الاتصال العلني الذي تم مؤخراً بين بشار الأسد وولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد كان متوقعاً، كما كان هو الأمر بالنسبة إلى الاتصال الذي حدث بين الأول والملك الأردني عبدالله الثاني؛ وذلك بناء على المقدمات والتحركات والتسريبات التي سبقت الاتصالين. ومن المتوقع أن تكون هناك اتصالات أخرى علنية بين رأس النظام السوري ومسؤولين عرب آخرين وغير عرب؛ خاصة أن اتصالات علنية على مستوى وزراء الخارجية ومسؤولي الأجهزة الأمنية قد تمت بين النظام ودول عربية وغير عربية في أماكن عدة. وما يفسر ذلك هو تبدل أولويات الدول بناء على المتغيرات والتطورات التي حدثت منذ بدايات الثورة السورية آذار (مارس) 2011، وحتى يومنا الراهن، خاصة في الأعوام الأخيرة.
وقد تمثلت تلك المتغيرات في تعاظم الدور الروسي في الملف السوري، مقابل تراجع الاهتمام الأمريكي، وذلك بموجب التفاهمات التي تمت بين الطرفين عام 2015؛ وهي التفاهمات التي أدت إلى التدخل الروسي المباشر، وتقسيم ميدان العمليات السوري بين الجانبين في شرق الفرات وغربه بناء على حسابات القوتين. فبينما ركّز الروس على المنطقة الساحلية، لتأمين الوجود الروسي البحري في شرقي المتوسط، مع ما يستوجب ذلك الوجود من تفاهمات مع كل من إيران وإسرائيل، ركز الأمريكان على المنطقة الشمالية الشرقية لأهميتها بالنسبة لدورهم وتأثيرهم في الوضع العراقي الذي ما زال ينتظر التوافقات أو الخلافات التي قد تكون بين الأمريكان والإيرانيين بخصوص الملف النووي الإيراني، والدور الإيراني في المنطقة (سوريا ولبنان والعراق واليمن).
كما أن الدخول التركي العسكري المباشر، في عدد من مناطق الشمال والشمال الغربي، قد أثر هو الآخر في تغيير الموازين والمعادلات.
ومنذ الدخول الروسي القوي على خط التأثير في الملف السوري بُذلت جهود كبيرة من جانب الروس في سبيل إفراغ مسار جنيف من محتواه عبر فتح مسار آخر، والعمل بصورة مستمرة من أجل إفراغ بيان جنيف 1، 2012 من محتواه، وهو البيان الذي اعتمد مرجعية للمفاوضات بين النظام والائتلاف التي بدأت في جنيف عام 2014؛ وهي المفاوضات التي بدأت بخلاف في التفسير بين الجانبين الروسي والأمريكي حول دور بشار الأسد في المرحلة الانتقالية ومستقبل سوريا.
فبينما كان الروس يطالبون منذ بداية المفاوضات بضرورة إعطاء الأولوية لملف الإرهاب، وكانوا يروجون لفكرة ضرورة تضافر جهود النظام والمعارضة لمحاربة الإرهاب؛ هذا في حين أن الجميع كان يعلم بأن بضاعة الإرهاب كانت نتيجة لحرب النظام، بل أسهم الأخير في صناعتها وتسويقها ليضع العالم أمام بديلين فاسدين: إما الإرهاب أو الاستبداد والفساد. وأذكر في هذا المجال أن وفد المجلس الوطني السوري إلى نيويورك عام 2012 وضع هذه الاحتمالية أمام الجانب الأمريكي، وذلك قبل ظهور جبهة النصرة وداعش، وذلك استناداً إلى معرفته بتوجهات وممارسات النظام السابقة، وفي ضوء استرتيجيته التي اعتمدها منذ اليوم الأول للثورة، وهي الاستراتيجية التي يبدو أنه كان قد استعد لها مع انطلاق الربيع العربي في تونس عام 2010.
وعلى الرغم من الاهتمام الدولي الكبير بالملف السوري منذ البدايات، وهو اهتمام كان بفعل الثورة السلمية التي عمّت مختلف المدن والبلدات السورية، وتجسد في تشكيل مجموعة أصدقاء الشعب السوري، والاعتراف بالمجلس الوطني السوري، ومن ثم العمل على توحيد المعارضة من خلال مؤتمر القاهرة 2012 الذي أصدر وثيقتين هامتين، هما (وثيقة العهد الوطني) و(وثيقة الرؤية السياسية المشتركة لملامح المرحلة الانتقالية). وبغض النظر عن الملاحظات التي كانت حول الوثيقتين، نرى أنهما ما زالتا تعدان من أفضل الوثائق التي أنتجتها المعارضة السورية بغالبية أجنحتها وتوجهاتها.
ومما ينبغي التذكير به في هذا السياق هو أن القوى المؤثرة ضمن مجموعة أصدقاء الشعب السوري خاصة الولايات المتحدة الأمريكية ضغطت في ذلك الحين باتجاه تشكيل لجنة تحضيرية لمتابعة العمل على الوثيقتين وتسويقهما، ومن الواضح أن الهدف الأساس كان يتمثل في تجاوز المجلس الوطني السوري، لأسباب لسنا بصدد تناولها هنا، والانتقال إلى جسم سياسي جديد، وهو الأمر الذي تمثل لاحقاً في الائتلاف. إلا أن الذي كان يستوقف هو أن القوى ذاتها التي أصرت على تشكيل الائتلاف، وأسهمت في تشكيله تحت شعار توسيع دائرة تمثيل المعارضة وتبنّي الوثيقتين، لم تضغط على الائتلاف ليلتزم بالوثيقتين. كما لم تلتزم الدول ذاتها بالوعود التي أطلقتها من جهة دعم الائتلاف والاعتراف القانوني به، ولم تلتزم أيضاً بحماية جهود الحكومة المؤقتة في المناطق المحررة ودعمها لا سيما من النواحي الدفاعية والقانونية.
ومنذ الأيام الأولى لانطلاقة مسار المفاوضات في جنيف عام 2014، بل وقبلها، تلمسنا عدم جدية مقنعة من جانب مجموعة أصدقاء سوريا في احترام إرادة السوريين المطالبين بالتغيير، بل كانت هناك سياسة غض نظر واضحة إزاء الجرائم الكبرى التي كان يرتكبها النظام بحق السوريين، ومنها القصف الكيماوي في الغوطة، والقصف المستمر ببراميل البارود على المدن والبلدات الثائرة.
ومع تشكل المنصات العديدة هنا وهناك بدعم وتشجيع من القوى الدولية والإقليمية تبين بصورة جلية وجود رغبة دولية لتفتيت العمل المعارض، والاكتفاء بواجهات تمثيلية تُستخدم عند اللزوم، بينما يبقى القرار الفعلي بيد الدول. وقد أسهم العديد من السوريين بكل أسف ضمن المعارضة المدنية والعسكرية لأسباب شخصية، وأخرى شللية أو حزبية في تسهيل مهمة من كان يعمل من أجل ذلك التفتيت. وكان مسار أستانا 2017، وكانت المصالحات وعمليات قضم المناطق المحررة، وتمكين النظام من السيطرة عليها بدعم مباشر من الروس والإيرانيين والميليشيات.
أما المناطق التي ظلت خارج إطار سيطرة النظام فقد أصبحت خاضعة للنفوذين الأمريكي والتركي، في حين أن منطقة الجنوب كانت خاضعة للمعادلات التفاهمية بين كل من روسيا وإسرائيل والأردن حتى تم تسوية وضعها مؤخراً بموجب الضغوط التي مارسها الروس على الأهالي، وعادت قوات النظام نتيجة ذلك إلى المنطقة ملتزمة بالشروط الإسرائيلية، ومن دون أي التزام بشروط التسوية التي كانت بين الأهالي والروس.
وكانت تلك التسوية مقدمة للاتصالات والتصريحات والتوافقات التي تمت بخصوص نقل الغاز من مصر إلى لبنان وعبر الأردن وسوريا، وذلك إلى جانب فتح الحدود بين الأردن وسوريا أمام الحركة التجارية بعد تطبيع العلاقات.
ومن الواضح أن مشروع الغاز لم يكن له أن يتم لولا الموافقة الأمريكية، وهي موافقة تفسر إلى حد كبير المتغيرات العلنية في الموقف العربي الرسمي من نظام بشار الأسد؛ خاصة بعد التصريحات الأمريكية التي أعلنت بوضوح عن عدم وجود رغبة لدى الولايات المتحدة الأمريكية في تغيير النظام، وإنما الاكتفاء بتغيير سلوكيته. هذا على الرغم من الحديث الذي يدور من حين إلى آخر حول ضرورة حدوث انتقال سياسي ملموس يلبي مطالب السوريين. ولكن في الواقع العملي نتلمس تراجعاً لافتاً عن المواقف التي كانت. ومن هذه التراجعات ما نسمعه حول صيغة جديدة من الحل في سوريا «تتماشى» مع القرار الأممي 2254 الذي هو الآخر «يتماشى» مع بيان جنيف 1، ولا يتطابق معه.
كما أن تصريحات المبعوث الأممي غير بيدرسون بخصوص «الإصلاح الدستوري» قد أثارت الكثير من اللبس والاجتهادات والتأويلات، التي ربما لا يعنيها أو لا يحتملها التصريح نفسه. فبعد أن تمكّن سلفه ستيفان ديميستورا، بالتفاهم مع الروس بالدرجة الأولى، من استبدال اللجنة الدستورية بهيئة الحكم الانتقالي، ها هو بيدرسون يتحدث عن مفهوم الإصلاح الدستوري المبهم الحمّال للأوجه. هذا مع تيّقن الجميع من أن الموضوع الدستوري في الحالة السورية لا يقدم أو يؤخر من جهة ضبط سلوكية النظام أو تغييره، ما زال رئيسه يخوّن أكثر من نصف الشعب السوري، ويتوعدهم ويهددهم بسيوف الإيرانيين والروس.
وكان من اللافت أن تتزامن اجتماعات الجولة الأخيرة السادسة في جنيف مع عمليات التفجير والقصف التي شهدتها مناطق دمشق وإدلب والتنف، وهي اجتماعات باتت وسيلة لرفع العتب وكسب الوقت، وإعادة ترتيب الأوراق من جانب القوى الدولية والإقليمية المعنية بالملف السوري.
فبينما يستمر الانفتاح العربي الرسمي على النظام من دون أي مؤشر يوحي بإمكانية ابتعاده عن الإيرانيين، هناك تصريحات تركية تهدد باجتياح جديد لمناطق في الشمال السوري ذات الغالبية الكردية، والهدف المعلن هو إبعاد خطر حزب العمال الكردستاني المتمثل في الواجهات السورية، وذلك في أجواء برودة العلاقات مع الجانب الأمريكي، والحديث حول تباينات مع الجانب الروسي.
وما يستنتج من هذا كله هو أن موضوع التوافقات حول ترتيب الأوضاع في المنطقة كلها، وفي سوريا تحديداً، لم يكتمل بعد رغم جملة المؤشرات التي تبين بأنها قد قطعت شوطاً كبيراً. غير أن المتيقن منه في هذا السياق هو أنه إذا استمرت أوضاع المعارضة السورية على ما هي عليه راهناً، فإن أي تسوية دولية – إقليمية حول سوريا لن تأخذ في اعتبارها حجم وشناعة الجرائم التي ارتكبها نظام بشار الأسد، ولن ترتقي إلى مستوى ضخامة التضحيات غير المسبوقة التي قدمها السوريون من أجل واقع أفضل، ومستقبل واعد لأجيالهم المقبلة.
*كاتب وأكاديمي سوري
المصدر: القدس العربي