كان بإمكان أي سياسي، أو اقتصادي، أو مفكر متبصر أن يتوقع انهيار الدولة السورية، ليس الأمر تنجيماً، ولا هو ضرب من ضروب الخيال، إنه ببساطة شديدة نتيجة حتمية لطريقة إدارتها الفاشلة، وقمع مواطنيها، وهدم مقومات تطورها، ونهب اقتصادها.
في قراءة تاريخ الدول المنهارة، يُمكننا أن نجد أن عاملاً واحداً قد لا يؤدي إلى انهيار الدولة، فالأزمة الاقتصادية تضعف الدولة، وكذلك الحرب، والأزمات الاجتماعية أو السياسية التي تطول، كلّها تضعف الدولة، لكن قد تتغلب إرادة الشعب في هذه الدولة وقيادتها على هذا الضعف، إن أُديرت أزمتها بمسؤولية عالية، ووعي لظروف وأدوات الخروج منها.
ما حدث في سوريا، هو أن من حكموا سوريا لعقود طويلة، تجاهلوا متعمّدين الأزمات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية التي رسخوها ثم فاقموها، ولم يعترفوا لحظة واحدة بعمقها، ومدى خطورتها، وأداروا ظهورهم لها، وعندما انفجرت، اختار هؤلاء أكثر الأدوات خطورة لمعالجتها، ولم يبحثوا عن حلول تناسبها، وكانوا تجسيدا حقيقيا لأسوأ صنف من الساسة، فوضعوا مصالحهم الشخصية والفئوية فوق مصالح شعبهم وبلادهم. واعتبروا المجتمع السوري عدواً لهم، وذهبوا إلى خيار قمعه، وتفتيته وإضعافه.
ولأن لموقع سوريا السياسي والاقتصادي أهميته الفائقة، ولأن الأطراف الدولية تدرك جيداً هذه الأهمية، وتدرك أيضاً أن إصرار نظام الأسد على انتهاج طريق القمع، سيؤدي لا محالة إلى إضعاف الدولة والمجتمع، فقد كان متوقعاً أن تستغل هذه الأطراف أزمة الحكم المستعصية، وطريقة معالجتها، وأن تقتنص فرصة سوريا الضعيفة والمتصارعة، لتتدخل فيها كمقدمة لفرض وجودها، ومن ثم شروطها السياسية.
أدت ثورة الشعب السوري، وطريقة إدارة نظام الأسد للمستجدات التي ولدتها هذه الثورة، إلى تفجر أزمات أخرى، فبدأ انهيار المجتمع، ثم الاقتصاد، وبدأت الدولة الهشة أصلا بالانهيار، وهكذا راح البنيان السوري يتداعى بكامله، وللأسف فإن أحداً ممن كانوا في مراكز القرار لم يتجرأ – أو يتمكن في حال افتراض وجوده – على الوقوف في وجه الإدارة المجنونة للصراع في سوريا، وطرح حلول قادرة على وقف هذا الانهيار.
تسبب الانهيار الذي شمل كل أركان الدولة والمجتمع بأخطر عاملين يهددان وجود الدولة وهما: الاحتلال الخارجي، وتفتت المجتمع، فلم يعد بإمكان الجهة المتسلطة عليها أن تبقى دون الاستقواء بقوى الخارج، ولم يعد بإمكان من يتعرضون للموت، سوى البحث عمن يوقف زحف هذا الموت إليهم، وهكذا بدأت جحافل الميليشيات والقوى الخارجية بالتوافد إلى الأرض السورية، لتصبح سوريا بكاملها مشاعاً للقوى الخارجية الباحثة عن مصالحها، في وطن يُساق إلى انهياره المحتوم.
