محمود عمر خيتي، روائي سوري متميز، هذه اول رواية اقرأها له، رواية “الشفق الأبيض” هي الثانية من ثلاثيته “الرواية الشامية”.
تعتمد رواية الشفق الأبيض الصادرة عن دار الاتقان في اسطنبول، ٢٠١٩م على أسلوب السرد بلغة المتكلم من بطل الرواية حسام الشامي، والتي يتحدث فيها عن مرحلة سابقة بقرن ونصف تقريبا من الآن. يبدأ من عودة د. حسام مع صديقه د.عادل على ظهر سفينة من فرنسا إلى حيفا في فلسطين، ومن هناك يتوجهان كل الى مدينته، حسام الى مدينة القدس وعادل الى مدينة الرملة الفلسطينيتين. حصل ذلك في عام ١٨٨٥م، في ذلك الوقت كانت فلسطين ضمن بلاد الشام مع اغلب البلاد العربية، تحت الحكم العثماني، كلها بلاد واحدة ممتدة من اسطنبول عاصمة الخلافة الى بلاد الشام ومصر وغيرهما في كل امتداد. كان د. حسام أستاذ للدكتور عادل في يوم ما، لكنهم الآن زملاء في مهنة الطب، هم الوحيدين من فلسطين من دعتهم القنصلية الفرنسية الى فرنسا للمشاركة في مؤتمر طبي. لفت نظرهم وهما على سطح السفينة ان هناك شخصين أجنبيين يلاحقانهم و يراقبانهم. استغربا ذلك، توقعا أن يكونا لصّين، استمرا بالحيطة والحذر. بعد ذلك وجدا ان غرفتيهما قد فُتشتا وبُعثرت اغراضهما، لكنه لم يسرق لهما شيء. في الأمر غرابة، من يترصدهما ليسوا لصوص؟!!. وصلا الى حيفا ومنها كل الى مدينته. عاد د. حسام الى منزله وعيادته بعد غياب استمر خمسين يوما. حسام الرجل الستيني الذي يعرفه اغلب اهل القدس، انه طبيب الفقراء، يعاين كل من يأتيه، والفقير لا يأخذ منه، وقد يدفع للبعض منهم ثمن علاجه. يحبه الناس وهو يحبهم، علاقاته بمن حوله حميمية، يعيش مع ما تبقى من أسرته مكونة هو وزوجته وابنته الصغيرة هاجر في بيته في القدس، أما ابنه الكبير فقد درس الطب كوالده في الأستانة (اسطنبول) ثم استقر في بيتهم في دمشق. وعمل طبيبا هناك. تزوج من قريبته وأنجب الاولاد وعاش هناك. الدكتور حسام أصله من دمشق لذلك لقب د.حسام الشامي. والده كان ضابطا في الجيش العثماني، استشهد في احد المعارك. ابنه الآخر ارسله للدراسة في مصر، ولديه ابنتين ايضا زوجهما من اقربائه في الخليل. يتعلق د. حسام روحانيا في مدينته القدس، له زيارات دورية الى قبة الصخرة، ويصلي اغلب اوقاته في المسجد الاقصى، منزله قريب من الجامع العمري، اصدقاؤه الأقرب إليه هم: شيخ المسجد الاقصى، وخوري كنيسة القيامة في بيت لحم، شارك بأعمال خيرية كثيرة منها إدارة مأوى للأيتام مع مركز صحي ومدرسة لهم. لاحظ د. حسام -مع مرور الوقت- أن هناك غرباء كثيرون يأتون الى القدس ويسعون لشراء بيوتها من فقراء القدس. معتمدين على التحايل والتهديد والترغيب والترهيب في كل الأوقات، لاجبار الناس على بيع بيوتهم، خاصة منهم الفقراء والضعفاء. اكتشف وجود الرجلين الذين التقاهم في السفينة في القدس، وأنهم جزء من عصابة تسعى لشراء البيوت في القدس، اكتشف ان الموضوع اكبر من رغبات فردية، انهم مدعومون من الانكليز، لقد حاولوا رشوة د. حسام حيث دعوه ليكون رئيسا لمشفى سيبنوه. رفض د.حسام ذلك، واستمر في عيادته مع اهله وناسه، لا يريد الابتعاد عن اهله وناسه، لم يكن يوما يفكر بالمال والجاه والمناصب، كل من حوله يحبه، وهو يساعد الكل. كان ودودا مع الكل بدء من العامل الذي يساعده في عيادته، إلى اصدقائه: مسؤول الميتم، وشيخ الأقصى ومسؤول الاوقاف، و خوري كنيسة القيامة، هذا غير المئات ممن عالجهم عبر عشرات السنين، ومعهم أهل القدس وجيرانه واقرباؤه. لفت نظر د. حسام هذه الهجمة الشرسة على شراء البيوت والأراضي في القدس وما حولها. اكتشف اهم يشكلون عصابة تعمل بشكل متكامل. تخترع حوادث غريبة لتوهم الناس بوجود شياطين في القدس ليبيعوا بيوتهم ويهجروها، يُهددون الناس بالقتل، يسممون صديقه مسؤول الميتم ويموت. ينشؤون ويساعدون عصابات السطو والقتل، يوظفوها لقتل الناس وارعابهم، لجعلهم يبيعون أراضيهم وبيوتهم. كل ذلك لاحظه د. حسام وعمل على مواجهته، مع شبكة اصدقائه. لقد دعموا بعض الفقراء و ساندوهم في مواجهة العصابة، رمموا بيوتهم، وأخبروا السلطات العثمانية بحقيقة ما يحصل، واستطاعوا أن يقدموا ادلة جرمية على افعال العصابة، ووصلت الى العدالة، اعتقلوا، كل ذلك بمتابعة دائمة من د.حسام. لكن افواج جديدة من الغرباء المتعطشين لشراء بيوت القدس والأراضي المجاورة لها ما زالوا يأتون. عاش د.حسام عمره كله يواجه هذه الهجمة على كل الجبهات، هو والسلطات العثمانية المسؤولة وشبكة اصدقائه الواسعة، لكن الامر كان اكبر منه، ومن امكانياته المتواضعة. يستمر د. حسام في عيادته يعالج المرضى ويساعد الفقراء منهم. يداوم د.حسام على تدوين يومياته، حول كل ما يحصل معه، كانت زوجته ترعاه، وابنته الصغيرة هاجر تراقب والدها، وتتعلم منه حب القدس وترصد كل شيء. أولاده ينجحون في حياتهم، كل في مكانه، سيعود ابنه الذي في مصر بعد نهاية دراسته، ويتزوج من ابنة صديق والده الذي كان يعشق الكتب يشتريها ويبيعها. استقر فترة في مصر وسيعود ثانية إلى القدس.
ستنتقل الرواية في السرد حوالي الخمسة وعشرين عاما الى الامام حيث يكون د. حسام قد اصبح عمره فوق الثمانين، وتستلم ابنته هاجر التدوين بعده، لا تتزوج، تتفرع لوالدها ووالدتها المعمّران. يستمر د. حسام حاضر الذهن، ينهض احيانا لمتابعة العمل في عيادته، التي توسعت وأصبح فيها ثلاثة أطباء يعملون بشكل دائم. تتابع هاجر ابنة د. حسام قصص والدها وسرد أسراره التي لا تنتهي، يخبرها عن الكنز من المعلومات والوثائق التي كان جدها قد دفنها في جوار جدار في بيتهم، حيث نقب والدها ووجد صناديق تحوي هذه الكنوز المعرفية. وفي أواخر عمر د. حسام جمع اولاده واحفاده كلهم، أبلغهم وصاياه، حول استمرار ترابطهم ورعاية امهم، واستمرار ارتباطهم بالقدس وحمايتها، لقد زاد حضور الغرباء وتملكهم فيها. إنهم يحاصرون القدس وفلسطين ويودون الهيمنة عليها. رحل د. حسام عن الدنيا بعد ان قام بدوره في الحياة في سنوات مديدة معطاءة. هنا تنتهي الرواية.
وفي تحليلها نقول:
٠ اننا امام رواية طويلة ٤٥٥ ص من القطع الكبير، ممتلئة بالحكايات والعبر، سلسة، جذابة، فيها تشويق كبير، تعتمد أسلوب السرد المتابع للأحداث والوقائع، سهلة التناول والفهم، يقرأها الكبير والصغير دون اي إحساس بالصعوبة أو التعقيد.
