وسط إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب حالة طوارئ واعتبار نظيره الفرنسي ماكرون أن بلاده “في حالة حرب”، كان الجزائريون لا يزالون ينتظرون خطابًا من الرئيس المعيّن حديثًا عبد المجيد تبون. وكان التأخير بمثابة مؤشر على التحديات الخاصة التي تواجهها الجزائر عند التعامل مع الفيروس – فقد سبق أن واجهت هذه الدولة الشمال أفريقية ظروفًا استثنائية خلال السنة الفائتة في ظل نزول ملايين الجزائريين بشكل متكرر إلى الشوارع للمطالبة بتغيير سياسي جذري، كما أن الانشقاقات الاجتماعية والسياسية تساهم في زيادة تعقيد قدرة البلاد على الاستجابة بفعالية لهذا الخطر.
وأتى تفشي هذا الوباء ليفصّل الطبقات المختلفة والمعقدة لمجموعة التحديات الكبيرة التي تواجهها البلاد، وكان بمثابة اختبار للنخبة الاجتماعية والسياسية في الجزائر في ردها على أولى الأزمات المهمة للنظام السياسي ما بعد بوتفليقة. وفي ظل هذه الكارثة الجديدة، لا شك في أن التعامل مع هذا الوباء سيغيّر الجزائر تمامًا كما فعل “الحراك”.
فيروس كورونا: العدو المفاجئ للنظام السياسي
وصل فيروس كورونا إلى الجزائر في وقت يشهد فيه النظام السياسي في البلاد عدم استقرار وضعفًا، بعد أن أثبت عدم قدرته على إيقاف حركة احتجاجية تدخل الآن في شهرها الرابع عشر. ورغم محاولة النظام إعادة تأكيد الاستقرار من خلال تعيين الرئيس الجديد عبد المجيد تبون، واجهت هذه السلطات نفسها صعوبات مع شعار “الحراك” المعارض “يتنحاو قاع” (أي ليرحلو جميعًا) الذي يدعو إلى رحيل كافة شخصيات النظام.
في النظام السياسي الجزائري، يُعتبر الرئيس “أب الدولة”، وهي صورة تهدف إلى منحه الشرعية الشعبية الضرورية لاتخاذ قرارات صعبة وغير شعبوية. غير أن المقاطعة الكبيرة للانتخابات الأخيرة تُظهر أن تبون لا يمثل أكثر من 20 في المائة من الناخبين الجزائريين. وفي ظل هذا الدعم الضعيف وحركة معارضة كبيرة تواصل رفض الاعتراف به كقائد سياسي، لا يمكن لتبون تجسيد هذا المثال على نحو يصدّق؛ فهو يفتقر إلى الشرعية الضرورية للاضطلاع بدور مماثل.
فضلًا عن ذلك، يعتبر الكثير من الجزائريين استجابة الدولة لفيروس كورونا بمثابة اختبار لسياسات النظام القائمة منذ العقود الخمسة الماضية وليس مجرد مسألة تحاكي أزمة معاصرة. ويمثل ردّ الدولة إزاء فيروس كورونا نموذجًا مصغرًا لسياسات الموازنة وللنموذج الاقتصادي وأولويات التنمية والكفاءة والإرادة السياسية.
لكنّه من الواضح أن الدولة تعجز عن اعتماد آلية دفاعية فعالة في وجه الفيروس. وتجلت هذه الإخفاقات أساسًا حين أعلنت الحكومة عن أولى الإصابات بفيروس كورونا في البلاد. واعتقد المواطنون العاديون وحتى “شخصيات المعارضة” الذين دعموا “الحراك” أن هذا الإعلان كان جزءًا من خدعة صممها النظام إما لوقف الحركة الاحتجاجية أو لتحقيق هدف سياسي آخر.
وفاقم غياب الرئيس عن الساحة العامة خلال هذه الفترة الحساسة الاستياء الشعبي من الحكومة، فيما عتّم غياب التواصل الحجم الحقيقي لتفشي الوباء. وحين تجلى الخطر على نحو متزايد، كان الجزائريون يجهلون كيفية الاستجابة إليه ويعيشون حالة نكران من حيث طبيعة الخطر الحقيقية على السواء.
ولم يُعِد الشعب تقييم الوضع إلا حين علّقت الحكومة بعض الرحلات القادمة من مناطق محددة على غرار روما؛ ولكن حتى في ذلك الحين استمر وصول الرحلات إلى الجزائر من فرنسا التي ينتشر فيها الفيروس بشكل كبير، ما يشير إلى أن هذا التدبير لن يحول بأي فعالية خاصة دون انتشار الفيروس.
