استحكمت حلقات الأزمة السودانية جراء الخلافات التي يبدو أنها كانت مدفونة وتفجرت في أعقاب الانقلاب الذي قيل انه وقع يوم 21 ايلول/سبتمبر، ليشتد الخلاف بين المدنيين والعسكريين جراء اتهام تحالف الحرية والتغيير للمكون العسكري انه يريد تقويض التحول الديمقراطي، وانه يقف خلف مجموعة الأزمات التي تحيط بالحكومة من البنى الأمنية وأزمة شرق السودان التي قادت لإغلاق الميناء. وبعد تلاسن المكونين الذي استمر نحو أسبوعين تفجر الخلاف هذه المرة داخل تحالف الحرية والتغيير نفسه الذي انقسم إلى مجموعتين يختطفان اسم الحرية والتغيير، واحدة تتهم المجموعة الأخرى بأنها أربعة أحزاب تسيطر على الحكومة وتحتكر السلطة، لذا هي نهضت من أجل الإصلاح وتدعو لتوسعة قاعدة المشاركة في السلطة، والثانية تتمسك بأنها الأصل وان دعوة الإصلاح وتوسعة المشاركة ماهي إلا غطاء للانقضاض على التحول الديمقراطي وجعل يد العسكريين هي العليا والطولى في إدارة البلاد والتحكم في الحكومة وأنها حلقة أخيرة من حلقات الانقلاب وان الدعوة لحل الحكومة التي يرفعها الشق الآخر ما هي إلا تلبية لرغبة العسكريين.
وإثر هذا الخلاف الذي استمر لنحو أسبوعين احتكم كلا الطرفين إلى الشارع، حيث دعت مجموعة «ميثاق التوافق الوطني» إلى موكب يوم 16 تشرين الأول/أكتوبر والذي انتهى لاعتصام أمام القصر الرئاسي يدخل أسبوعه الثاني هذا الأسبوع، وقوامه من منسوبي حركة تحرير السودان قيادة مني مناوي حاكم إقليم دارفور المعين حديثا، وحركة العدل والمساواة قيادة جبريل إبراهيم وزير المالية المقبلة من دارفور أيضا، إلى جانب قوى الإدارة الأهلية وزعماء القبائل من أنحاء السودان كافة الذين دفعوا بأهاليهم إلى الاعتصام الذي ينشط فيه طيف واسع جدا من عناصر النظام القديم بواجهاته المختلفة ومفصوليه بقرارات لجنة إزالة التمكين .
فيما شارك الفصيل الأصل من الحرية والتغيير لجان المقاومة في المواكب التي دعا لها الأخير يوم 21 تشرين الأول/أكتوبر وهي المواكب التي خرج فيها أعداد تقدر بنحو مليون شخص في جميع أنحاء السودان، ما أعاد جذوة الثورة إلى الاشتعال رغم مرور عامين ونصف مع الإقرار بأن الذين خرجوا يوم 21 تشرين الأول/أكتوبر ليسوا داعمين لتحالف الحرية والتغيير الغالبة في الحكومة بقدر ماهي خرجت لتأكيد رغبتها في التحول الديمقراطي والحكم المدني، وقسم كبير منهم يدعون للتخلص من العسكريين بشكل كامل وفض الشراكة ويصب جام غضبه على التحالف الحاكم معتبرا إياه فرط في العدالة ويشوب أداءه في الحكم سوء كبير .
لجنة إزالة التمكين
لتحرير الخلاف بين الطرفين من ما ظهر على السطح نجد انه قائم على رفض لجنة إزالة التمكين السياسي والاقتصادي للنظام القديم وإدخال قسم من قوى النظام القديم عبر توسعة قاعدة المشاركة وجعل يد العسكريين هي العليا ليستمروا حتى الانتخابات عام 2024 على أن يسيطر قادة الجناح المنشق من الحرية والتغيير بالجهاز التنفيذي في المركز والولايات وإقليم دارفور ويكون لهم ولحلفائهم الغلبة في المجلس التشريعي.
فيما يريد قادة الحرية والتغيير الأصل الاستمرار في سيطرة أحزابهم – تعد حديثة ايديولوجيا وتكوينا زمانيا باستثناء حزب الأمة- على مقاليد الجهاز التنفيذي وتسلم رئاسة مجلس السيادة من العسكريين يوم 25 تشرين الثاني/نوفمبر المقبل بحسب نص الوثيقة الدستورية المعدلة باتفاق السلام والتي تنص على أن يحكم العسكريون 21 شهرا من توقيع اتفاق السلام والمدنيون الفترة الثانية والتي مدتها 19 شهرا بجانب المحافظة على قسمة السلطة التي تعطي الحرية والتغيير ما نسبته نحو 65 في المئة في الجهاز التنفيذي في المركز والولايات و50 في المئة في الجهاز التشريعي، مع استمرار العزل السياسي لمنسوبي حزب المؤتمر الوطني الذي كان يرأسه البشير وحلفائه من القوى السياسية التي بقيت معه حتى لحظة السقوط.
وبالنظر لدوافع تفجر الخلاف نجدها تتمثل في خشية العسكريين والمجموعات الاقتصادية والاجتماعية التي تقف خلفهم من انتقال رئاسة مجلس السيادة للمدنيين من دون أن تكون واضحة مسائل تشغل بالهم، وهي عملية إصلاح القوات الأمنية التي تشغل عسكريي الجيش السوداني ومستقبلهم السياسي على ضوء فض الاعتصام لعام 2019 وهي التي يشترك في الخشية منهما قادة الجيش والدعم السريع، ومسألة إزالة التمكين الاقتصادي والسياسي التي يخشى منها مجموعة المصالح المرتبطة بالجيش من منسوبي النظام القديم والدعم السريع بدرجة أقل.
في إطار هذا الصراع نجد أن دول الإقليم والمجتمع الدولي تختلف درجة تقسمهم بين معسكرات الصراع في السودان، حيث نجد أن مصر وجنوب السودان أعلنا دعمهم الواضح للجيش السوداني وخاصة رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان في المؤتمر الصحافي الذي عقده الرئيسان عبد الفتاح السيسي وسلفا كير ميارديت في القاهرة هذا الشهر، والمؤكد أن اثيوبيا على العكس منهم تدعم المدنيبن على خلفية التوترات القائمة في الحدود وسد النهضة.
فيما لم تفصح السعودية أو الإمارات عن الضفة التي يشاركونها مع أي من أطراف الصراع رغم وجود إشارات بأن جهة مصالحهم تشير إلى انهم الأقرب إلى العسكريين بشكل عام.
فيما تقف الولايات المتحدة بشكل واضح مع نقل السلطة للمدنيين وأحكام سيطرتهم على المشهد وبدرجة أقل بريطانيا التي يهمها إقامة الانتخابات في نهاية الفترة الانتقالية كأولوية حسب ما صرح سفيرها الجديد عقب لقائه البرهان الأسبوع الماضي، فيما تقف فرنسا حائرة رغم دعمها للحكم المدني لكن عينها موزعة بين العسكريين وخططها في تشاد وأفريقيا الوسطى وليبيا وهو ما ظهر في دعوتها للبرهان لزيارة باريس الشهر المقبل لحضور مؤتمر أصدقاء ليبيا.
المعركة المؤجلة
وبالنظر إلى طبيعة الصراع وجزر المخاوف ومواقف المجتمع الدولي والإقليمي، نجد أن العسكريين ومجموعة المصالح المرتبطة معهم تعرف أن هذه هي معركتهم المؤجلة منذ سقوط البشير ما سيجعلهم يستميتون في الصراع والمدافعة على الرغم من أنهم مختلفون وان بدوا ظاهريا متفقين، حيث أن الجيش السوداني كمؤسسة تحركه الخشية من إصلاح المؤسسة العسكرية وهو البند الأعلى في المرحلة الثانية من الفترة الانتقالية، كما تريد المؤسسة العسكرية المحافظة على مؤسساتها الاقتصادية الضخمة في ظل شعار إخراج الجيش من الاقتصاد وولاية مجلس الوزراء على المال العام ضمن خطة الإصلاح المنتظرة التي يريد منها في نفس الوقت أن تقود لضم قوات الدعم السريع في الجيش السوداني، وهي الخطوة التي رفضها قائد الدعم السريع محمد حمدان (حميدتي) منذ عهد البشير ويرفضها بقوة الآن، كما يرفض ولاية المدنيبن على المال العام حيث أن الرجل وقواته باتت لديهم مؤسسات اقتصادية ضخمة أيضا لذا لن يقبل التنازل عنها حيث انه يعلم أن المال هو عصب السياسة وهو يطمح في الاستمرار داخل اللعبة السياسية خلال الانتخابات المقبلة ومستقبل السودان بشكل عام، بعكس قائد الجيش عبد الفتاح البرهان الذي لا يشغله الدور السياسي المستقبلي بقدر ما يريد أن يحافظ على مكتسبات الجيش السياسية في الفترة الانتقالية في مستقبل السودان والمحافظة على مكتسبات مجموعة المصالح التي ورثها بعد سقوط البشير وارتبطت به خلال فترة الانتقال وعينه هو الآخر على قضية تحقيقات فض الاعتصام التي يشاركه المخاوف منها قائد الدعم السريع .