٠ الرواية مسكونة بالحس التاريخي للزمان التي كتبت به، تتحدث عن القدس وفلسطين والشام ومصر ضمن الخلافة العثمانية، لا يظهر حضور السلطة العثمانية إلا بما يستوجبه الحدث الروائي، وأن الحكام العثمانيين كانوا متوائمين مع أهل القدس، حول أهمية القدس بجميع مقدساتها الإسلامية والمسيحية، المسجد الأقصى وقبة الصخرة وكنيسة القيامة، سنكتشف أن المسؤولين في كل المرافق هم أهل البلاد، العثماني الوحيد هو رئيس الشرطة، رمز السلطة هناك. سيحافظ العثمانيين على الأماكن المقدسة، حيث نلاحظ في الرواية أنهم يعتقلون العصابة التي اعتمدت القتل وترويع الناس واخافتهم لإجبارهم على بيع أراضيهم وبيوتهم. ونذكر هنا أن السلطان عبد الحميد الثاني رفض مرتين قبول طلب ممثلي الحركة الصهيونية العالمية أن يسمح لليهود أن يهاجروا إلى فلسطين ليبنوا دولتهم الصهيونية. لذلك كانوا يعتمدون الأساليب الملتوية والغير مباشرة للمجيء الى فلسطين والقدس والشراء فيها. الرواية تشير الى مرحلة كان الغرب قد قرر فيها أن يزرع كيانا يهوديا صهيونيا في فلسطين، بدأ ذلك منذ حملة نابليون على مصر، وبعده الغرب الأوربي كله، ما قبل الحرب العالمية الأولى، التي بدأت في عام ١٩١٤م وما بعدها، وفي عام ١٩١٧م وعد بلفور الوزير البريطاني الصهاينة أن يعطيهم فلسطين وطن قومي لليهود. كان الصهاينة قبل ذلك قد بدؤوا يتغلغلوا في فلسطين بشكل خفي بعد رفض السلطان عبد الحميد أن يهاجروا الى فلسطين. وعند انتهاء الحرب العالمية الأولى وسقوط الخلافة العثمانية واستعمار البريطانيين لفلسطين، الذين رعوا حملة هجرة كبيرة لليهود من جميع انحاء العالم الى فلسطين عبر عقدين ونصف من الزمن، بحيث كانت نسبة اليهود في فلسطين أيام خروج الإنكليز من فلسطين ما بين ٣٠ الى ٤٠ بالمئة من سكان فلسطين، ودعمهم الصهاينة ليعلنوا دولتهم عام ١٩٤٨م، رغم أنهم كانوا ما قبل هذه الهجرة لا يزيدوا ٤ بالمئة من السكان. الرواية تريد ان تذكرنا بأصل واقع القدس وفلسطين قبل أن يقرر الغرب ان يسلبنا إياها وكيف عمل بدأب على ذلك وحقق مراده. على الاقل الى الآن.
٠ في الختام الرواية تذكرنا بماضينا في جزء من بلادنا بلاد الشام وهو فلسطين، وهي وإن ركزت على ذلك التاريخ، فهي تعطي انطباعا أن الغرب لم يرفع يده عن منطقتنا العربية منذ أكثر من قرنين. وان ما حصل معنا كعرب كان دائما محكوما بخططهم عندما كانوا مستعمرين مباشرة لبلادنا. وانهم استمروا مسيطرين على الانظمة التي حكمت بعد التحرير. الأنظمة تابعة لهم بالشكل المباشر وغير المباشر. حاربت الانظمة الوطنية المنتمية لقضايا الشعب، ودعمت الانظمة التابعة له، الظالمة للشعب المستغلة له والمستبدة به. ووليس آخرها حينما قدم الغرب خشبة الخلاص للنظام المجرم التابع لها في سورية ومنعته من السقوط، وعمته ليقتل الشعب السوري ويدمر البلد، وسمحت له ان يتسبب بملايين الشهداء والجرحى والمصابين والأيتام والمعتقلين والمشردين، وساعدت النظام أن يستمر حاكما على أرض خراب وشعب عبيد…
الرواية توحي أن معركتنا مع اعداءنا التاريخيين الغرب والانظمة التابعة له. قديمة ومستمرة.
النصر للشعوب وحقها بالحرية والكرامة والعدالة والديمقراطية والحياة الأفضل …
ولو طال الزمن وكثرت التضحيات.