ونيازي جلول رسام الكاريكاتير وأنا ومحام اسمه جوزف خوري. عندما وصل دورنا، صار سليم اللوزي يعرّفه علينا، وهو يجامل كلّ منا بعبارة، لكنه تحدّث مع أحمد شومان عن معرفة. رحّب بنا بود، ونحن كنا مبهورين أننا نسلّم عليه. قال لي: “إزاي شطحاتك”، إذ أني كنت أكتب زوية اسمها شطحة في المجلة. فرحت كثيراً. هذه الجملة أعيش عليها سنة كاملة من دون طعام. سلّمنا وخلّصنا وبدنا نمشي، فقلت لشفيق الحوت ما رأيك لو نرجع ونسلّم مرة ثانية؟ انتبه عبد الناصر إلى أنه سبق له وسلّم علينا، فضحك وقال أهلاً وسهلاً”.
المصدر: صفحة البشير الاسواني