تمثل مساعي السوريين للسفر خارج سورية واحدة من أبرز الظواهر في مناطق سيطرة نظام الأسد، وبين أبرز مؤشرات الظاهرة، كثافة المراجعين في مديريات الهجرة والجوازات للحصول على جوازات سفر أو تجديد القديم منها، والضغط الكثيف على خطوط الطيران السورية، وبخاصة شركة «أجنحة الشام»، التي تعد الناقل الجوي الرئيسي الذي يربط دمشق ببعض المدن والعواصم العربية والأجنبية، وثمة كثافة كبيرة على خطوط السفر البري إلى لبنان بوصفه بوابة سفر السوريين نحو العالم الخارجي، وتكثفت في الأشهر الأخيرة حركة سفر المقيمين في مناطق سيطرة النظام باتجاه مناطق سيطرة قوات «قسد» في شرق الفرات، إضافةً إلى التوجه نحو مناطق شمال الغرب، التي تسيطر عليها تركيا والتشكيلات الإسلامية قرب بوابات السفر إلى تركيا وبخاصة من مناطق حلب وحماة. ويرتبط اتساع ظاهرة سفر السوريين مع تدهور الأوضاع المعاشية في مناطق سيطرة النظام بعد انهيار قيمة العملة السورية مقابل العملات الدولية وما جرّه ذلك من ارتفاعات هائلة في أسعار السلع والخدمات، وفقدان كثير من البضائع والسلع بما فيها سلع أساسية، بالتوازي مع اختلالات نظام الإدارة، وتعميم الفساد والخاوات إلى جانب الضغوط الأمنية وما يرافقها من عمليات ابتزاز، وكله يترافق مع غياب حكومي في معالجة أي قضية أو مشكلة. بل إن ثمة قناعات تتزايد لدى غالبية المقيمين في مناطق سيطرة النظام، أن تفاقم المشكلات وبخاصة المشكلات المعاشية هو سياسة رسمية، يتم تنفيذها، بهدف تطفيش ما أمكن من السوريين سواء للخارج أو إلى مناطق سيطرة قوات «قسد» في شرق الفرات، أو المناطق التي تتشارك السيطرة فيها تركيا مع تشكيلات مسلحة أغلبها من الجماعات الإسلامية.
وللحق فإن ما يتم تنفيذه من سياسات النظام في مفاقمة الأوضاع المعاشية، هو سلوك مقصود، ويمثل سياسة رسمية بين أهدافها غير المعلنة، تهجير مزيد من السوريين ودفعهم إلى مصائر مجهولة، يتشاركون مسؤوليتها في أماكن إقامتهم الجديدة، وينشغلون بأوضاعهم بدل أن يكونوا تحت مسؤولية النظام، وأن يقوموا بمعارضته أو انتقاده حتى من أجل سياسات أفضل.
ومنذ عام 2012 جرى إدخال عامل جديد على سياسة النظام في التهجير، حيث جرى تعزيزها بعمليات تغيير ديمغرافي، وتمت عمليات إحلال سكان جدد مكان السكان الأصليين في كثير من المدن والقرى، وكان من أولى الخطوات في هذا السياق، ما حدث في مدن وقرى مثل القصير في ريف حمص ويبرود في ريف دمشق، وقد وُضعت تحت تصرف ميليشيات «حزب الله» اللبناني، وصارت مدينة السيدة زينب وما يحيط بها من قرى وبلدات تحت تصرف الميليشيات العراقية والإيرانية والأفغانية، وجرى تحويل تلك المدن والقرى إلى تجمعات سكنية للوافدين وعائلاتهم من جهة، ومراكز تدريب وقواعد ميليشياتهم من جهة أخرى.
وثمة تطور خاص طرأ على سياسة التغيير الديمغرافي عام 2017 في إطلاق عمليات تبادل سكاني بين قرى شيعية في إدلب وأخرى سنية في وادي بردى غرب دمشق، وهي الحالة التي تمثلها اتفاقية البلدات الأربعة، التي شاركت فيها أطراف إقليمية بينها إيران إلى جانب ميليشيات بينها «حزب الله» اللبناني وتنظيمات إسلامية مسلحة متطرفة منها هيئة تحرير الشام، ولم يُسمح لهذه التجربة بأن تتكرر بفعل محتوى الاتفاقية، وما جرى حولها من تعتيم واتهامات، وسط اعتراضات ورفض شعبي واسع في سوريا.
ومما لا شك فيه، أن سياسات نظام الأسد وحلفائه في عمليات التهجير والتغيير الديمغرافي، التي جرت في القرى والمدن الصغرى مثل القصير ويبرود والسيدة زينب، كان من الصعب تكرارها أو استنساخها في المدن الكبرى ومنها دمشق وحلب واللاذقية وغيرها، مما فرض إجراء تغييرات في تلك السياسات من حيث شكلها ومساراتها، لكن مع الحفاظ على جوهر أهدافها في الدمج بين تهجير ما أمكن من سكان المدن الكبرى والقيام بتغيير ديمغرافي في سكانها، وهو ما تكرسه سياسات نظام الأسد اليوم في مناطق سيطرتها بصورة واضحة.
ففي عموم هذه المناطق، وكما سبقت الإشارة يجري تضييقٌ معاشيٌّ على السكان، ودفعهم للمغادرة، التي تبدو مخرجاً مؤقتاً من المعاناة، ثم تتحول لاحقاً إلى تهجير وهجرة وتوطين في الخارج بفعل عوامل متعددة، ويتوازى معها تغيير ديمغرافي مؤلف من شقين، يقوم بهما الإيرانيون خصوصاً، الأول هو جلب وافدين وإحلالهم في هذه المدن، والآخر توسيع عمليات التشييع في تلك المدن، وهو تشييع يتجاوز الطابع المذهبي ليأخذ طابعاً له أبعاد أمنية وعسكرية، ثم اقتصادية واجتماعية وثقافية، يصعب إعادة تفكيكها مع مرور الوقت.
إن الحالة على نحو ما تظهر عليه من تعقيد وخطورة، تحتاج إلى وقفة جدية، ليس من جانب السوريين فقط، وهذا أمر طبيعي، بل من المحيط الإقليمي والدولي الذي يعاني من النتائج الكارثية لتهجير السوريين، وهي أكبر عملية تهجير في العالم، وسوف نرى لاحقاً ما هو أشد في كارثة التغيير الديمغرافي العميق، بما فيها ولها من تأثيرات خطيرة على مستقبل الشرق الأوسط كله وعلاقاته بالعالم. وحتى يكون الأمر أكثر وضوحاً، فإن آثار التهجير والتغيير الديمغرافي لا تخص البلدان العربية أو بعضها، كما يمكن للبعض أن يفكر، بل ستصيب جميع دول المنطقة بما فيها تركيا وإيران ذاتها، إضافةً إلى الجوار والأبعد منه، لأنها سوف تفتح بوابة صراعات لن تنتهي على مدار عقود في وقت تحتاج المنطقة إلى مرحلة تهدئة، تسبق سلاماً عادلاً بين كل أطرافها، يكون مدخلاً لتعاون إقليمي – دولي من أجل مصلحة شعوب المنطقة والعالم. لقد آن لشهود الكارثة السورية، وما يحصل فيها من جرائم وبخاصة التهجير والتغيير الديمغرافي، أن يخرجوا عن صمتهم، ويتوقف المتواطئون عن تواطئهم، وأن يتحول الجميع إلى فاعلين في مواجهة جرائم، تتوفر كل عوامل وقفها ومعاقبة القائمين بها بأقل قدر من التكاليف، إذا قورنت بآثارها الراهنة فقط، وليس بآثارها المستقبلية المدمرة للمنطقة وقسم كبير من العالم.
المصدر: الشرق الأوسط