لم تعد الدولة السورية مصدر أمن لكل مواطنيها، لا بل كانت بوضوح عدوّة لهم بهذه الصيغة أو تلك، الأمر الذي دفع السوريين إلى الانصراف عنها، والبحث عن أنظمة بديلة، أنظمة يمكن لها أن تعوّضهم فقدانهم لدولتهم السابقة، وأن تُشكّل لهم ما اعتقدوا أنه قادر على حمايتهم، وهكذا تصدّرت بدائل ما قبل الدولة، كالطائفة والقبيلة والعشيرة والتصنيفات الأخرى، خياراتهم لأنها موجودة وحية في أذهانهم، ولأنها أيضاً الأقرب زمنياً لهم، ولأنها – وهو الأهم – أن الدولة المتسلطة التي حكمتهم لعقود اشتغلت طويلا، وبمنهجية متعمدة على إنعاش وتعزيز هذه الأنظمة البديلة.
هذا ما حدث في العراق أيضاً، عندما تعمّدت أطراف دولية، وفي مقدمتها أميركا وإيران منع قيام دولة عراقية حديثة، لا بل خططت ودعمت قيام دولة عاجزة، وسمحت بهيمنة الأنظمة الأقل كفاءة ووطنية، والأكثر تبعية وارتباطاً على الدولة ومؤسساتها، وهذا ما سوف يحدث في لبنان، إن استمر حزب الله في مشروعه الطائفي المُدار من الخارج.
يبدو السيناريو العراقي هو السيناريو المرجّح تبنّيه في دول شرق المتوسط، فالدولة العاجزة الفاسدة التابعة ضمانة أكيدة لاستمرار تخلف هذه المنطقة، واستدامة تبعيتها ونهبها، وهذا ما تتصارع من أجله الأطراف الدولية، وهذا ما تحارب بضراوة من أجله دول كثيرة، فليس من المنطقي أن نفسّر ذهاب دول كبرى، مثل الصين وروسيا إلى استعمال حق النقض الفيتو 16 مرة من أجل الإبقاء على نظام متهالك تابع لهما.
اليوم تقف شعوب هذه المنطقة بكاملها أمام مفصل بالغ الخطورة في تاريخها، فإمّا أن توقف انحدارها نحو تلاشي الدولة، وإحلال “القبيلة” محلها، وتبدأ رحلة عودتها من “القبيلة” إلى الدولة، أو أن تذهب إلى خرابها الذي لا رجعة منه، ولن يكون ناجعاً الذهاب إلى شكلانية الدولة الظاهري، المترافق مع بنية قبلية، عشائرية كامنة فيها، فالدولة الحديثة بمقوماتها الكاملة هي الضمانة الوحيدة لخروج شعوب هذه المنطقة من مأزقها الراهن.
لا يشمل التخوّف من انهيار الدولة فقط، تلك النماذج التي تفجرت فيها أزماتها القديمة المستعصية، ولم يجد أبناؤها سبلاً لحل هذه الأزمات، بل يهدد أيضاً الدول التي تبدو في الظاهر مستقرة، لكنها مأزومة في بنيتها العميقة، إذ إن أي دولة تتجاهل ضعف أحد مقومات استمرارها قد تتعرّض للانهيار، وليست الشيخوخة السياسية أو الاستبداد السياسي، وانعدام العدالة هي ما تهدد هذه الدول فقط، بل إن انهيار التعليم، وتوقف الإبداع العلمي، وانهيار الثقافة، والتحول إلى دولة تعتاش على علوم وثقافة غيرها، وتحول أفرادها إلى مجرد أفراد تنحصر حياتهم في الطعام واللباس والمسكن، كل هذا يعني أن هذه الدولة ميتة، رغم أنها لا تزال تبدو حية.
لا بدّ للسوريين اليوم من أن يبدؤوا بمغادرة الـ”القبيلة” متجهين إلى الدولة الحديثة، التي ترتكز في جوهرها على العدالة والمواطنة المتساوية، قبل أن يلجوا مرحلة الانحلال التي لا عودة منها.
ملاحظة: أقصد بالقبيلة، كل الصيغ المجتمعية التي سبقت ظهور الدولة الحديثة.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا