“نفد صبرنا تجاه بعض المناطق التي تعد مصدراً للهجمات الإرهابية من سوريا باتجاه بلادنا”
“الهجوم الأخير على قواتنا في منطقة عمليات درع الفرات والتحرشات التي تستهدف أراضينا بلغت حداً لا يحتمل”
“سنقضي على التهديدات التي مصدرها شمالي سوريا إما عبر القوى الفاعلة هناك وإما بإمكانياتنا الخاصة”
تهديدات هي الأكثر صرامة تجاه قوات سوريا الديمقراطية (قسد) الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، جاءت على لسان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ووزيري الدفاع والخارجية، رداً على مقتل عنصرين من شرطة المهام الخاصة التركية بالقرب من مدينة مارع بمنطقة درع الفرات يوم الإثنين الماضي.
جاء الرد الروسي على هذه التهديدات سريعاً لكن على طريقتهم التقليدية البوتينية الدموية، حيث شنت الطائرات الروسية غارات على محيط مدينة مارع الواقعة في مناطق النفوذ التركي في تصعيد غير مسبوق وللمرة الأولى منذ سنوات، في رسالة واضحة لحليفها اللدود بأنه لا يمكنكم القيام بأي عملية عسكرية دون التفاهم معنا، وحل الخلافات العالقة في الملف السوري وملفات أخرى، في مؤشر على أن قمة الرئيسين الروسي والتركي الأخيرة في سوتشي 29 الشهر الفائت لم تكن ناجحة.
تجاوز التصعيد الروسي كل الخطوط والتفاهمات عبر قصف قوات قسد، منطقة قرقميش التابعة لولاية غازي عينتاب داخل الأراضي التركية بخمس قذائف هاون مصدرها قرية زور مغار غرب مدينة عين العرب المحاذية للشريط الحدودي، زاد هذا القصف الطين بلة، ورفع من حدة التصريحات الإعلامية حيث حمل وزير الخارجية التركي تشاويش أوغلو مسؤولية هذا التصعيد للولايات المتحدة وروسيا “بما أن روسيا والولايات المتحدة لم تلتزما بتعهداتهما بخصوص هجمات ypg \ pyd فيجب علينا الاعتماد على أنفسنا والقيام بما يجب”.
تصريحات تعيدنا بالذاكرة للحظات التي سبقت شن القوات التركية عملياتها العسكرية السابقة (درع الفرات، غصن الزيتون، درع الربيع، نبع السلام)، والتي هدفت لتهيئة الرأي العام الداخلي.
تركيا التي عودتنا ألا تقوم بأي عمل عسكري دون تأمين غطاء سياسي وتحقيق تفاهمات وتوافقات مع الدولتين العظميين أميركا وروسيا، من الواضح أنها تتعرض اليوم لضغوط كبيرة، جعلت ردها حذراً وأقل من حجم التصريحات والتهديدات، حيث اكتفت عملياً برد كلاسيكي اقتصر على استهداف مصادر إطلاق النار في مناطق سيطرة قسد ونقاطها المشتركة مع النظام، ما يعني أن تركيا لم تحصل بعد على الضوء الأخضر ولا حتى البرتقالي بشن عملية واسعة.
إلا أن ذلك لا يعني عدم رغبة روسيا بشكل قطعي بالتصعيد العسكري التركي ضد “قسد” لعدة أسباب:
أولها: أنها ترى نفسها الطرف الأقوى القادر على فرض شروطه، وأن هذا التصعيد يمكن أن تدفع تركيا ثمنه من أجل تنفيذ مخرجات أستانا وتفاهمات سوتشي كما يحلو لها.
ثانياً: الضغط على تركيا من أجل حل ملف هيئة تحرير الشام والجماعات الجهادية الأخرى، وفتح الطرق الدولية M4-M5، والمعابر الداخلية بين مناطق النظام والمعارضة.
ثالثاً: التنصل وعدم تنفيذ التفاهمات مع الجانب التركي بإبعاد قسد عن الحدود التركية مسافة 30 كم، والمراوغة بعدم تنفيذ التفاهمات بما يخص مدينة تل رفعت وما حولها، ومدينة منبج، اللتين تحتلهما قوات سوريا الديمقراطية.
رابعاً: وهنا بيت القصيد، أن الهدف الأساسي للروس استعادة سيطرة النظام على كل المناطق السورية، وخروج جميع القوات الأجنبية غير الشرعية كما صرح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في لقائه الأخير مع الأسد في موسكو منتصف الشهر الماضي، في إشارة إلى القوات الأميركية والتركية.
أما الولايات المتحدة فهدفها واضح بإبعاد تركيا عن روسيا وإعادتها إلى حضن حلف الناتو، وإلغاء صفقة صواريخ إس 400، بالإضافة إلى سعيها لتأمين قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في حال انسحابها من المنطقة.
تركيا التي تسعى لضبط الحد الأدنى من التوافقات، تخشى أن تذهب التفاهمات الأميركية الروسية على حسابها لجهة التطبيع بين النظام وقسد وهو ما تسعى له روسيا، وقد توافق أميركا عليه، لذا لا يمكنها الرضوخ، وتقديم أي تنازلات مجانية يمكن أن تؤدي إلى إنهاء دورها في الملف السوري، ما يجعل أولوياتها تنحصر في:
أولاً: تأمين حدودها وإبعاد خطر العدو اللدود (قسد) بكل الأشكال ومنع قيام كيان كردي على حدودها الجنوبية.
