حين نتحدث عن حدث ما أو أحداث جرت قبل زمن طال أو قصر، لا بد من وضع ذلك ضمن أجواء الزمن الذي حدثت فيه وفي إطار معاييره. أقول ذلك لأن هذه المقالة تتناول حدثين كان لهما تأثير كبير في حياة العرب وتاريخهم الحديث، ولايزال تباين الآراء قائماً حولهما.. أما الأول فهو حدث الانفصال الذي أتى في 28 أيلول عام 1961 أي قبل ستين عاماً، وكان أن فرَّط بأول وحدة في تاريخ العرب الحديث، وهي وحدة دولتي سورية ومصر التي كانت خيط ضوء يشير إلى مستقبل واعد.. وقد غدت في الوقت نفسه معلماً لما يجب أن تكون عليه الوحدة، إن توفرت شروط قيامها.. أما الحدث الثاني فهو وفاة الرئيس جمال عبد الناصر الذي برز في ذلك الزمن زعيماً عربياً لفت انتباه العالم، ودول المنطقة بفعليه الوطني والقومي على صعيد السياسة، وبمباشرته أسس التنمية الاقتصادية والاجتماعية! فكان له مؤيدون على صعيد الجماهير الشعبية، بينما أرعبت سياسته التغييرية حكام دولٍ في المنطقة بتأثيره العميق في شعوبهم التي رأت في شخصه وسياساته، تحقيقاً لأحلامها، وهي المستقلة بلادها حديثاً والناظرة إلى حياة حرة كريمة..
كان الصراع في ذلك الوقت شديد الضراوة حول المنطقة وعليها ما دعا دولاً استعمارية إلى شن حرب على مصر عام 1956 عرفت بـ”العدوان الثلاثي”، والهدف إسقاط حكم عبد الناصر، بل إسقاط مصر الناهضة آنذاك، وكان العدوان محاولة من فرنسا وإنكلترا لاستعادة مجدهما الاستعماري إذ تراجعتا كثيراً بعد الحرب العالمية الثانية، أما شريكتهما إسرائيل، فكانت تخوض حرباً استباقية، وكانت في نشأتها الأولى، وتسعى لترسيخ دعائم احتلالها، في وقت كانت أمريكا تستعد إلى ما أسمته بـ “ملء الفراغ” في المنطقة، فيما ظهر الاتحاد السوفييتي قوة عظمى منافسة.. لكن الذي حدث أن مصر انتصرت، بفضل صمود شعبها وبسالته، ومستفيدة من تغيُّر موازين القوى الدولية، وتناقضات الدول الاستعمارية، وقد أعطى ذلك النصر الذي جاء بعد تأميم قناة السويس، (تلك الخطوة الوطنية الكبرى)، قوة لمصر ولرئيسها، ومضت مصر إلى ما هي بحاجة إليه من تنمية على غير صعيد.. فبدأت ببناء السد العالي الذي عرقله البنك الدولي ومن ثم تابعت باتجاه النهضة الصناعية التي أجهضها الفساد، وتراجع السادات (الرئيس المؤمن) عن خط عبد الناصر وأدواته مستعيناً بالإخوان المسلمين، غطاء سياسياً، وبديلاً عن نواة الاتحاد الاشتراكي التي كانت تعمل مع عبد الناصر بعد عام 1967 لإعادة البناء وتجاوز الهزيمة، والأخطاء التي تسببت بها.. كما اعتمد الكومبرادور (وكلاء الشركات الأجنبية وسماسرتها) أرضية اقتصادية للبرجوازية الطفيلية الأكثر فساداً. يذكر حسنين هيكل في كتابه “مبارك وزمانه.. من المنصة إلى الميدان” أن أنور السادات كان قد منح خلال أيام عشرات التراخيص لمثل هؤلاء بهدف تغيير بنية الاقتصاد المصري إلى بنية استهلاكية طفيلية.. وهكذا كان ولعلَّ عادل إمام قد صور هؤلاء في فيلمه “مرجان أحمد مرجان”.
أما سورية فقد كانت محور ذلك الصراع الذي أشير إليه، وفي الحقيقة، كانت دولة نامية على أيدي البرجوازية الوطنية سواء في الزراعة أم في الصناعة والتجارة، لكن العلاقات الزراعية كانت بحاجة إلى إصلاح جذري وسريع لتخليص الفلاحين من ظلم تاريخي ألحق بهم عبر زمن طويل، وعلى الرغم من أن الإصلاح الزراعي كان على جدول خطط رجال الدولة السورية، وفي مقدمة هؤلاء خالد العظم، لكنه تأخر في الوقت الذي كانت تنمو فيه فئات شابة من الأرياف السورية في أفقها طموح للمشاركة في الحياة السياسية، وكانوا قد عانوا ظلم الاقطاع، وساهمت بتغذية ذلك الطموح الأحزاب السياسية التي تشكلت خلال مرحلة الاستقلال، ومنها حزب “البعث العربي” تأسس عام 1947 واندمج مع حزب “العربي الاشتراكي” حزب أكرم الحوراني في نهاية عام 1952 إضافة إلى الحزب الشيوعي السوري الذي تأسس في وقت مبكر، بعيد الثورة الروسية بقليل، أي في عام 1924 ورفع منذ الثلاثينيات شعار “المطرقة والمنجل”، وكثير من شباب البعث قد انخرط في الجيش ورأى فيه وسيلة للوصول إلى الحكم.. وهكذا “وبسبب الحماس الفائق لدى الجيش، تشكل وفد عسكري بعثي في أوائل كانون الثاني1958 وبشكل سرِّي، ومن غير معرفة الحكومة للذهاب إلى القاهرة وعقد الوحدة، (بما يشبه الانقلاب العسكري) وهذا ما يسميه “خليل مصطفى” في كتابه سقوط الجولان ص19 بالانقلاب البطيء الصامت.. وتشكل الوفد من عضوية: (عفيف البزرة، أمين الحافظ، أكرم الديري، حسين حدِّه، جمال الصوفي، بشير صادق، محمد البشير، أحمد جنيدي، طعمه العود الله، ياسين فرجاني، مصطفى حمدون، وعبد الغني قنوت). أبدى ناصر فتوراً شديداً في موضوع الوحدة في البداية.. وبعد ثلاثة أيام من امتناعه عن مُقابلة الوفد العسكري، (الحقيقة لم يكن الرئيس عبد الناصر في القاهرة، بل مع ضيفه الإندونيسي سوكارنو) (ملاحظة من كاتب هذه المادة) قبل بعقد الوحدة مشترطاً حل الأحزاب في سورية” (مذكرات أكرم الحوراني ص2562) (ويكيبيديا) في الواقع أن جمال عبد الناصر اشترط ثلاثة أمور أولهما: حل الأحزاب السياسية في سورية، وثانيهما عدم تدخل الجيش في السياسة، وتسريح أعضاء الوفد نفسه لاشتغاله بالسياسة. وثالثهما إجراء استفتاء شعبي على عقد الوحدة..
وعن كتاب محمد حسنين هيكل “سنوات الغليان” يروي “سعيد الشحات” على لسان الضباط تخوُّفهم من تمدد الحزب الشيوعي على نحو مبالغ فيه، بل هو مضلل.. فيقول “ثم تحدثوا عن تسلل بعض الشيوعيين إلى أعصاب حساسة داخل سورية، وعن نشاط خالد بكداش «زعيم الحزب الشيوعي» الذي حول حي الأكراد في دمشق إلى قلعة مسلحة لا يجسر على الاقتراب منها غريب”، (موقع اليوم السابع) وهذا الكلام عار عن الصحة.. لكنه يشير إلى حدة الصراع على سورية، وتخوف البعثيين من الشيوعيين.. وكانوا يعتقدون أنهم سيحكمون سورية بتفويض من الرئيس عبد الناصر، ولذلك لم تمض شهور على عهد الوحدة حتى أخذ البعثيون في التململ، وكانت قيادتهم، كما هو معروف أول من وقع وثيقة الانفصال الذي قام به مجموعة من الضباط عرفت بكتلة “الشوام” وقاده عبد الكريم النحلاوي، ليأتي بعده انقلاب الثامن من آذار عام 1963. وقد اشترك فيه ضباط بعثيون ووحدويون لكن البعثيين أبعدوا الوحدويين ليكرسوا الانفصال.. وقيل الكثير حول أسباب الانفصال فمن قائل إن التأميم هو السبب إلى قائل إن التنمية التي بدأت في مصر وتأخرت في سورية، وثمة من قال إن التمييز في الجيش كان سبباً.. وما يعتقده كاتب المقال بأن تسرع ضباط البعث، والعمل بأهوائهم دون النظر إلى اختلاف أوضاع البلدين سياسياً واقتصادياً وتغييب الديمقراطية، وحل الأحزاب هو الأساس، وما غير ذلك مجرد تفاصيل لا يعتد بها، ولقد لحظ المرحوم عبد الناصر ذلك بعد هزيمة 1967..
(وهنا تجدر الإشارة إلى أنَّ موقف الحزب الشيوعي السوري لم يكن أبداً ضد الوحدة بل كان ضدَّ حلِّ الحزب، وقد حدثني المرحوم “عمر قشاش” أن “أحمد محفل” عضو اللجنة المركزية/ أمين سر منظمة حلب، قد جلب معه من دمشق، حينذاك، قرار اللجنة المركزية بالموافقة على مشروع الوحدة، وقام عمر بطباعة ثلاثة آلاف نسخة منه، جرى توزيعها في حلب وريفها.. ويُذْكَر أيضاً أن الحزب الشيوعي قد أقر وثيقة من ثلاثة عشر بنداً تدور معظمها حول الأخذ بالحسبان تباين أوضاع البلدين السياسية والاقتصادية.. وفي أواخر عهد الوحدة، عاد فوضع وثيقة أخرى تتضمن ثمانية عشر بنداً لإنقاذ الوحدة). ويرى كثيرون في الحزب الشيوعي أن سفر خالد بكداش وأسرته إلى تشيكوسلوفاكيا ثم إلى الاتحاد السوفييتي قد خلق بلبلة حول موقف الحزب..
وخلاصة القول أن الراحل جمال عبد الناصر له ما له، وعليه ما عليه.. فله الصدق في دعواه الوطنية والقومية وإعطائه حياته لأجل ذلك (توفي عبد الناصر في اليوم الذي أنجز فيه صلحاً بين حكومة الأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية.. وفيما عرف فلسطينياً بأيلول الأسود) ولم يكن ليتكسب من منصبه، كما غيره من الملوك والرؤساء العرب.. وقد مات فقيراً كما عاش، ولأن زمنه كان هكذا أيضاً، إذ دعم الاتحاد السوفييتي حالات كثيرة مماثلة في بلدان العالم الثالث باسم الشرعية الثورية. ويتبين اليوم بوضوح تام أن الفردية في إدارة الدول الحديثة تقتلها، وما نحن فيه من تخلف شامل يعود إلى التفرد والاستبداد اللذين يولِّدان الظلم والفساد، ويبثان الرعب في نفوس أبناء الشعب فيميتان فيها همة النشاط والإبداع.
المصدر: الحرية أولًا