يمر السودان هذه الأيام بحالة من التوتر السياسي بين مكوناته السياسية، وتحديداً بين بعض عناصر الحاضنة السياسية للحكومة الانتقالية (قوى الحرية والتغيير) من جهة، والمكون العسكري في مجلس السيادة من جهة أخرى، ما أدى إلى تعليق الاجتماعات بين المكونين في المجلس السيادي، فيما تشهد البلاد تطورات أمنية خطيرة متمثلة بظهور خلية متطرفة تتبع لتنظيم “داعش” في أحد ضواحي العاصمة الخرطوم، حيث تنفذ قوات مشتركة من الجيش والدعم السريع والشرطة عمليات ضدها، وتتبع أماكن تواجدها للقضاء عليها. لكن ما أسباب هذا التوتر، والانقسام في المشهد السياسي، وكيف يتم الخروج من هذه الأزمة، وهل بلغ الوضع درجة الانسداد السياسي؟
إقصاء وتشظ
يرى رئيس لجنة السياسات في المكتب السياسي في حزب الأمة القومي السوداني إمام الحلو، أن “الخلاف بين القوى السياسية السودانية حول كيفية ممارسة السلطة الانتقالية أمر طبيعي من خلال قراءة الأحداث والمشهد السياسي الذي تمر به البلاد، فهناك مجموعة تعتقد أن هناك مكونات محددة استأثرت على السلطة في مجلسَي الوزراء والسيادة، بمعنى أنه تم إقصاؤها من المشاركة في هياكل السلطة المختلفة، وبلا شك أن هذا الأمر له تأثير على المرحلة الانتقالية سياسياً وإعلامياً واقتصادياً، وكانت كل هذه القضايا محور المبادرة التي طرحها رئيس الوزراء عبدالله حمدوك لمعالجة الخلل الذي تعاني منه الدولة السودانية في كل جوانبها التنفيذية والسياسية والاقتصادية وغيرها، لكن التطور الخطير الذي حدث أخيراً بدخول المكون العسكري في مجلس السيادة في هذا الصراع، وسع دائرة التشظي والانقسام بين المكونين المدني والعسكري، على الرغم من أنه معلوم للمكون العسكري أن الشراكة القائمة في الحكم وفق الوثيقة الدستورية حددت مهماته، لكن من الواضح أن هذا المكون (العسكري) يريد أن يتغلغل في السلطة من خلال دعمه لمجموعة صغيرة داخل قوى الحرية والتغيير، وذلك من أجل فرض واقع سياسي لا وجود له أو تأثير، حتى ولو كان على حساب عدم استقرار البلاد وتشظي قواها السياسية”.
وتابع الحلو، “ما يجري ويحدث من تغلغل في الساحة السياسية يتطلب من قوى الحرية والتغيير عزله تماماً، لأنه وضح جلياً أن هذا التغلغل له علاقة بالأحداث التي وقعت أخيراً في شرق البلاد وغربها، وأن هناك أيادي تقف خلفه، بالتالي ما حدث في قاعة الصداقة في الخرطوم السبت الثاني من أكتوبر (تشرين الأول) الحالي عبارة عن مخطط لخطف قوى الحرية والتغيير من خلال تظاهرة فاشلة لا علاقة لها بثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018، لا من قريب ولا من بعيد، فهو تجمع يسنده فلول النظام السابق بدعم من المكون العسكري من باب توسيع شق الخلاف بين مكونات الحرية والتغيير، وهي مسألة تتطلب من الحاضنة السياسية للحكومة الانتقالية الانتباه إليها بإحداث ترميم وإصلاح يواكب المرحلة والخطر الماثل لاستقرار الفترة الانتقالية سواء من ناحية المكون العسكري، أو من بعض حركات الكفاح المسلح ممثلةً في حركتي العدل والمساواة بقيادة جبريل إبراهيم، وحركة جيش تحرير السودان جناح مني أركو مناوي، ببذل مجهود للتعرف على اعتراضاتهما في اتفاق جوبا للسلام، والمسألة السياسية برمتها ليعودا من جديد إلى قوى الحرية والتغيير”.
ولفت رئيس لجنة السياسات في المكتب السياسي في حزب الأمة، إلى أن “توحيد القوى السياسية المناصِرة للثورة السودانية يجعل المكون العسكري يرى الصورة بشكل أوضح، بخاصة بعد التوجه الدولي لدعم السودان والسلطة المدنية في البلاد سواء من خلال زيارة رئيس البنك الدولي الأخيرة، وكذلك الاجتماع الدولي الذي خصصته الأمم المتحدة في 30 سبتمبر (أيلول) الماضي لدعم السودان، من تنظيم ورعاية النرويج والأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش تحت شعار، دعم الانتقال المدني الديمقراطي في السودان”، موضحاً أن “هذه المناصرة الدولية بمثابة إشارات للمكون العسكري الذي يريد أن يتنصل من مسؤوليته تجاه مجزرة فض اعتصام القيادة العامة التي ارتُكبت في الثالث من يونيو (حزيران) 2019، فلا يمكن أن يخرج من هذه الجريمة وعواقبها، إلا بكشف ماذا حدث، والجهة المسؤولة عن ارتكاب هذا الحدث، ومحاسبة المسؤولين ومحاكمتهم فوراً، لكن ذلك خلاف سيظل حاجزاً نفسياً حاضراً بين المكونين المدني والعسكري”.