ثانياً: توقف واشنطن عن تمويل وتسليح تلك المنظمات المصنفة على قوائم الإرهاب.
ثالثاً: إنشاء منطقة آمنة داخل الأراضي السورية والتوقف عن استهداف مناطق النفوذ التركي مما يسمح بتنمية المنطقة بشكل يشجع اللاجئين السوريين على العودة إليها، وتخفيف عبء الضغط السياسي من قبل المعارضة التي تستثمر بقوة في ملف اللاجئين.
رابعاً: المحافظة على اتفاقات وقف إطلاق النار في منطقة خفض التصعيد الرابعة في إدلب، ومنع اجتياح قوات النظام وحلفائه منطقة جبل الزاوية.
بشكل عام الأمور تتأزم بين جميع الأطراف وشد الحبل في أعلى مستوياته، وأي عملية عسكرية يمكن أن تقوم بها تركيا بالتأكيد تحتاج إلى تحضيرات على الأرض وتوافقات سياسية مع واشنطن وموسكو، أو مع أحدهما على الأقل.
لكن الفتور في علاقة الرئيس التركي مع الرئيس الأميركي جو بايدن، ورسائل الدعم الأميركي الأخيرة لقسد وحفاوة استقبال مسؤولي إدارة بايدن لوفد قسد في نيويورك، على هامش اجتماع الجمعية العمومية للأمم المتحدة، بالإضافة للتصعيد العسكري الروسي الذي يوحي بانقلاب على كل التفاهمات في أستانا وسوتشي، ومحاولة فرض واقع جديد على تركيا، يؤكد أن المناخ السياسي العام غير مهيأ لإعطاء تركيا الغطاء السياسي والسماح لها بالقيام بأي عمل عسكري جديد في سوريا.
رغم أن أنقرة تعطي أولوية لإمكانية التفاهم مع أميركا وروسيا، إلا أنها أمام تحديات كبيرة إذا ما فشلت بوقف هجمات قسد على أراضيها، ومناطق نفوذها في شمالي سوريا بالطرق الدبلوماسية ومن خلال تطبيق التفاهمات مع روسيا وأميركا التي حصلت بعد عملية نبع السلام في خريف العام 2019، ولم تتمكن من تأمين غطاء سياسي، قد تلجأ لعمليات نوعية مؤثرة تستهدف قيادات قسد ومواقعها وخطوط إمدادها، عبر سلاح الجو وطائراتها المسيرة (بيرقدار) التي أثبتت فاعلية كبيرة في عملية درع الربيع التي شنها الجيش التركي على قوات النظام العام الماضي، انتقاما لمقتل جنوده في جبل الزاوية.
ما سبق لا يعني انتفاء إمكانية قيامه تركيا بعمل عسكري منفرد إذا استمرت قوات قسد بعملياتها الإرهابية وتهديد أمنها القومي، كما لا يمكن الجزم بوجهة العملية العسكرية التركية في حال وقوعها، واحتمالية أن تكون استكمالاً للمرحلة الثانية من عملية نبع السلام في منطقة شرق الفرات.
ويبدو أن طرد التنظيم الإرهابي من مدينة عين العرب الحدودية، ذات الأهمية كبيرة بالنسبة للقيادات الكردية، وتحريرها يعني وصل مناطق عمليات نبع السلام بمناطق عمليات درع الفرات الواقعتين تحت النفوذ التركي، والقضاء على آخر حلم للحزب الانفصالي بإقامة دولته المزعومة، مع بقاء كل الاحتمالات مفتوحة على جيب تل رفعت ومنبج، وربما تل تمر أو المالكية في ريف الحسكة.
لدى أنقرة من أسباب القوة ما يجعلها قادرة على تنفيذ تهديداتها، من خلال قواعدها العسكرية التي باتت منتشرة في جميع مناطق المعارضة، وتدريبها وتأهيلها على مدار السنوات الخمس الماضية لفصائل (الجيش الوطني)، التي تجاوز عدد مقاتليها 75000 موزعين على أربعة فيالق، ثلاثة منها منتشرة في مناطق الشمال والشمال الشرقي، والفيلق الرابع (الجبهة الوطنية للتحرير) في مناطق إدلب والساحل، بالإضافة لهيئة تحرير الشام التي يتجاوز عدد مقاتليها 7000 مقاتل.
ومع أن الأمور في سوريا مفتوحة على كل الاحتمالات، ورغم تواتر الأنباء عن حشود تركية في منطقة سروج المقابلة لمدينة عين العرب، واستنفار مقاتلي الجيش الوطني استعداداً لتحقيق الحلم الموعود بتحرير مدينة تل رفعت والقرى المجاور لها، إلا أنه من غير المتوقع أن تقوم تركيا بتنفيذ عملية عسكرية واسعة، وغالباً سيتم الاكتفاء بعمليات نوعية هنا وهناك، مع الاستمرار بتعزيز قواعدها ومواقعها العسكرية، وتدريب وتأهيل ورفع كفاءة الفصائل المتحالفة معها، واستخدام أوراق ضغط في ملفات أخرى تؤمن لها أوراق ضغط إضافية بسوريا، مثل ملفات (ليبيا، القرم، أذربيجان، أفغانستان..إلخ)، وانتظار تغيير الظروف السياسية الدولية للقيام بعمل عسكري يؤمن حدودها الجنوبية والقضاء على ميليشيات حزب الاتحاد الديمقراطي (p y d- y p g).
المصدر: موقع تلفزيون سوريا