ومن مؤشرات أن الرجلين سيخوضان هذه المعركة حتى النهاية ما قاله قائد الدعم السريع ونائب رئيس مجلس السيادة محمد حمدان دقلو في خضم هذه الأزمة «أن نتيجة الانقلاب على العسكريين هي موتهم بعكس المدنيين الذين يتم سجنهم فقط». وإذا اعتبرنا أن الذي يجري هو انقلاب من المدنيين على العسكريين فإن الرجل سيقاتل دفاعا عن مصالحه ومخاوفهم حتى الموت سلما أو حربا.
سيناريوهات
هنا يمكننا تخيل السيناريوهات التي يمكن أن تسير عليها الأزمة السودانية أولها أن يصل الجميع إلى تسوية متعددة الأوجه مثل تلك التي جرت في لبنان عقب الأزمة السياسية التي قسمت لبنان إلى قوى 14 آذار المدعومة عربيا و 8 آذار التي ينشط فيها حزب الله والتي انتهت بعد عامين بتسوية نال فيها حزب الله المحافظة على سلاحه مع الرئاسة ونالت قوى 14 آذار السيطرة على الجهاز التنفيذي والسيطرة على الاقتصاد.
لذا يمكن أن تحدث تسوية يؤمن فيها الجيش السوداني مخاوفه من إصلاح القطاع الأمني ويتم على طريقته الخاصة والقدر الأكبر من مؤسساته الاقتصادية ودور تشريفي لأي من قادته في السلطة السيادية وتأمين مستقبل من مثلوه في الفترة الماضية بدون ملاحقات سياسية أو قضائية أو مجتمعية، وهو ما يمكن أن يشمل قائد الدعم السريع الطامح في أدوار سياسية وان يختار ما بين الاحتفاظ بسلاحه ويخرج من السياسة أو يختار الإبقاء على مكاسبه الاقتصادية والمالية التي حصل عليها في السنوات الأخيرة والاستمرار في صدارة المشهد السياسي حاضرا ومستقبلا.
وفي المقابل تحصل الحرية والتغيير الأصل على رئاسة مجلس السيادة وقدر من السيطرة على أموال الجيش والدعم السريع وتغيير تركيبة قاعدة الجيش بادخال قيادات من الحركات المسلحة وفق اتفاق الترتيبات الأمنية في مؤسسة الجيش مع استمرار سيطرة الحرية والتغيير وغلبتها على الجهاز التنفيذي والتشريعي في المركز والولايات مع إجراء تعديل في الحكومة تدخل وتخرج منها أحزاب وقوى بحسب موقفها من التسوية التي سيتولد منها التحالف السياسي الذي سيتمكن من مفاصل الدولة ما يجعلهم الأوفر حظا في الانتخابات المقبلة.
السيناريو الثاني هو استمرار حالة الأزمة السياسية وتعطل الحكومة بعدم جلوس أعضاء السيادي والجهاز التنفيذي والسياسي وفق ماهو ماثل الآن ويتعمق الانقسام في الشارع العام أكثر مما هو عليه وان تقود الأزمات السياسية والمطلبية في شرق السودان وكردفان حيث النفط إلى اختناق الحكومة واستخدام الاعتصام أمام القصر كغطاء للقيام بما قام به جنرالات ميانمار-بورما، الذين كانوا يتقاسمون السلطة مع المدنيين لأكثر من عامين لكنهم قاموا بالانقلاب على رئيسة الوزراء سان سوشي وأعادوا ميانمار لحكم العسكر، وفرضت الولايات المتحدة إثر ذلك جملة من العقوبات على قادة الجيش الذين استمروا في الحكم معتمدين على التناقضات الدولية ما بين موسكو والصين والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.
ويعتمد تحقق أي من السيناريوهات أعلاه في السودان على عامل الشعب الذي واضح انه مع التحول الديمقراطي والقطع مع قوى الماضي، والذي يمكن أن يقبل التسوية وسيقاوم الانقلاب أي كان ناعما أو خشنا ظاهرا بينا مثل ما حدث في ميانمار، بالإضافة إلى عامل المجتمع الإقليمي الذي تحركه مصالحه بالنظر لموقفه من السيناريوهات أعلاه، ويمكن أن يدفع الهواء في أشرعة أي منهم وكذا المجتمع الدولي الذي لديه القدرة الأكبر على تحقق التسوية عبر العصا والجزرة، وسيرفض الانقلاب كما عبر عن ذلك في تحذيرات مسبقة المسؤولون الأمريكيون والأوربيون وستكون قسوة العقوبات مبنية على الطريقة التي سيخرج بها الأمر.
المصدر: »القدس العربي»