نغم حيدر روائية سورية متميزة، هذا اول عمل أقرأه لها. أعياد الشتاء، رواية تتحدث عن واقع لجوء فتاتين سوريتين في احدى الدول الاوربية، ذلك على خلفية ثورة الشعب السوري على النظام المستبد، بدء من عام ٢٠١١م. تعتمد الرواية اسلوب المتكلم لكل من الفتاتين شهيناز و راوية، كل منهما يتحدث في مقاطع متتالية، عن واقع حياتهما اليومية في لجوئهم، غرفة تجمعهما في مجمع للاجئين أوجدته الدولة الأوروبية، تدرس واقع من جاءها، عبر جلسات مع قضاة يدرسون حالات اللجوء، ويتخذون بحقهم القرار المناسب، البعض ينتقل للاقامة لسنوات حيث ينخرطون في في تعلم اللغة والعمل والحياة في تلك الدولة.
شهيناز فتاة في مقتبل عمرها، تعيش في مركز اللجوء مع فتاة أخرى اسمها راوية، غرفة صغيرة فيها سريرين يعلوان بعضهم، لكل واحدة سريرها، الوقت شتاء وفي ليلة رأس السنة، الثلج متراكم خارج الغرفة، البرد شديد. سيحتفل شهيناز وصديقها فهد وزميلتها في الغرفة برأس السنة في الغربة بشرب قنينة من البيرة تحت ندف الثلج بجوار الغزلان المنارة التي تُصنع وتوزع في المدينة بمناسبة رأس السنة من كل عام. شهيناز على موعد مع صديق لها خرج معها في اللجوء من سورية، اسمه فهد. شهيناز تعمل في الدعارة، وفهد من يؤمن لها زبائنها، الواضح انهما يعرفان بعضهما من السابق، وكانت مهنتها الدعارة منذ حياتها السابقة في سورية وهو مشغلها منذ زمن بعيد. شهيناز فتاة من دمشق، منذ وقت بعيد اخطأت جنسيا، هربت من بيت اهلها، طلبت من امها الصفح والمسامحة، لكن الام لعنتها وتبرأت منها. كان طريق الدعارة منتهاها، تلقفها فهد الشاب ذو الحدبة القواد الذي يعرف طريق المسؤولين والضباط واصحاب رؤوس الاموال، كان يقدم لهم شهيناز كعاهرة متميزة وجميلة، شهيناز كانت عاهرة تحب مهنتها، وتعرف كيف تصطاد زبائنها وتجعلهم يغدقون عليها، تألقت في سوق الدعارة حتى طلبها أحد اكبر ضباط الامن اسمه قتيبة، الضابط المهاب القاسي في فرعه الذي يديره والمجرم الدموي مع المتظاهرين ومع الناس عموما. كانت شهيناز واحته التي يستدعيها الى وكره الامني او الى شقته السرية، ليطفئ نار وحشيته في شهيناز، التي تفننت في استدعاء ساديته وتوحشه، عبر جنس متنوع يغلب عليه العنف الجسدي، ضحيته شهيناز والبطل فيه الضابط قتيبة. كان قتيبة يمر بأسوأ أيامه، صحيح انه يتصرف كإله في فرعه ومع المعتقلين والمتظاهرين ومع الناس عموما. لكن الثورة أنهكته، وخاصة عندما أصبحت مسلحة، وظهر الجيش الحر، الذي وضع قائمة محاسبة وتصفية بحق قتلة الشعب السوري، كان قتيبة منهم، استهدف الثوار موكبه وهو متوجه مع اسرته الى الساحل السوري، حيث بلدته واهله، وهذا مؤشر على طائفته العلوية، واجهوه واطلقوا النار عليه وعلى عائلته وقتل ابنه الأصغر. جن جنونه وأخذ يبحث عن من سرب معلومة حركته وانتقاله للقرية، كل حركاته سرية وهو يكاد يعيش في قلعة امنية، لا بد ان هناك من هو قريب منه قد خانه، انصبت شبهته على شهيناز، التي استدعاها وكبلها في أدوات تعذيب كانت قد اهدته اياها، وبدأ يعذبها ويحاول معرفة ما اذا اخبرت احدا عنه وعن حركته، كانت بريئة وهو توحش في تعذيبها انتقاما من قتلة ابنه، عذبها حتى فقدت الوعي وتسلخ جسدها، تركها بين الحياة والموت. استدعى مشغلها فهد وأمره أن يأخذها ويذهب في لجوء الى دولة اوربية. فهد امتثل للامر فهو بحقيقته عنصر امني من الطائفة العلوية ايضا، يغطي نفسه بصفته قوّاد يدير دعارة شهيناز وشبكة زبائنها. هكذا خرجا إلى البلد الاوربي، وها هما يعيشان في مخيم القدوم يقدمان طلب لجوء الى تلك الدولة، قدم نفسه على أنه من طائفة النظام علوي لكنه يعمل مع الثوار والجيش الحر، لذلك هرب خوفا من بطش النظام ومن أن يقتلوه ان وصلوا اليه، وأنه يحب شهيناز الفتاة الدمشقية المنتمية للثورة والتي قتل واعتقل بعض أهلها وهم ضحية النظام وحربه على الثورة والثائرين واهاليهم. فهد استمر في مهنته القوادة واستطاع أن يؤمّن لشهيناز بعض الزبائن، لكن بخفية عن الدولة الاوربية، لان ذلك مخالف للقانون، وان عُرف يحاكم ويسجن ويسفّر هو و شهيناز، المستاءة مما تعيش، تحن الى الضابط قتيبة وتسأل عنه دوما، فهد يخبرها ان لا عودة لها إلى سورية مطلقا، وهو سيعود لأن مهمته قد انتهت، بحث لها عن فرص عمل كثيرة لكنها رفضتها كلها. يجب أن تتعلم لغة الدولة الأجنبية اولا، لكنها لم تستطع أن تقبل تحولها من اميرة ومعبودة كل الرجال الى مجرد عاملة تستهلك وقتها وصحتها لتعيش حياة باردة في بلاد البرد.
رواية فتاة مختلفة ابنة حي التضامن الذي شارك أهله بالثورة. والدها انسان بحاله، هي الابنة الكبرى في البيت ولها اخوين توأم صغار. بعد الثورة السورية ومشاركة اغلب احياء دمشق وضواحيها وريفها بالثورة، كان والدها قد سمح لبعض المتظاهرين الفارين من الأمن الذي يلاحقهم بالدخول الى بيته واخفاءهم، وكانت النتيجة اعتقاله، وانقطاع أخباره، وعندما زاد الوضع سوء في سورية وبدء النظام في حملة قتل وتهجير السوريين وتدمير بلدهم، هربت راوية عبر البحر إلى أوروبا، استطاعت النجاة بروحها، والاستقرار في هذا البلد الأوروبي، راوية كانت مدرّسة موسيقى واحبت مدرسا مثلها، تعيش هواجسها الانثوية كفتاة تحتاج لحب وحنان واشباع جسدي وبيت واسرة، لكن اللجوء اجّل كل الموضوعات. هي الان في هذا المخيم تعيش مع شهيناز في غرفة صغيرة، لا تعرف عنها شيئا، لكنها تراها تهتم بمظهرها كثيرا، وتخرج كل يوم ولا تعود الى المساء، تستغرب هذه العلاقة الملتبسة بين شهيناز وفهد، وعندما تسألها تجيبها انه قريبها وحاميها في الغربة. تعمل راوية على أن تمر بمراحل طلب اللجوء بسلام حتى تبني حياتها في هذا البلد، تتواصل مع امها دائما. أمها التي تجمع المال وتدفعه إلى سماسرة يعدونها بالإفراج عن والدها، او مشاهدته. راوية تستاء من امها، تخبرها ان اباها قد قتل، وتسألها ألم تري ماذا فعل النظام بسورية وشعبها ؟!!. لكن الأم لا تيأس، وتبقى تطلب من ابنتها مزيد من المال من أجل إعالة إخوتها والبحث عن أبيها، كانت راوية توفر بعض اليوروهات من معونة اللجوء الذي تحصل عليه وتبعث الى امها. لا تلومها على ما تفعل، ليس امام امها الا الامل ان تجد اباها ويعود لأسرته التي تحبه. راوية تحتاج للحب ككل انسان وتحتاج للرجل النصف الآخر، تكمل به ومعه انسانيتها، تعرفت على لاجئ مثلها في مجمع اللجوء؛ عرفان الشاب الذي أصبح طبيبا منذ وقت قريب، غامر مع عائلته كلها عبر البحر واستطاع الوصول إلى هذا البلد. وجد هو و راوية ببعضهما تلبية لحاجة نفسية وانسانية، تبادلا الاعتراف بالحب مع بعض اللمسات والقبل وتواعدا ان يبنيا حياة جميلة بعد اكتمال إجراءات اللجوء والاستقرار في البلد الأوربي. لكن عرفان يختفي دون أي أثر وخبر؟!، وتعود راوية الى انتظارها، وتحصل على حق الاقامة لثلاث سنوات، لتتعلم اللغة وتتقن عملا ما ومن ثم تكمل حياتها الجديدة المفتوحة على كل الاحتمالات.
تنتهي الرواية وشهناز ورواية عند هذا المفترق من حياتهم.
في تحليل الرواية نقول:
هذه الرواية الاولى التي أطلع عليها و التي تتعاطى مع موضوع اللجوء السوري في بلد اوربي كنموذج، تغوص في ثنايا المعاش الذاتي والعام. نجحت الكاتبة بالغوص عميقا في ذاتية بطلاتها، كانت الشفافية النفسية والمعاشة مهيمنة على النص، بحيث تعطيه حيوية ومصداقية مؤثرة ومعبرة. لم تقترب الكاتبة من حال الثورة السورية والشعب بشكل مباشر أو استعراضي. لقد لامست الموضوع بما هو منعكس على نفسيات وحياة بطلاته وحياة اهلهم. لكن القارئ سيقرأ ما حصل في سورية ومع شعبها ومن نظامها، سواء بالمسكوت عنه او المذكور بالمباشر، الضابط قتيبة والعاهرة شهيناز ومشغلها المخبر ومن ورائها النظام المستبد القمعي بكليته هو صورة عن الجانب القذر والمسيء والمدمر للمجتمع السوري، الذي استدعى الثورة، هؤلاء أعداء الشعب، حاضرين حتى في اللجوء، كامتداد للنظام وتغلغله في وسط اللاجئين، للاستخدام حين الطلب. أما راوية فهي صورة عن الشعب الفقير البسيط الذي ثار، هي المعلمة الأخلاقية التي تحلم بالحب والحياة الأسرية والإشباع النفسي والجسدي الحلال. الأب البسيط الطيب دائم الصمت حنّ على المتظاهرين وآواهم وكان مصيره الاعتقال والاختفاء وربما القتل، راوية التي هربت بنفسها، وأصبحت موردا لحياة أهلها في سورية عبر إمدادها لهم بقليل من المال. كانت تستاء من امها ومطاردة امل انقاذ الوالد، لكنها في آخر الرواية عادت وطلبت من امها ان تستمر بالبحث عنه. انتصرت انسانية راوية، كما انتصرت انسانية كل الشباب السوري الثائر عندما خرجوا ضد القهر والظلم والاستبداد والفساد لتحقيق الحرية والكرامة والعدالة والديمقراطية والحياة الأفضل، خرجوا وهم يعرفون انهم قد يدفعون حياتهم ثمنا لذلك وقد دفعوا، وأنهم قد يطردوا من البلاد ويدفعوا للجوء الى بلاد اخرى، وحصل ذلك أيضا…
إنه الشعب السوري العظيم.
لغة الرواية جزلة جميلة صادقة تنفذ لأعماق النفس بكل سلاسة وتكمل الصورة براحة وتجعلنا نقرأ ما وراء النص وكأننا نطلّ على شمس الصباح تنير الدنيا وتسطع بالحقيقة وان كانت قاسية. نعم كل هذه المشاعر تستدعيها هذه الرواية الجميلة.