ومن بين الذين أصبحوا يعتبرون أن الفيروس يطرح خطرًا، لا يثق الكثيرون منهم بتقارير الحكومة حول استعدادها الطبي للتعامل مع الفيروس. وصحيح أن تبون أعلن أن عدد الأسرة في وحدات العناية المركزة في الجزائر يبلغ 2500 سرير، يفترض الكثيرون أن القدرة الفعلية أدنى بكثير مما تصرّح به الحكومة – فقد أعلنت المصادر الطبية بشكل منفصل أن عدد وحدات العناية المركزة لا تتخطى المئتين في البلاد. وتبيّن هذه الحادثة أكثر فأكثر انعدام الثقة بين الشعب والحكومة، على الرغم من الانتخابات التي شهدتها البلاد في الآونة الأخيرة.
وما يثير القلق على نحو مماثل هو الأثر المحتمل لتفشي الوباء على النموذج الاقتصادي المتزعزع أساسًا في الجزائر. فقد دفع مزيج مميت من السفر العالمي المحدود إلى حدّ كبير إلى جانب حرب أسعار في غير وقتها بين السعودية وروسيا بأسعار النفط إلى أدنى مستوياتها منذ 17 عامًا. ولا شكّ في أن الجزائر، التي تعتمد بشكل كبير على قطاع النفط والغاز، هي من بين أكثر الدول التي ستعاني. وتأتي سياسات الموازنة التي تنتهجها الدولة منذ عدة سنوات، والتي أعطت الأولوية لقطاع الدفاع في البلاد على حساب قطاعات الصحة والتعليم والأبحاث العلمية، لتفاقم مشكلة الإيرادات المتدنية. وعليه، يواجه العديد من الجزائريين الخيار المستحيل المتمثل إما بعزل أنفسهم أو المخاطرة بتلقي العدوى لتلبية حاجياتهم، وسط توقعات محدودة بحصولهم على مساعدة من الحكومة.
وكان التواصل السيئ بين الدولة والشعب بشأن تفشي الوباء والتدابير المناسبة للتصدي له قد أثبت مرة جديدة عدم قدرة السلطات الجزائرية على التصرّف حين تدعو الحاجة وتردد الرئيس باتخاذ تدابير صارمة – حتى عندما تكون ضرورية – بسبب انعدام ثقة الشعب الكبير بالدولة. ويمكن أن تترتب على مثل هذه التدابير تداعيات محتملة كبيرة على الشريحة الأكثر تأثرًا في المجتمع. وفي الوقت الذي شهدت فيه الجزائر حركة معارضة مهمة – “الحراك” – عانى المحتجون هم أيضًا في مسعاهم لتوفير ردّ بديل مقنع للفيروس.
حين لا تصبح الاحتجاجات الفعلية بالنزول إلى الشارع ممكنة
خلال العام الماضي، أصبحت الحركة الاحتجاجية الجزائرية من بين الأمثلة القليلة عالميًا على نزول ملايين المحتجين إلى الشوارع ضد نظام استبدادي من دون سقوط عدد كبير من الإصابات. الآن وبعد أن أصبح حركة أوسع نطاقًا من الاحتجاجات الأسبوعية المنظمة يومي الثلاثاء والجمعة، ميّز “الحراك” نفسه من خلال هيكلية “قيادية” متطورة ومختلفة وغير مألوفة. مثل العزل الذاتي الضروري لمحاربة فيروس كورونا الاختبار الأكبر للحركة منذ أيامها الأولى من احتجاجها ضد بوتفليقة. وصحيح أن المحتجين حافظوا على وحدتهم واستمراريتهم، غير أن الوباء أرغم الحراك على مواجهة معضلة، حيث أن الدفاع عن دولتهم أصبح يعني تعليق مظاهراتهم.
هذا وسبق وواجه “الحراك” انتقادات بسبب طبيعته التي تفتقر إلى قائد، حيث تمثل الجهات الفاعلة التي يحترمها “الحراك” توجهات إيديولوجية مختلفة لهذه الحركة ولكنها لا تشكّل هيئة حاكمة واحدة. واعتبر البعض أنه لا يمكن لـ”الحراك” المشاركة في مفاوضات ناجحة مع النظام الجزائري من دون هيكلية قيادية واضحة ومترابطة. لكن واقع أن الحركة لا تمثل موجة إيديولوجية محددة بل هي مستوحاة من إيديولوجيات متعددة، بدءًا بالأفراد الأكثر تحفظًا من المجتمع الجزائري وصولًا إلى الأفراد المعتدلين والتقدميين، ساهم في تعقيد المساعي لإيجاد صوت تمثيلي.
مع ذلك، تشير استجابة “الحراك” للأزمة إلى أن الحركة الاحتجاجية في الجزائر منظمة بطريقتها الخاصة. فقد عزّز عدد من الجهات الفاعلة التي يحترمها “الحراك”، وكلّ منها من خلفية محددة، الوعي حيال خطر الاستمرار في تنظيم الاحتجاجات ضمن دوائرها الإيديولوجية. وعليه، دعت بعض الجهات الفاعلة الاجتماعية والسياسية الرئيسية في الحراك – بمن فيها كريم طابو ومصطفى بوشاشي وعبد العزيز رحابي و”التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية” والمنظمات الطلابية – إلى تعليق “الحراك” كردّ لاحتواء تفشي الفيروس.
وفي ظل هذا الابتعاد عن الاحتجاجات الفعلية بالنزول إلى الشارع بعد مرور أكثر من عام على الجهود المستمرة، اكتست وسائل التواصل الاجتماعي أهمية أكبر. ففي حين أن وسائل الاعلام التقليدية في الجزائر تخضع لسيطرة الحكومة، تعمل منصات على غرار “فيسبوك” و”تويتر” و”إنستاغرام” كوسائل إعلام وأدوات بديلة ينشر من خلالها الناشطون ما يريدون قوله. لا شكّ في أن هذه الخطوة ليست تكتيكًا جديدًا – فقد قيل وكُتب الكثير عن دور وسائل التواصل الاجتماعي خلال انتفاضة “الربيع العربي” التي انطلقت في العام 2011.
لكن أثبتت وسائل التواصل الاجتماعي الآن فعاليتها في وقف الاحتجاجات كتدبير احترازي ردًا على تفشي فيروس كورونا. وأدّت الحملات على هذه الوسائل من أجل تعليق “الحراك” بشكل مؤقت إلى إجماع واسع النطاق على ضرورة مثل هذه الخطوة. وأصبحت مقاطع الفيديو المباشرة عبر “فيسبوك”، بدلًا من مصادر الإعلام التقليدية، الوسيلة المقصودة لمناقشة سبل مواجهة الفيروس.
ويشير ردّ “الحراك” إزاء تفشي الوباء إلى أن الحركة الجزائرية تتمحور حول محرّك أكبر من مظاهراتها الأسبوعية. فقدرة “الحراك” على اتخاذ قرارات سريعة وعملية خلال انتشار وباء تبيّن أن المظاهرات هي في الواقع أداة لقوة دافعة مجتمعية أوسع نطاقًا – وهي صحوة الوعي الجماعي وتغيّر النماذج التي تحدّد معالم الجزائر.
وقبل الخطر الذي يطرحه فيروس كورونا، كانت الحركة بمثابة قوة تتفاعل إزاء اقتراحات الحكومة وطلباتها. أما الآن، فتدفع حدة الخطر بالحراك إلى لعب دور قيادي إلى جانب الحكومة. فـ”الحراك” يعدّ العديد من مبادرات التضامن، ويوفر المساعدة المالية للشريحة الأكثر تأثرًا ويلجأ إلى تدابير للحجر المنزلي الطوعي. وبالفعل، أعاد “الحراك” تحديد معالم سردية تطال كافة أرجاء البلاد ويعود تاريخها إلى استقلال البلاد عام 1962، وهي سردية ينتظر بموجبها المواطن مساعدة الدولة. واليوم، إن العكس صحيح: فيلعب المواطن دور قيادة البلاد. ومن هذا المنطلق، بدا “الحراك” أنه أكثر من مجرد قوة سياسية، بل هو أداة إشراك مجتمعي، مغيرًا بالتالي مفهوم أن تكون مواطنًا جزائريًا.
بروز انقسامات مجتمعية
تمامًا كما يسلّط فيروس كورونا الضوء على جوانب النظام الجزائري و”الحراك” على السواء، إنه يكشف في الوقت نفسه العديد من الانقسامات المجتمعية التي اتسمت بها الجزائر طيلة عقود. ورغم حملات التوعية، ستستدعي السيطرة على الوضع تدابير حجر منزلي متشددة. وبما أن الدولة طورت نمطًا من سلوك الرعاية الأبوية، تبين أن المجتمع الجزائري بحاجة للإرشاد المستمر بشأن الخطر القائم وهو عاجز عن اتخاذ مبادرات خاصة.
