المساعي الأميركية والأوروبية تنطلق من كون التفكك الذي يهدد أديس أبابا قد تطال ارتداداته كل منطقة جنوب الصحراء الكبرى. إذ يبدو أن حرص الإدارة الأميركية الشديد على الوصول إلى تسوية سياسية في السودان مشوب بقدر كبير من القلق، في ظل الأزمات المتصاعدة في منطقة القرن الأفريقي، وعلى رأسها الوضع المتأزم في إثيوبيا الذي منيت فيه الدبلوماسية الأميركية بخيبة أمل كبيرة في وقف القتال وإعادة الطرفين إلى مائدة الحوار، خصوصاً في ظل الأزمات المتصاعدة في منطقة القرن الأفريقي، والاضطراب في دول أخرى مجاورة عدة. كما أنه يصعب الفصل بين التزام إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن بدعم ورعاية الديمقراطيات الناشئة حول العالم، لا سيما في أفريقيا، والجهد الأميركي الحثيث لاستعادة قطار التحول الديمقراطي في السودان إلى سكته الطبيعية، سيما وأن الدبلوماسية الأميركية لم تنجح في وقف القتال الإثيوبي – الإثيوبي المتصاعد وإعادة أطرافه إلى مائدة الحوار.
الانتكاسة والإحباط
وشكلت انتكاسة الشراكة الانتقالية في السودان ضربة محبطة ثانية بعد فشل جهود جيفري فيلتمان، مبعوث الولايات المتحدة إلى القرن الأفريقي في إثيوبيا، بعد أن فوجئ بانهيار مساعيه التوفيقية بين المكونين المدني والعسكري، في اليوم التالي لوصوله إلى العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، بإعلان القائد العام للقوات المسلحة في 25 أكتوبر (تشرين الأول)، وقد ظن أنه اطمأن على مسيرة التحول الديمقراطي في السودان قبلها بيوم واحد.
وجاءت زيارة مساعدة وزير الخارجية الأميركي للشؤون الأفريقية، مولي فيي، على عجل لتلافي مزيد من المضاعفات على صعيد انهيار تجربة التحول الديمقراطي في السودان، وظلت طوال الفترة من 14 إلى 16 نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي، في جولات تباحثية متواصلة مع كل فرقاء الشراكة الانتقالية المتصدعة، أكدت خلالها دعم وإصرار بلادها على إنجاح الفترة الانتقالية والتحول الديمقراطي في السودان، والاهتمام الشخصي للرئيس الأميركي جو بايدن بما يدور في الخرطوم وحرصه على الوصول إلى الديمقراطية المنشودة، على الرغم من إدانتها للعنف المفرط تجاه المتظاهرين السلميين بواسطة السلطة العسكرية الحاكمة الآن، ونفي الأخيرة لذلك.
وفي ظل الواقع الملتهب الذي تعيشه منطقة القرن الأفريقي، والتحذيرات التي أطلقها وزير خارجية أميركا أنطوني بلينكن من العاصمة الكينية نيروبي، بشأن تداعيات ما يدور في إثيوبيا على دول الجوار الإقليمي، كيف ستؤثر مجريات تلك الأحداث وتواصل المعارك في إثيوبيا على شكل التسوية المنتظرة التي يجري بحث تفاصيلها والإعداد لها بشأن أزمة الخرطوم؟ وأي صيغة توافقية جديدة، تلك التي تهمس بها الأوساط السياسية صوب (شراكة موسعة)، قد تفرضها مآلات الواقع الإثيوبي وتداعياته على المنطقة، التي تجعل ضمان تماسك الدولة السودانية أمراً ملحاً وضرورياً.
الحرب الإثيوبية
في هذا السياق، يعتبر عبدالرحمن أبوخريس، أستاذ السياسة الخارجية والتحليل السياسي في جامعات سودانية، أن الوضع في إثيوبيا بلغ درجة بات يهدد وجود الدولة الإثيوبية الموحدة وتقسيمها إلى دويلات عدة، وهو أمر سيكون له أثره البالغ على السودان ما لم يظل دولة متماسكة بحكومة قوية قادرة على التعامل مع ذلك الواقع الجديد في المنطقة.
ويرى أستاذ السياسة الخارجية أن استقرار القرن الأفريقي يرتبط باستقرار السودان كدولة محورية جيوسياسياً، وهو ما يفسر الإصرار الأميركي خصوصاً والغربي عموماً على ضرورة إنجاز التسوية السودانية، إذ تضع إدارة بايدن النموذج السوداني أمام كل دول القارة الأفريقية، بالتالي فإن فشله ينذر بفشل دبلوماسي مريع للولايات المتحدة، لا سيما وأنه قد يهزم أهم مرتكزات سياسة جو بايدن التي ستقوم عليها حملته الانتخابية المقبلة، وهو مشروع دعم الديمقراطية في أفريقيا.
ويتابع “لقد خسرت أميركا تجربة إثيوبيا، مسجلة بذلك انتكاسة كبيرة في وقف الحرب الإثيوبية، بالتالي فهي غير مستعدة لخسارة التجربة السودانية، وهو ما لن تحتمله إدارة بايدن أو تقبل به، لذلك نرى الحرص الدبلوماسي الأميركي بحركته وضغوطه الكثيفة التي تستخدم فيها التحالفات والآليات الدولية كافة للعودة إلى المسار المدني الديمقراطي وإنجاح العملية السياسية في السودان.
توازن القرن الأفريقي
ويعتقد أبوخريس أن المساعي الأميركية والأوروبية تنطلق من كون التفكك الذي يهدد الدولة الإثيوبية نتيجة الحرب المستعرة هناك، يهدد كل منطقة جنوب الصحراء الكبرى، وهو ما يفسر مخاوف الولايات المتحدة من انفلات عقال هذا الشريط ما يجعل كل المنطقة مسرحاً للحركات الإرهابية والمتطرفة مثل “بوكو حرام” و”القاعدة” وأنشطة الاتجار بالبشر والهجرة غير الشرعية، لا سيما وأن هناك اضطرابات في كل من جنوب السودان وأوغندا وكينيا، تجعل كل المنطقة مضطربة وهشة لتخرج بعدها تماماً عن السيطرة الأميركية ومعها كل القرن الأفريقي، علماً أن السودان وضعه وموقعه يجعلانه من أكبر وأكثر الدول قدرة على خلق التوازن المطلوب في المنطقة.
لذلك يرى أستاذ التحليل السياسي أن الولايات المتحدة تحرص مع حلفائها على ممارسة ضغوط كبيرة على المكون العسكري، بلغت درجة التهديد بتوقيع عقوبات على قادة الجيش، من أجل العودة إلى المسار الدستوري وحكومة عبدالله حمدوك بغرض إنجاح التجربة الديمقراطية، لكنها قد تضطر أيضاً إلى القبول بحلول وسط من أجل تعزيز التزاماتها بالتحول الديمقراطي.
ولا يستبعد أبوخريس قبول واشنطن بتسوية سياسية في السودان تعيد الحكم المدني حتى من دون رئيس الوزراء السابق عبدالله حمدوك، عوضاً عن الفشل النهائي في الحصول على كل ما تريده، لأنها لا تريد انتكاسة أخرى في السودان بعد تلك التي تكبدتها في إثيوبيا وإجلاء دبلوماسييها ورعاياها من العاصمة أديس أبابا. إلا أن مخاوف الفشل الكامل هي التي تدفع بأميركا إلى القبول بدور عسكري في إطار الحكم المدني الديمقراطي، والبحث عن حلول وسط ترضي كل الأطراف بما فيها حلفاؤها الإقليميون، لتطمئن على تماسك الدولة السودانية المحاطة بسبع دول لا تخلو من اضطرابات داخلية ومحيط هش وملتهب.
الشراكة المعدلة
كما لا يستبعد أيضاً، ضغط الولايات المتحدة على الطرفين للقبول بصيغة وسط معدلة عن الشراكة الأولى في ظل تمسك القائد العام بحوار شامل لكل القوى السياسية، وتوسيع قاعدة المشاركة، من دون الإصرار على العودة إلى ما قبل 25 أكتوبر الماضي. كما أنها قد لا تمانع تقديم تنازل أكبر لصالح المكون العسكري، تحت وطأة الحرص على الأمن القومي الأميركي كوضع يمكن أن يحقق قدراً من الاستقرار في السودان، سيما في ظل حالة الانقسام التي ما زالت تضرب القوى السياسية المدنية في “قوى الحرية والتغيير” و”تجمع المهنيين” اللتين لا تزالان تتقاتلان سياسياً، وتتبادلان الاتهامات في مقابل مكون عسكري متماسك ويتحدث اللغة نفسها والخطاب ولو ظاهرياً على الأقل.
ويربط أبوخريس الحرص الأميركي على التسوية السودانية في الدورة الانتخابية المقبلة لإدارة الرئيس بايدن، الذي من المرجح أن تواجه خصماً لدوداً وشرساً هو دونالد ترمب، وهو ما يرتبط بشكل كبير بفشل أو نجاح التجربة السودانية واستقرار هذا البلد الذي يشكل محور الاستقرار لكل هذا الشريط الحيوي في المنطقة وتماسك القرن الأفريقي عموماً، بل وكنموذج للتحول الديمقراطي في كل القارة الأفريقية.
ويعتبر أستاذ التحليل السياسي أن وجود أكبر سفارة أميركية من حيث المساحة والإمكانات والتجهيزات وعدد الدبلوماسيين، في المنطقة في ضاحية سوبا في الخرطوم، يؤكد أن السودان سيكون مركز النشاط الدبلوماسي في القارة الأفريقية، بخاصة بعد التشتت الذي ينتظر إثيوبيا إلى دويلات عرقية في ظل ما يكفله لها الدستور الفيدرالي.
تقاطعات دولية
من جانبه، توقع عصمت أحمد حسين، مدير مركز الدراسات الدبلوماسية، وأستاذ العلاقات الدولية في إحدى جامعات السودان، أن يفرض واقع الحرب في إثيوبيا قبول أميركا بتسوية سياسية جديدة، من خلال المبادرة الأخيرة لمساعدة وزير الخارجية الأميركي، مولي فيي، لا سميا بعد إعلان التحالف الجديد الزحف باتجاه العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، وأن السودان سيتحمل العبء الأكبر من حيث التداعيات الأمنية والعسكرية والسياسية وحتى الاقتصادية.
يوضح حسين، أن استقرار السودان في هذه المرحلة أمر حيوي وفي غاية الأهمية بالنسبة إلى واشنطن، يؤكده الاهتمام الأميركي منقطع النظير بما يدور فيه من أزمات، وحرصها على حماية الواقع الدستوري الذي أسهمت فيه وبدأت بتكريسه، وتعتبر ما يدور في إثيوبيا له انعكاسات مباشرة على السودان. وأشار إلى أن تصريحات بليكن في نيروبي تعكس الرغبة الأميركية بسودان مستقر بأسرع ما يمكن، الأمر الذي سيكون له أثره على صيغة التسوية المنتظرة قد لا تأخذ في الاعتبار العودة إلى ما قبل 25 أكتوبر، وتقود إلى طريق وسط لشراكة في منتصف الطريق بالنسبة إلى طرفي الشراكة الانتقالية، ما قد يسفر “وصفة جديدة للشراكة بين المكونين المدني والعسكري”.
وأشار عصمت إلى عوامل أخرى قد تعجل بالتسوية، منها بروز أدوار مقابلة للدور الأميركي، من كل من الصين وروسيا على المشهد السوداني من خلال رد الكرملين على الإجراءات التي أعلن عنها الجيش، ومطالبته جميع الأطراف بضبط النفس، ودعوته السودانيين لحل الأزمة بأنفسهم بأسرع ما يمكن من دون فقدان أي أرواح، فضلاً عن تعليق دميتري بوليانسكي، نائب المندوب الروسي لدى الأمم المتحدة، حول ما جرى في السودان بالقول “من الصعب الجزم ما إذا كان ذلك انقلاباً أم لا”، ومطالبته بوقف العنف من قبل الأطراف كافة، ويرى أن ما يحدث من احتجاجات ليست سلمية كلها، بل يتخللها العنف أيضاً، إلى جانب موقف الصين في مجلس الأمن الذي يعطي أيضاً إشارات بدخولها على خط التنافس من جديد، إذ أبدى مندوب الصين موقفاً محذراً من أن التدخلات الخارجية قد تزيد من تعقيدات الأزمة، في محاولة لإضعاف وإبعاد هيمنة الدورين الأميركي والأوروبي على المشهد السوداني.
عبء ثقيل
ويتابع “لاشك في أن الخرطوم ستتحمل عبئاً ضخماً من الحرب الإثيوبية، وما قد تسفر عنه في حال اجتياح التحالف الجديد لإقليم أمهرة والعاصمة أديس أبابا، تداعيات أمنية وعسكرية وسياسية وحتى اقتصادية، لافتاً إلى قنبلة من اللاجئين من عرقيات إثيوبية مختلفة، قد تفوق مقدرات السودان وطاقة المنظمات الدولية، تنذر بوضع كارثي في الولايات الشرقية ومناطق النيل الأزرق، من دون أن يستبعد دخول عناصر عسكرية وميلشياوية واستخباراتية مع المدنيين، وهو وضع سيكون فوضوياً ومقلقاً.
وكان الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة الانتقالي، قد أعلن في 25 أكتوبر الماضي، حال الطوارئ وحل مجلسي السيادة والوزراء وإنهاء الشراكة مع “قوى الحرية والتغيير”، وعطل عدداً من مواد الوثيقة الدستورية، كما أعفى ولاة الولايات ووكلاء الوزارات، مؤكداً في بيان على التلفزيون الرسمي أنه سيشكل مجلساً تشريعياً (برلماناً ثورياً) من شباب الانتفاضة، وحكومة كفاءات مستقلة (تكنوقراط)، مؤكداً في الوقت ذاته حرصه على الوصول بالفترة الانتقالية إلى نهاياتها بإجراء الانتخابات العامة في موعدها في يوليو (تموز) 2023.
لكن المواقف الدولية والإقليمية والتظاهرات والمواكب الجماهيرية الحاشدة التي خرجت في الداخل، المستمرة منذ 30 أكتوبر حتى اليوم، ظلت تطالب بالعودة إلى الوضع الدستوري والحكم المدني، رافضة إجراءات القائد العام للجيش، التي تعتبرها بمثابة انقلاب عسكري، فيما لاتزال الوساطات والدعوات إلى الحوار مستمرة للوصول إلى حل للأزمة.
المصدر: اندبندنت عربية