مزقت الحرب على سورية غطاء الأوهام السميك، المهلهل والمتعفّن، الذي راكمت نسيجه العطن حقبة مظلمة من العسف والقهر والتضليل، أمسك بقرنيها نظام مافيوي تمّ استيلاده في غرف سوداء يمتهن قاطنوها حرفة إبادة المجتمعات واغتيال أحلامها الإنسانية وتطلعاتها المستقبلية المشرقة.
لقد أظهرت أحداث السنوات العشر الماضية ومجرياتها مدى التحلل الذي أصاب بنية المجتمع السوريّ الفتيّ خلال حكم عصابة آل الأسد ومشغليه وشركائه الكثر، وكشفت عن عمق الشروخ وتعقيد الأزمات التي تعترض مسار أبنائه لاستعادة وطنٍ مختطف بات في عداد المفقودين، ولعلّ عديداً منهم قد يشارك في التأبين بعد أن تلقى بلاغاً رسميّاً بإعدام هذا الوطن أو بوفاته جرّاء القهر والتعذيب.
وفي حين تسعى الحكومات الحائزة على مشروعيّة تسنّمها لمقاليد السلطة في بلدانها إلى إزالة معوّقات التطوّر والنموّ والرفاه، وإلى تعزيز مفهوم المواطنة وقيمها لدى شعوبها، تبذل سلطات الأمر الواقع كلّ الجهود الممكنة لهدر إمكانيّات الدولة ونهب ثرواتها، وتبديد طاقات أفرادها لتعزيز سلطتها المؤبدة عبر هدم أسس وجود الدولة ذاتها وتدمير مقوّمات بقائها، وتشييع جثمانها في موكب مهيب قوامه الخرافة والأوهام، تتقدمه مصفوفات الشعارات الكاذبة حول اللحمة الوطنية والوحدة والعيش المشترك، وعن التقدم والاشتراكية والصمود والتصدي للإمبريالية، وعن أسطورة المقاومة والتحرير وغير ذلك من عبارات مستنقعة مزروعة في كهف التخلّف والجهل كي تحصد العبوديّة والذلّ والخراب والموت.
أدّى توحّش السلطة الأمنية والإفساد المنظم إلى تقهقر الأبنية المؤسسية للدولة ومن ثمّ انهيارها، ولم يقتصر التفكك والانقسام وانحلال عرى المجتمع السوريّ على التمظهرات الطائفية والإثنية والعقديّة إنما تعدّاها إلى البنى السياسية والثقافية والاقتصادية، بل طال حتى الخليّة الأساسية المكونة له، ونقصد هنا الأسرة بمعناها الأضيق، وصولاً إلى ضياع البوصلة لدى الفرد والتشظي الذي وجد طريقه مرصوفاً ومعبّداً فتمكن من روح أغلبهم ومن عقله وقلبه.
إنّ مصادرة الحياة السياسية وتدمير الأحزاب وتغوّل السلطة الأمنية والعسكرية واحتكارها للعمل السياسي والنقابيّ، وتجريم الانتماء إلى حزب معارض أو مجرّد العمل في إطار المجتمع المدني وتداول أفكاره ومفرداته، أدى إلى اندثار القوى الوطنية التقليدية وإلى استحالة ولادة تشكيلات جديدة منظمة وفاعلة، كما إنّ تصفية القيادات المعارضة وشراء الذمم وتكريس الفرديّة النرجسية وقيمها النفعيّة، كان مانعاً من ظهور نخب مؤثرة ذات رصيدٍ اجتماعيّ تحظى بالمصداقية والثقة يمكن لها أن تمارس دوراً في أيّ تغيير منشود أو تحوّل محتمل.
لقد أفاق الثوّار السوريّون على مشهد من الرعب المجلجل والحقائق الصادمة المفجعة، سواء فيما ارتبط ببنية النظام المافيوية وتحالفاته القذرة، وبتبني العالم المختلّ ودعمه له، والتغاضي عن جرائمه الوحشيّة، وحرصه على بقائه واستمراره، أو بما تعلق باكتشافه لهول الفساد المجتمعيّ ولاحتضار قواه اليائسة البائسة، ولمدى توهّمه بقيامة الشعب الذي اعتقد بوجوده ونادى بواحديته.
نعم كان مصاب السوريين في ثورتهم عظيماً فيما لحق بهم من تقتيل واعتقال وتعذيب واغتصاب، وأذى وأضرار وتهجير على أيدي جزّاري الطغمة الحاكمة وحلفائها الإقليميين والدوليين، لكنّ مصيبتهم الأخطر هي في تذررهم، وفي عدم وجود قيادة ثوريّة وطنيّة حقيقية ومشروع وطنيّ جامع.
إنّ تحرير سوريّة من المحتلّ وأدواته القذرة يتطلّب إرادة السوريين وإخلاصهم، واجتماعهم على رؤية مشتركة للخلاص من الطغيان بكل تجلياته، ووعياً استثنائيّاً بالواجب الوطنيّ والتاريخيّ يتجاوز الأحقاد، ويترفّع عن الصغائر، ويعلي من شأن قيم الحرّية والكرامة والعدالة، ولعلّ أولى الخطوات العملية لتجاوز مأساتهم والمأزق الذي وصلت إليه ثورتهم هي في التوافق على صيغ ملائمة لتظهير قيادة منزّهة تحترم آلامهم وتقدر تضحياتهم، مؤمنة بحتمية انتصار الثورة ومقاصدها النبيلة، تستبعد من صفوفها القوى الحربائية والشخصيّات الطارئة ذات المآرب الانتهازية التي لم تكتف بالاستثمار على الدمّ والدمار لتحصيل مكاسب شخصية سلطوية وأيديولوجية رخيصة، بل وأوغلت في الارتهان إلى القوى المناوئة لمطالب السوريين المحقة وفي تدنيس الصورة النقية للثورة.
المصدر: اشراق