انقلاب ناعم
في السياق، قال الناطق الرسمي باسم “قوى الحرية والتغيير” في السودان جعفر حسن، إن “ما يحدث في المشهد السياسي في البلاد، بخاصة المحاولة الفاشلة لإيجاد حاضنة سياسية جديدة للحكومة الانتقالية، هو انقلاب ناعم على قوى الحرية والتغيير، لكنه فشل لعدم تمكن القائمين على تلك المحاولة من إحداث خلخلة وانشقاق داخل الحاضنة السياسية الممثلة في قوى الحرية والتغيير التي تضم حوالى 40 حزباً ومكوناً سياسياً ومسلحاً ومنظمات مجتمع مدني، فليس بين هؤلاء القائمين من مكونات الحاضنة السياسية غير حركة العدل والمساواة بقيادة جبريل إبراهيم، وحركة تحرير السودان بقيادة مني مناوي، وهاتان الحركتان نالتا حصصهما في أجهزة الحكم كاملة دون نقصان أو إقصاء، لذلك ما تم في اجتماع قاعة الصداقة هو تحالف سياسي لأن المشاركين فيه هم خارج الحاضنة السياسية ما عدا حركتي جبريل ومناوي”.
وأوضح حسن أن “إصلاح الحاضنة السياسية تُعنى به المكونات المنضوية تحت لوائها، وليس جهات من خارج محيط الحاضنة، لأنه ليس من اختصاصها”، مؤكداً أن “المحصن الأساسي لما يجري من مخططات وعراقيل لإفشال الحكم الانتقالي هو الشارع السوداني، الذي قال كلمته في موكب 30 سبتمبر لدعم الانتقال الديمقراطي، ومستعد للتضحية حتى تتحقق شعارات الثورة، ونهوض البلاد سياسياً وأمنياً واقتصادياً. فضلاً عن السند الدولي، حيث أن المجتمع الدولي هو الضامن للوثيقة الدستورية وما أفضت إليه من شراكة محددة المعالم بين المكونين المدني والعسكري، وكذلك اتفاق السلام الموقع في جوبا في مطلع أكتوبر 2020 بين الحكومة الانتقالية والجبهة الثورية، وكل ما يختص بمسألة الانتقال الديمقراطي”.
ولفت إلى أن “هناك كثيراً من التضليل الذي يُثار في الشارع بخصوص نصوص الوثيقة الدستورية، فهي بالفعل منعت المكونات التي كانت شريكة في حكومة الرئيس السابق عمر البشير عند سقوطها في 11 أبريل (نيسان) 2019، من المشاركة في الفترة الانتقالية، بينما منعت ممارسة حزب المؤتمر الوطني (حزب البشير) للسياسة نهائياً”، متهماً “المكون العسكري باختطاف عديد من الملفات التي تخص السلطة التنفيذية، إضافة إلى تعطيله عمل مؤسسات مهمة في هذه الفترة مثل مجلس الأمن والدفاع، والمجلس الأعلى للسلام، والمجلس المشترك المكون من مجلسَي الوزراء والسيادة، حيث لم تعقد هذه المؤسسات اجتماعاتها منذ فترة، على الرغم من الظروف الحرجة والمعلومة التي تمر بها البلاد”.
ورأى الناطق الرسمي لقوى الحرية والتغيير، أن “الحل الوحيد للخروج من هذه الأزمة السياسية، هو أن يقوم كل مكون بواجباته المنصوص عليها في الوثيقة الدستورية، دون التغول على صلاحيات الآخر، أو أن يكون وصياً على الآخر، أو على الشعب السوداني، فالمكونان المدني والعسكري تربطهما شراكة تستوجب الاحترام من الطرفين، وإلا فهي ليست شراكة بمعناها الحقيقي، ما يستوجب مراجعتها وتقويم مسارها”.
ثلاث ملاحظات
من جانبه، أوضح الناطق باسم حركة العدل والمساواة السودانية محمد زكريا، أنه “في الحقيقة ظلت وحدة قوى الثورة هَم تحمله أطراف عملية السلام من بينها حركة العدل والمساواة ورفاقها من حركات الكفاح المسلح، وقد كان لحركتنا (العدل والمساواة) حضور في المحطات السياسية الداعمة لثورة ديسمبر منذ تشكيل الجبهة الثورية، وإعلان هيكلة الدولة، وميثاق الفجر الجديد، ونداء السودان، كما تُعد الحركة من أوائل المكونات الموقعة على إعلان قوى الحرية والتغيير، لكن نرى أن الإعلان السياسي لبعض مكونات قوى الحرية والتغيير في 8 سبتمبر الماضي فيه استعجال، إذ كانت هناك نقاشات جارية، وجهود تُبذل من خلال لجنة شكلت لإعداد صيغة لتوحيد مكونات الثورة، ما أدى إلى حالة الانقسام الذي تشهده حالياً الساحة السياسية في البلاد”. وبين زكريا، أن لحركة العدل والمساواة وحلفائها ثلاث ملاحظات تجاه الحاضنة السياسية، تتمثل في ضرورة أن تكون آلية اتخاذ القرار بالشراكة بين كل المكونات، وإيجاد توافق حول الأوزان الحقيقية للحاضنة، حيث تسعى بعض الأحزاب إلى خلق واجهات موالية لها للتأثير في التصويت على القرارات التي تتخذها الحاضنة السياسية، ولدينا شواهد كثيرة حدثت في الفترة الماضية، فضلاً عن توسيع عضوية الحاضنة لتشمل كل مكون أسهم في الثورة وإسقاط النظام السابق ووقّع على ميثاق الحرية والتغيير، حتى لا يكون هناك إقصاء لأحد وإنتاج وحدة ناقصة”، مشدداً على أنه “لا بد من توسيع الماعون ليشمل كل الأحزاب السياسية الداعمة للثورة والانتقال الديمقراطي، والعمل على معالجة كل الاختلالات التي شابت التحالف الحاكم في الفترة الماضية، إضافة إلى الجلوس مع المجموعة الأخرى لتعزيز الوحدة وإنجاز شعارات ومطالب الثورة”.
ولم يستبعد الناطق باسم حركة العدل والمساواة، “إمكانية تلاقي كل الأطراف السياسية المنقسمة إلى مجموعتين طالما أن الجميع حريص على الحوار، لكن يجب البحث عن الوحدة المنتجة التي تتطلب توفير ضمانات الاستقرار والاستدامة بعيداً عن التهميش والإقصاء”، مضيفاً “لكي نكون أكثر شفافية هناك تحديات تعترض الانتقال في المستويات التنفيذية والسياسية، ومع ذلك لا أرى أن هناك انسداداً في الأفق السياسي، بل هناك وضعاً دون تطلعات الجماهير، لكن يظل الأمل قائماً لإنجاز وحدة حقيقية في المستقبل المنظور، بخاصة وأن الأطراف المعنية متمسكة بالعهود والمواثيق الموقَّعة خلال هذه الفترة من أجل إنجاز التعافي الاقتصادي والاستقرار الأمني والسياسي في البلاد”.
شراكة ذكية
في المقابل، أكد اللواء ركن أمين إسماعيل مجذوب، “أهمية الشراكة بين المكونين العسكري والمدني خلال الفترة الانتقالية التي تتطلب التوافق والتلاحم، بعيداً من انفراد أي طرف بالحكم، إذ إن انهيار السلطة يعني انهيار السلام الذي تحقق في البلاد، ويعني مزيداً من الفوضى، وربما تتحرك كيانات تبحث عن الانفصال لأسباب جهوية أو عرقية أو نتيجة لتشاحنات وتجاذبات”.
ويشدد على أن “المجتمع الدولي ينظر إلى هذه الشراكة باعتبارها تجربة جديدة وشراكة ذكية بين الجانبين المدني والعسكري، من شأنها أن تحقق الاستقرار في البلاد، بالتالي رُفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، وأُعفي من الديون الخارجية التي تُقدّر بنحو 60 مليار دولار، وعُقدت مؤتمرات في برلين والرياض وباريس من أجل دعم اقتصاد البلاد، لذلك فإن أي انتكاسة في هذه الشراكة تعني عودة العقوبات”.
ودعا المجموعات السياسية، بما فيها العسكريون، إلى “مراعاة ظروف البلاد التي تواجه تحديات عدة، سواء ما يحدث من توتر واضطرابات في شرق السودان وغربه، وظهور خلايا لتنظيم داعش، فضلاً عن وجود حركات مسلحة لم توقّع حتى الآن على اتفاق سلام وأعني بها الحركة الشعبية لتحرير السودان شمال بقيادة عبد العزيز الحلو، وحركة تحرير السودان جناح عبد الواحد محمد نور، لذلك ولمجمل هذه الأسباب لا بد من استمرار الشراكة وتمتين الثقة بينهما، لأن عدم إكمال الفترة الانتقالية يعني دخول البلاد في متاهات وخيارات مظلمة ربما تؤدي إلى انهيار الدولة السودانية بكاملها”.
ويعتقد مجذوب أن “الخلافات التي وقعت أخيراً بين المكونين المدني والعسكري ثبت أنها شخصية ولا علاقة لها بدولاب العمل بعد حديث عضو مجلس السيادة محمد الفكي سليمان أن العلاقة مع المكون العسكري خصمت من رصيدهم السياسي، ما دفع المكون العسكري إلى تعليق الاجتماعات مع المكون المدني وعدم الجلوس معه على أي مستوى من المستويات”.
المصدر: اندبندنت عربية