عبرت الثورة السورية عامها التاسع، دون أن تلوح لها نهاية قريبة، بل تبدو مفتوحة على احتمالات مختلفة عما مرت به، نتيجة متغيرات دولية واقليمية أهمها:
أولها – استفراد روسيا الكلي تقريبا بالملف السوري عسكريا وسياسيا.
ثانيها – تغير موازين القوى المحلي بين النظام والمعارضة لصالح الاول نسبيا.
ثالثها – توتر العلاقات الروسية – التركية.
رابعها – تراجع قوة إيران وجماعاتها اقليميا.
خامسها – تعاظم الدور الاسرائيلي العسكري.
وأيا كانت مسارات الازمة القادمة، فهناك نتيجة مطلقة تلخص تجربة السنوات السابقة، تستحق الدرس، تتمثل في أن الشعب السوري الذي كان ضحية الجميع: روسيا وايران والعرب والغرب ما زال قويا وثابتا، بينما كل الذين شاركوا في قتله وتهجيره أصابهم الإرهاق، ودفعوا أكلافا باهظة مرشحة للارتفاع ، لما شبه لهم انه انتصار ، وما هو إلا وهم وسراب .
بعبارة أخرى : الضحية التي تعرضت لجريمة دولية على مدى تسع سنوات تبدو أكثر مناعة من الذين اشتركوا في قتلها ، وتبدوا جريمتهم قد استنزفتهم ، كما استنزفت الضحية / الشعب السوري .
لإثبات هذه الحقيقة يجب إعادة تقويم ما حدث ، ورصد نتائجه ، وما انتهى له الآخرون :
أولا – ايران .
هي الأكثر تورطا في المقتلة وغوصا في مستنقعها الدموي . فهي التي وقفت وراء أسوأ الخيارات وأخطرها ، إذ دفعت الأسد لرفض أي حل سياسي مع الشعب ، ومع المعارضة ، وراهنت على إخماد الحراك الشعبي بالقوة ، واحتواء المعارضة سبيلا لحماية نظام بشار الذي هيمنت عليه ، شاركت فعليا في قتل السوريين مباشرة ، بحجة أن ما يجري ليس ثورة بل مؤامرة غربية واسرائيلية وعربية على (محور المقاومة) هدفها الوصول اليها ( الجمهورية الاسلامية ) لاسقاط نظامها !
وبناء عليه لم تكتف بالتحريض على وأد الحلول العقلانية ، ناهيكم عن الانحياز لثورة المظلومين السوريين ضد نظام متوحش ، وهي التي استمدت شرعيتها من ثورتها على الشاه الذي ثبت انه أقل دموية من نظام آل الأسد . بل ذهبت مدى أبعد فعبأت القوى الموالية لها في لبنان والعراق وباكستان وأفغانستان ، وزجت بها في الصراع الداخلي بين الشعب ونظامه .
وتبين وقائع السنوات التسع السابقة أن ايران لم يكن هدفها مساندة الأسد بقدر ما كان هدفها تحطيم سورية شعبا ودولة ، وتعزيز سيطرتها عليها، بدليل سعيها المنهجي لتحطيم الجيش واختراقه، وبناء منظمات موازية وبديلة ، خاضعة لها ، بما فيها باسيج وحرس ثوري ، ورهن الثروات الاقتصادية ضمانا لاستثماراتها وقروضها ، ومحاولات نشر التشيع واحتواء الطائفة العلوية ، وتغيير هوية المدن الرئيسية ، كدمشق وحلب واللاذقية وحمص ودير الزور ، بحجة وجود مراقد ومزارات شيعية ، وسعيها لإنشاء نظام محاصصة طائفية ، يكرر ما فعلته في العراق ، وهي سياسات تستفز السوريين ، وتحرضهم على نظامهم ، لأنه مسؤول عن فتح الأبواب لايران . ولو كانت حريصة على الأسد لما عملت على اضعافه وتدمير البلد بأيديها بهذه الطريقة .
ومع سقوط حلب والغوطة ودرعا تهيأ لايران وجماعاتها أنها انتصرت وأصبحت الطرف الاقوى ، وبدأت تخطط لتوسيع وتعزيز هيمنتها ، ولكن هذا الوهم سرعان ما بدأ يتبدد ، وينقشع ، بتأثير مجموعة عوامل مستجدة :
1- رفض روسيا ادعاء ايران بأنها صانعة النصر.
2 – استمرار المقاومة السورية في العديد من المدن والمناطق كقوة قادرة على المواجهة وتحقيق انتصارات .
3 – تمرد الطائفة العلوية على الوصاية الايرانية ، وطلبها الحماية من الروس .
4 – ظهور مؤشرات على رفض جيش الأسد محاولات الايرانيين تهميشه وفرض الوصاية عليه.
5 – ظهور استياء متزايد في أوساط الجماعات الشيعية اللبنانية والعراقية من الهيمنة الفارسية .
6 – اتجاه روسيا لتبنى خيارات سياسية تتناقض مع خطط ايران والاسد ، استجابة لتفاهماتها مع اسرائيل وأمريكا ودول أخرى .
7 – معارضة ادارة ترامب لوجود ايران في سورية .
8 – تنامي المعارضة الايرانية الداخلية للتورط في سورية .
هذه العوامل ترسم مقدمات فشل ذريع للدور الايراني في سورية . وتركز سياسة ايران حاليا على افشال الحلول السياسية الممكنة ، والعمل على ابقاء نار الصراع مشتعلة ، ومتابعة مخططاتها لفرض تغيير ديمغرافي يحقق مصالحها قبل أي انتقال سياسي ، ولكن عجلة التطورات بدأت تدور على مسار مختلف . وهناك تقديرات بأن التوسع الايراني بلغ أقصاه وبدأ الانحسار ، تحت ضغط العوامل الدولية وتأثير العقوبات الاميركية وضغوط الشارع الايراني .
ثانيا – روسيا
تدخلت روسيا في الازمة السورية على مرحلتين : في الأولى اكتفت بدعم النظام وتزويده بالسلاح بلا شروط على استعماله ، والتزمت بحمايته في مجلس الأمن ومنظمات الامم المتحدة كمجلس حقوق الانسان ، أو منظمة حظر الاسلحة الكيميائية ، ووضعت ثقلها وراء انقاذه من ضرب أميركا له بعد استعماله للسلاح الكيماوي في الغوطة آب/ اغسطس 2013 ، وتوسطت لإبرام صفقة تسليم مخزونه الكيماوي مقابل عدم ضربه .
وثمة مؤشرات على أن الدعم الروسي تضمن منذ بداية الثورة ارسال مستشارين عسكريين واستخبارات لتقديم الخبرة في قمع التمرد الشعبي والمسلح .
وفي المرحلة الثانية تدخلت روسيا بأقصى طاقتها الحربية لحماية الأسد من سقوطه الوشيك نهاية سبتمبر 2015 . وقيامها بحرب ابادة على المعارضة المسلحة ، وحاضنتها الشعبية ، وخاصة في حلب والغوطة وادلب ودرعا . واستطاعت بعد سنة من القصف الوحشي ارضاخ ثوار حلب والغوطة ودرعا على تسليم مناطقهم ، فزادت نسبة الأراضي التي يسيطر عليها النظام وتقلصت مساحة الاراضي المحررة . وعدلت موازين القوى ، ولم يعد النظام مهددا بالسقوط ، كما كان قبل دخولها .
كل هذا صحيح ولكن هذه “الانجازات” كلفت الدولة الطامحة لاستعادة مكانتها على المسرح الدولي الكثير من هيبتها واحترامها كدولة مسؤولة ، وتلقت إدانات كثيرة في العالم ، والأمم المتحدة بسبب تعطيلها القانون الدولي ، وحماية نظام ارهابي . كما فقدت روسيا من جنودها وأسلحتها أكثر بكثير مما اعترفت به ، وقد استعانت بقوات غير نظامية لاخفاء دورها وخسائرها الحقيقية ، كما تحملت خسائر مادية كبيرة ، في وقت يعاني اقتصادها من أزمات حادة ، مما أجبرها على مراجعة استراتيجيتها الحربية . واكتشفت أن جيش الأسد الذي يتبع عقيدتها ويستخدم سلاحها منذ 70 سنة هو جيش مفكك ، لا تمكن المراهنة عليه ، وعليه أدركت بالملموس أنه لا حل للازمة بلا تغيير سياسي يلبي بعض مطالب الشعب ، وخاصة ازاحة الاسد .
لقد فشلت روسيا في تحويل “انتصارها” العسكري انتصارا سياسيا يلبي شروطها على المعارضة السورية . ومع فشل رهاناتها ورفض الغرب المساومة على اوكرانيا مقابل سورية ، ورفض الدول الخليجية التسليم لها ببقاء الأسد اضطر الكرملين لتغيير سياسته والبحث عن مخرج . واكتشفت أن ايران تعرقل خططها الى حد قد تكلفها خسارة جهودها واستثماراتها في سورية . فصار هدفها تقليص الخسائر وتحسين صورتها كدولة عدوانية ارتكبت جرائم حرب وابادة ، فوثقت علاقاتها بتركيا ، وتقربت من بعض أطياف المعارضة العسكرية والسياسية ، ومغازلة ادارة ترامب بحثا عن تسوية تلبي بعض مطالب الشعب السوري دون أن تضحي بالأسد ونظامه الموالي لها ، ولكنها على المدى البعيد تعطي اشارات للغرب باستعدادها للتخلي عن الاسد في الوقت المناسب ، بشرط الحصول على ثمن مناسب .
وفي المحصلة تعرف روسيا أنها خسرت ولم تربح الكثير ، واصيبت بالوهن ، وباتت تخشى الاسوأ ، ولعلها تبحث عن مخرج قبل أن تتحول ورطتها افغانستانا ثانية ، أي كارثة كبرى .
ثالثا – أوروبا
اتسم موقف المفوضية الاوروبية من الازمة السورية منذ البداية بالسلبية بسبب انقسام الاعضاء . وحتى مواقف الدول الرئيسية كفرنسا وبريطانيا ، وايطاليا ، والمانيا ، تباينت وظلت غير فعالة ، رغم أنها اعلنت مواقف مؤيدة للمعارضة ، ورافضة للنظام وجرائمه ، ولكن لم تتطور الى سياسة فعالة ، وظلت تسير خلف الولايات المتحدة لتعفي نفسها من المسؤولية ، وتتحمل مخاطر المبادرة .
وعلى مستوى آخر حافظت على علاقاتها مع نظام الاسد ، وخاصة المانيا والسويد وايطاليا واسبانيا . ولم تمر هذه السياسة الجبانة بسهولة ، بل دفعت أوروبا ثمنا فادحا امنيا واقتصاديا وبشريا ، تمثل بعمليات ارهابية ، وذهاب الاف الاوروبيين للقتال مع داعش والقاعدة في سورية والعراق . وشكل هؤلاء في حال عودتهم تهديدا حقيقيا لدولهم . كما أن اوروبا تعرضت لموجات نزوح كثيفة للاجئين السوريين ، سببت لها أزمات متعددة أمنية وبشرية واقتصادية فاضطرت للتفاوض مع تركيا لغلق أبواب اللجوء امام السوريين ، مقابل حفنة مليارات . وأدركت أوروبا متأخرة أنها خسرت الكثير وأرهقت ، جراء عدم تعاملها بالشكل المطلوب مع ازمة لا تبعد كثيرا عن حدودها .
والأهم من ذلك أن أوروبا انكشف هزالها كقوة عالمية ، يمكن اختراقها وضربها في العمق ، بدون أن يكون لها قدرة على التاثير ، وسياسة دفاعية استراتيجية مستقلة في مواجهة الارهاب . وقد سببت السياسات المتناقضة لدولها تباينات حادة في المواقف هددت وحدة المشروع الاوروبي ، وساعدت الرأي العام البريطاني على تأييد الخروج من الاتحاد ، وشجعت شعوبا واحزابا اخرى لتأييد الانسحاب أيضا ، وقد يتحول ذلك حقيقة واقعة في المستقبل القريب ، أي أن نتائج السياسة الهشة والضعيفة حيال الأزمة السورية ما زالت تفعل فعلها في اساسات الاتحاد الأوروبي . وهو ثمن فادح لموقف خاطىء بدا في حينها موقفا مناسبا !
رابعا – الولايات المتحدة .
اتبعت ادارة اوباما السابقة سياسة عائمة وغائمة في سورية . ففي البداية أوحت للمراقبين بأنها تدرك أهمية الأزمة السورية ، وتتخذ مواقف مسؤولة تجاه ما يقترفه نظام الاسد من جرائم بحق شعبه، وعززت تصريحات أوباما هذا الايحاء بحديثه عن فقدان الاسد لشرعيته ومطالبته بالتنحي ، وتكليف سفيره روبرت فورد بالعمل مع المعارضة ، واخيرا وضعه استعمال الأسلحة الكيماوية خطا أحمر على الأسد ألا يتجاوزه .
واستمرت هذه السياسة حتى مجزرة الكيماوي في الغوطة اغسطس 2013، وتردد اوباما عن محاسبة الجزار السوري، فظهر عجز الادارة وترددها وأعطى رسالة سلبية له ليواصل جرائمه بلا حساب ، بمساعدة حلفائه الايرانيين والروس .
تعززت هذه السياسة الخرقاء مع تغيير اوباما لثلاثة من اركان ادارته الذين كانوا يؤيدون التدخل ومحاسبة الاسد ، وزيرا الخارجية والدفاع ومدير المخابرات الاميركية ، ما فضح نوايا اوباما التي ركزت على استمالة نظام طهران لابرام صفقة البرنامج النووي مقابل التسليم لها بما حققته من مصالح في العراق وسورية ولبنان واليمن .
مع الوقت تخلت واشنطن عن دورها ومسؤولياتها في سورية فدخلتها عسكريا ، وتضعضعت هيبة اميركا في الشرق الاوسط ، وظهرت روسيا كقوة عالمية قادرة على اتخاذ مبادرات سريعة لسد الفراغ وحماية الحلفاء وردع الخصوم ، فأكسبها نقاطا كثيرة في العالم على حساب الشعب السوري .
ومن المؤكد أن اميركا خسرت الكثير جراء سياستها العاجزة في سورية ، بما في ذلك تعريض أمنها لخطر الارهاب مثلها كمثل أوروبا .
لقد بنت ادارة اوباما سياستها على الاعتقاد أنه في حال أزمة معقدة كالازمة السورية يكفي تجنب التورط فيها لاتقاء عقابيلها السلبية ، نتيجة عدم وجود مصالح اقتصادية في هذا البلد الذي يدور في فلك روسيا ، ولكن مع الوقت تبين أن عدم التدخل سيخلف نتائج بالغة الخطورة على أمن أمريكا ، ومصالحها ، وهيبتها في العالم ، ومصالح وأمن الدول الحليفة في الخليج وتركيا وأوروبا . وكل هذه الدول عانت من آثار اللامبالاة الاميركية واتخاذها سياسة ( ادارة الازمة ) بدل معالجتها بجدية . ويكفينا اخيرا الاستشهاد بتقييم الرئيس ترامب لسياسة سلفه في الشرق الاوسط عموما ، وخاصة في سورية ، لنرى حجم الاضرار التي ألحقها أوباما ببلاده نتيجة تخاذله وضعفه وسوء مواقفه من الأزمة السورية ، ومن جرائم الاسد وايران .
ونحن نضم صوتنا الى ترامب في قوله إن سياسة اوباما كانت الأسوأ ، و أضعفت مكانة اميركا في الشرق الاوسط ، وأضرت بعلاقاتها مع حلفائها العرب ، وسهلت لايران توسيع نفوذها في اربع دول عربية ، وأحدثت تصدعات جيوبوليتيكية في الشرق الاوسط ، دفع العالم كله الثمن جراء اختيارات أوباما المنافقة والقصيرة النظر .
خامسا – العرب
رغم ما احتوته القضية السورية من جوانب انسانية مؤثرة ، وأبعاد استراتيجية قومية تؤثر على العالم العربي فإن (العرب) لم يقفوا مع الشقيق السوري بالقدر الذي تفترضه العلاقات والمصالح والأمن القومي . وينطبق هذا على الدول والشعوب معا ، لأنها قسمت العرب وتياراتهم السياسية ، ومكوناتهم الدينية والجهوية والعرقية ، وتحمل الشعب السوري آثار فشل (ثورات الربيع العربي) ، وأصبح بعض الانظمة ، وخاصة المصري ، يعاقب الثورة السورية بتاثير عدائه للاخوان في بلده ، وامتد الموقف الى رفض المظلومية السورية وتحميلها للاسلاميين لتبرير حربه عليهم في كل مكان . ووصلت المواقف الى دعم الأسد الذي قتل شعبه وهجره ودمر بلاده . وأحدثت انقسامات وصراعات عربية – عربية .
في بداية الثورة أيدت الجامعة العربية الشعب السوري ضد نظامه متأثرة بمناخ (الربيع العربي) وانتشار الثورات فطرحت مبادرة وسطية في سورية لوقف القمع واجراء اصلاحات مرضية للحراك الثوري ولا تهدد النظام ، وارسلت مراقبين في اطارها ، ولكن النظام أفشلها ، ففرضت عقوبات عليه ، وجمدت عضويته ، وقدمت مساعدات عينية وسياسية للمعارضة . ومع تفاقم القمع واستعانة النظام بقوى خارجية معادية للعرب ، وخاصة ايران وميلشياتها تشكلت كتلة ( اصدقاء الشعب السوري ) الدولية التي ضمت عشرات الدول على رأسها اميركا ، اخذت بعض الدول العربية بتسليح فصائل المعارضة في اطار المجموعة ، ولكنه ظل قاصرا لا يكفي للحسم ، ولا يحمي من جرائم النظام وايران ، فطالت المأساة ، وتهيأت الفرصة لايران وجماعاتها للاستقواء اكثر في سورية وعموم دول المنطقة .. بل وصلت الى فلسطين وغزة . واستباحت الامن العربي كما لم يحدث منذ تأسيس الجامعة العربية ونشوء اسرائيل .
إن الدول العربية تدفع اليوم من أمنها ومصالحها نتائج ترددها في سورية ، فالتهديد الارهابي الذي تمثله داعش والقاعدة وصل الى مصر وليبيا وتونس وامتد النفوذ الايراني للبحر الاحمر وبلدان المغرب وافريقيا ، ونشرت فيروسات المذهبية والصراعات الطائفية في كل مكان .
ولا يصعب على المحلل تقدير اثر التخاذل العربي أمام الغزو الايراني لسورية ، ومدى تشجيعه للايرانيين والترك والروس بالتوسع في مخططاتهم , ولا سيما في الخليج والبحر الاحمر ، وأخيرا ليبيا وشرق المتوسط
النتيجة :
ما النتيجة التي يمكن استخلاصها ؟
الشعب السوري مني بخسائر باهظة جدا وقدم تضحيات هائلة ، ولكنه ما زال صامدا يقاتل دفاعا عن وجوده وبلاده وحقوقه ، وسيظل حتى يستعيد حقوقه ويفرض ارادته، وسيخرج منتصرا ، وسيكون لانتصاره نتائج كبيرة على المنطقة والعالم ، ستكون بمثابة تعويض أدبي له .
أما الآخرون الذين اقترفوا جرائمهم ودعموا السفاح ، وحاولوا الهيمنة على سورية كالايرانيين والروس واتباعهم ، والدول الغربية التي مارست اقصى درجات الخسة والنفاق ، وكذلك العرب والاتراك الذين تقاعسوا عن دعم الشعب السوري ، ومساعدته على فرض حل سياسي منصف خرجوا ، أو سيخرجون مهزومين اخلاقيا وسياسيا ، واقتصر ما حققوه على زيادة خسائر السوريين من القتلى الأبرياء والجرحى والمعاقين وأعداد المهجرين ، ولذلك لن ينجوا من آثار خطاياهم وأخطائهم ، وسيظلون يدفعون الثمن لسنين قادمة ماديا وامنيا داخل بلدانهم ، ولن يفلتوامن نتائج ما حدث وعقابيله ، وستطاردهم لعنات التاريخ كمجرمين وقتلة وفاسدين كالمغول والتتار والصليبيين ، وهذا نوع من العقاب المستمر ، سيطال أممهم ، وأجيالهم القادمة لمئات السنين .
ويمككنا ضرب بعض الامثلة :
روسيا التي اخذت بعد تحررها من النظام السوفياتي ، وهزيمتها في افغانستان ، واقتربت من العالم الديمقراطي المتحضر ، عادت بعد غزو سورية وجرائمها ضد المشافي والمدارس والمدنيين دفاعا عن نظام توتاليتاري لتحتل موقع الدولة الامبريالية الارهابية المعادية للشعوب وللحرية وللقانون الدولي . وهذا حكم غير مكتوب ولكنه سيؤثر على مصالحها المادية ومركزها وسمعتها لعقود طويلة .
ايران التي بهرت ثورتها عام 1978 العالم كنموذج باهر للنضال الشعبي من اجل الحرية ، والقيم الانسانية السامية ، تحولت بعد تدخلها في سورية مثالا مبتذلا ومكروها ومنحطا للدول الاستعمارية والاستبدادية المارقة التي تنشر الفوضى وتستبيح حرمات الدول والشعوب .
حزب الله الذي مثل يوما المقاومة بمواجهة اسرائيل سقط اخلاقيا وسياسيا وخسر الآلاف من نخبة المقاتلين ، وفقد شرعيته ، بسبب جريمته في سورية وخطابه الديماغوجي .
كل الأطراف الخارجية التي سمحت لنفسها بالتدخل في المحرقة السورية وتدخلت لقمع الشعب وحماية النظام ،كايران وروسيا باتت الآن تتخبط في المستنقع الدموي الذي صنعته بأيديها ، وباتت تدفع اثمانا باهظة لتورطها العدواني ، وفشلها في فرض رؤيتها .
ولا يقتصر هذا الوضع على الدول التي تورطت فعليا ، بل يشمل أيضا الدول الكبرى التي تقاعست عن المعالجة المنطقية للازمة ، ورفضت توفير الحماية الأممية للشعب السوري ، واسقاط الاسد بحجة عدم وجود حل عسكري .
ايران رغم قوتها الظاهرة في سورية بدأت تخسر نفوذها ويتراجع دورها ، وصارت دولة مكروهة بين السوريين بما فيهم الفئات الموالية للنظام ، وأخذت ورطتها ترتد عليها في الداخل الايراني بسبب اكلافها البشرية والمادية وترتد عليها خارجيا في صورة عزلة عربية واسلامية ، الامر الذي يهيىء أفضل فرصة لادارة ترامب لضربها ومواجهتها .
حزب الله دخل الصراع وهو قوة عسكرية وسياسية تتمتع برصيد معنوي وطني وعربي كبير، وتحول الآن جيشا من العملاء منهكا عسكريا ويفتقر للحاضنة اللبنانية والعربية ، ويجعله هدفا سهلا للعدو الاسرائيلي .
روسيا حاولت استثمار تدخلها العسكري سياسيا واعادة تعويم دورها كوسيط لصنع السلام عبر رعايتها للهدنة ولقاء آستانة وأخيرا مشروع الدستور ، ولكنها لم تحصد سوى الفشل وقوبلت بمعارضة شبه تامة من ممثلي شعبنا ، ولم يجرؤ أحد على تبني دستورها المقترح بما فيها (المعارضة) التي صنعتها بنفسها. وحتى هذه أخذت تتفكك ويتبرأ رموزها من علاقتهم بها .
ولا بد من الاشارة الى أن دوائر عديدة في الغرب وروسيا نفسها تؤكد أن خسائر حربها في سورية أكبر بكثير مما اعترفت به, وفاتورتها المادية أعلى, مما يبدد وهم ( نصرها ) ويحفزها لايجاد طريق للانسحاب مع حفظ ماء الوجه !
الولايات المتحدة تجني أشواك سياسة أوباما في سورية وسماحه بالغزو الايراني – الشيعي كما فعله بوش في العراق ، وتواطؤه مع الغزو الروسي .
الدول الاوروبية دفعت وما زالت تدفع من أمنها واستقرارها ثمن سياساتها العاجزة ورفضها لمبدأ التدخل المبكر لإسقاط النظام الذي خلق وفاقم الازمة ، ووفر الظروف لظهور المتطرفين والارهابيين .
تركيا أيضا دفعت وستدفع أكثر ثمنا فادحا أمنيا واقتصاديا ، نتيجة اضطراب مواقفها بين الاندفاع السياسي ، والتردد والوهن العملي ، وانقلابها على نفسها بالانتقال من محور الداعمين للثورة السورية ، الى محور القتلة والغزاة والطغاة بقيادة بوتين والفرس .
الدول العربية ( الخليجية ) خرجت مهزومة أمام ايران وروسيا ، ليس لأن الثوار هزموا ، ولكن لأنها لم تطور تأييدها لهم الى المستوى الذي يمكنهم من اسقاط النظام بالقوة .
أما شعبنا السوري فهو وحده الذي لم يغير أجندته الثورية ، ولم يتراجع عن أهدافه منذ مارس 2011 ، رغم أنه تحمل ثلاثة مستويات من الاجرام والتآمر، أولها وحشية العصابة الحاكمة ، وثانيها العدوان المتعاظم لايران ومرتزقتها وروسيا ، وثالثها هو التواطؤ والتخاذل الدولي والاقليمي .
ومن الملاحظات الرئيسية التي رافقت تطور الصراع أن كل طرف من الأطراف المتورطة تهيأ له أنه يسير بثبات لتحقيق أجندته على حساب شعبنا ، غير أن المشهد الذي يتشكل الآن على الأرض يتناقض مع المقدمات السابقة وحسابات القوى المتورطة والمتواطئة والمتخاذلة . فالكل يدفع الأثمان ، والكل يتخبط، والكل يبحث عن طريقة لوضع نهاية للورطة بأقل الخسائر ، والكل بات يواجه الكل ، كما رأينا في معركة ادلب في الفترة السابقة ، والى حد أن المحلل المحايد لا يمكنه وضع حدود فاصلة بين العدو والصديق ، لأن التحالفات تتقلب دائما ، وباستمرار . والأهم هو أن الجميع يشعر الآن أن الأزمة باتت مرهقة له ، وتعيده للمربع الأول ، أي الشعور بحتمية التدخل الخارجي لحماية السكان ، واسقاط النظام كحل وحيد .. بدلا من التصور الاجرامي المستحيل الذي تبنته ايران وروسيا ، أي إسقاط الشعب السوري بدل اسقاط الطاغية وحده !
الشعب السوري رغم جسامة خسائره وتضحياته ، هو الطرف الثابت الوحيد في معادلة الصراع الذي ما زال قادرا ، ومستعدا لمواصلة ثورته ودفاعه عن نفسه وحقوقه ، ومتمسكا بأجندته الوطنية : حتمية إزالة النظام بكل مؤسساته . وهذا الموقف يشكل عامل قوة حاسمة في أي صراع ، لأن الارادة هي العامل الحاسم في أي صراع ، وليس السلاح ، لا سيما إذا كانت الارادة يدعمها اجماع وطني ، وتستند الى مشروعية اخلاقية . وكم من الثورات استطاعت قلب موازين القوى ومعادلات الصراع بفضل الصمود والاستمرار ، بعد أن تهيأ لأعدائها الاجهاز عليها أو هزيمتها .
لقد كان واضحا منذ 2012 ان نظام العصابة اندحر وانهار فاستنجد بحزب الله ، ولكن اسطورة هذا تلاشت منذ مطلع 2014 ، فاستدعى تدخل ايران بحرسها ومرتزقتها ، ولكن هذه أيضا هزمت منذ اواسط 2015 ، وتوسلت بالروس ، فتدخلوا بأقصى قوتهم العسكرية ، وقاموا بأقصى ما يمكنهم ، ولكنهم لم يتمكنوا من فرض أجندتهم السياسية ، وباتوا محاصرين بين إدانة عالمية شاملة ، ومقاومة سورية صلبة . ومن يدقق في سلوكهم الآن يرى أنه يعبر عن شعور مضمر بالهزيمة ، ورغبة بالانسحاب بطريقة تحفظ مصالحهم .
فشل آستانة ، وفشل محاولة تسويق الدستور ، وفشل لقاء موسكو، ورفض ممثلي المعارضة لألاعيب لافروف ، هي بمثابة رصاصة الرحمة على الدور الروسي كوسيط سياسي .
وتشي التغيرات الجديدة في العالم على غير صعيد بأن الجميع، بما فيهم إيران وروسيا، يقتربون من لحظة الحقيقة: لا بد من اسقاط النظام، كحل لهذه الأزمة. وهناك معلومات ذات مصداقية عالية عن اللجوء للديبلوماسية السرية لإبرام صفقات واقعية بين الاطراف الرئيسية: التركية – الروسية، والغربية – الايرانية هدفها الاتفاق على خريطة طريق للخروج من المأزق، ومعالم مرحلة ما بعد الأسد!
المصدر: المدار نت