وكان بعض المحافظين الدينيين الجزائريين رفضوا جهود الحكومة لتطبيق التباعد الاجتماعي. وعندما قررت الحكومة إقفال المساجد بشكل نهائي، هبّ واجب معارضة هذه الخطوة في نفوس بعض الجزائريين، بمن فيهم بعض “المشاهير”، انطلاقًا من المبادئ الدينية. ورغم أن المحادثات بشأن دور الدين في الدولة معقدة للغاية في الجزائر بسبب دور الحركات الإسلامية في الحرب الأهلية المطولة في تسعينيات القرن الماضي، تشير هذه المقاومة إلى أن الجزائريين لا يزالون متمسكين بمبدأ التحفظ الديني التقليدي. وتثير هذه الواقعة أيضًا احتمال أن الجزائريين – إن كانوا سيصوتون بحرية – قد يوصلون إلى السلطة مرة أخرى حزبًا إسلاميًا معتدلًا أقل عنفًا ربما إنما ليس أقل تطرفًا من “الجبهة الإسلامية للإنقاذ”.
علاوةً على ذلك، ساهمت الانقسامات الطبقية في المجتمع الجزائري بدورها في تعقيد الاستجابة للفيروس. ومن العوامل التي جعلت الحكومة ترجئ فرض تدابير تقييدية كانت التداعيات الاقتصادية الهائلة على الشعب، ولا سيما بعد زوال قسم كبير من الطبقة المتوسطة في البلاد. وفي حين أن الطبقة العليا قادرة على التأقلم مع التدابير الضرورية لوقف انتشار الفيروس، إلا أن الطبقة الدنيا الكبيرة في البلاد لا يمكنها الصمود إن تمّ فرض حظر تجوال في البلاد من دون تقديم مساعدات مالية – وهو تحذير للمستقبل بأن مثل هذا الانقسام الصارخ موجود.
لكن الأزمة أظهرت اتجاهًا إيجابيًا واحدًا في المجتمع الجزائري، وهو انخراط الشباب. في حين أن تأثير الفيروس على الكبار في السنّ أكبر حتمًا، ينخرط الشباب الجزائريون بنشاط في العديد من المبادرات على غرار صناعة الكمامات وتعقيم الشوارع لمساعدة أبناء وطنهم، ما يُظهر أن مورد البلاد الحقيقي هو شبابها وليس قطاع الموارد الهيدروكربونية.
فيروس كورونا هو الإنذار الأخير للجزائر
تستجيب كل دولة لتفشي فيروس كورونا بأسلوبها الخاص. لكن بالنسبة للجزائر، يُعتبر هذا الخطر– إلى جانب التحديات ونقاط الضعف السياسية والاجتماعية التي برزت في مساعي التوصل إلى استجابة – الإنذار الأخير لفهم ما سيحصل في حال لم يتمّ حل الأزمة السياسية التي تتخبط بها البلاد قريبًا. ويُثبت تبون أنه يفتقر إلى تفويض الشعب الضروري لإدارة الأزمة الصحية بفعالية، ولا حتى الأزمة الاقتصادية التي ستليها. ولن يكون من المفاجئ أن يتسبب فيروس كورونا بإنهاء ولايته بعد تفشي المرض أو حتى خلاله.
وفي حين أن قدرة “الحراك” على تعليق احتجاجاته ملحوظة، سيتمثل الاختبار التالي الذي سيواجهه في ما إذا كان يستطيع العودة إلى الشارع بفعالية بعد انحسار الخطر. وأصبح واضحًا الآن أن الاحتجاج يومين في الأسبوع لن يكون كافيًا – إذ يشير احتجاج إضافي نُظّم أيام السبت مباشرة قبل تعليق المظاهرات، وقوبل بتدابير قمعية متشددة بشكل استثنائي، إلى أن “الحراك” يحاول تكييف استراتيجياته.
وحتى عندما يصبح الاحتجاج آمنًا مجددًا، لا يمكن للحركة أن تستعيد وضعها القائم قبل فيروس كورونا. فبإمكانها إما التصعيد وممارسة المزيد من الضغوط على الحكومة، أو التخفيف من حدةّ التصعيد، وفي هذه الحالة ستزول تدريجيًا. وسيتوقف المسار الذي سيسلكه “الحراك” على قدرته على تنظيم صفوفه والاضطلاع بدور البديل لاستجابة النظام غير المرضية إزاء تفشي المرض. وإن كانت أساليبه غير المألوفة من القيادة غير المتجانسة ناجحة في الحفاظ على دعم مختلف التيارات الإيديولوجية في الجزائر، يمكن أن يكتسب شعبية ويعود إلى الشوارع بقوة أكبر. وبما أن عيوب النظام الحالي تتضح أكثر فأكثر بعدما أصبح يرزح تحت وطأة الوباء، سيعتمد مستقبل الجزائر بشكل متزايد على ما إذا كان “الحراك” سيكون على قدر المسؤولية ويوفر بديلًا قابلًا للتنفيذ على أرض الواقع.
المصدر: معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى