تشهد المنطقة، في الشهرين الأخيرين، حراكاً غير اعتيادي، يظهر على سطحه دور بارز للأردن، الذي يحاول، وبشكلٍ لا لبس فيه، تدوير الزوايا الحادّة في ملفات المنطقة، وبالتحديد الملف السوري، الذي يرتبط بفاعلين إقليميين ودوليين كثر، ما يعني أن جميع هؤلاء، بإرادتهم أو من دونها، إما سيكونون منخرطين في هذه العملية، أو أنهم سيضطرون لصياغة أسلوب مواجهة لهذا التحرك.
ليس خافياً أن الملف السوري من أكثر الملفات خطورة وتعقيداً. ونتيجة ذلك التعقيد، دخل هذا الملف في حالة ستاتيكو، بسبب خلافات الفاعلين على إدارته، وتصارع الرؤى حول الحل السياسي المنتظر، وحدّة الاستقطابات الناتجة عن هذا الصراع، ما أدّى إلى انكفاء اللاعبين عن طرح أي مبادرةٍ جديدةٍ لتحريك الأوضاع الراكدة، والتي وصلت إلى حدود مأساوية.
إزاء هذا الوضع، لم يعد ممكناً التعاطي مع الملف السوري بشكل مباشر، أو بشكل شامل، وهو الأمر الذي تنبهت له بعض الأطراف الإقليمية، وخصوصا الأردن، والأطراف العربية التي تقف خلفه، والراغبة في تغيير المقاربة في الملف السوري، من الغرب.
تقوم المقاربة الجديدة على تدوير الزوايا الحادّة لتسهيل حصول عملية اختراق للملف المعقّد. وبالاعتماد على مفاتيح من نوع مراعاة الواقع الاقتصادي الإقليمي المنهك، وموقع سورية الجغرافي الحاكم، وخصوصا لجهة كونه بوابة أوروبا برّياً للأردن ومصر والخليج. وبالتالي، استمرار العقوبات عليه هو عقاب لهذه الأطراف، ووسيلة لقطع سلاسل التوريد مع أكبر سوق اقتصادية في العالم، الاتحاد الأوروبي. بالإضافة إلى حقيقة أن بلداناً مثل لبنان محكومة جغرافياً بالمرور عبر سورية، وكذا إمكانات إنقاذه من مأزقه محكومة أيضاً بوصول الدعم العربي له من سورية.
من الطبيعي أن يتم طرح السؤال عن سبب هذا التحرّك في هذا التوقيت، مع أن الطابع العام أن العامل الاقتصادي هو المحرّك والدافع والمبرّر الرئيسي لهذا الحراك، لكن هذا العنوان يطوي تحته حزمةً من التداعيات التي ستُنتجها مخرجات الحراك القائم، إنْ بسبب ترقية النظام السوري من نظام معزول إلى أحد الأطراف السياسيين المنوط بهم إدارة مرحلة انتقالية للعلاقات الإقليمية والدولية في المنطقة، أو نتيجة التفاعلات التي ستترتب على هذا الحراك، سواء داخل نواة الحكم السورية، أو بالنسبة لردّات فعل اللاعبين الإقليميين والدوليين المحرّكين لنظام الأسد.
من حيث الشكل، يبدو أن الأردن يدير لعبةً هدفها النهائي إعادة تقييم أوزان اللاعبين في الملف السوري، عبر إضعاف التأثير الإيراني، ولكن بطريقة غير صدامية، عبر الالتفاف على الدور الإيراني، من خلال جملةٍ من الإجراءات التي لا تدخل ضمن دائرة التأثير الإيراني في سورية، ولا تتعارض معها، مثل تفعيل طرق التجارة بين سورية والدول العربية، أو دعم إعادة سورية إلى جامعة الدول العربية. وهذه القضايا، على الرغم من أهميتها، لا تصطدم، من قريب أو بعيد، بالمشروع الإيراني في سورية، ما يضمن عدم إثارة العناصر المتطرّفة في إيران واضطرارها لردّات فعل عنيفة.
ولأن هذه المسارات يصعب التحرّك فيها بدون ضوء أخضر أميركي وروسي، فقد زار الملك عبد الله الثاني الولايات المتحدة وروسيا على التوالي، ويبدو أن ما جرى الإعلان عنه عقب الزيارتين لم يكن سوى كلام عام وبروتوكولي، في حين أن التسريبات المتتالية تؤكد أن ملك الأردن قد وضع على طاولة مباحثاته في واشنطن ولندن خططاً لإعادة صياغة، ليس الملف السوري وحسب، وإنما هندسة المنطقة من جديد، بما يضمن مصالح اللاعبين الأساسيين، الأميركي والروسي، ويخرج المنطقة من أوضاعها المأزقية نتيجة انهيار الدولة الوطنية في أكثر من بقعة.
تقوم الركيزة الأساسية في هذه الخطط على طي صفحة الحرب السورية ونتائجها، فما دام لم تعد للاعبين الأساسيين على طرفي الصراع أهداف كبرى، من نوع تغيير النظام السوري، بالنسبة للولايات المتحدة، وما دامت روسيا قد وصلت إلى ذروة مطامحها في الملف السوري، ولم يعد هذا الملف قادراً على إضافة أشياء جديدة لموسكو، فإنه يتوجّب الانطلاق من هذه الحقائق لصياغة تسويةٍ لهذا الملف تساهم مخرجاتها في حل الأزمات التي تولدت عن الصراع السوري، اللاجئين والفوضى الأمنية وتحوّل سورية إلى مصنع للمخدّرات يهدّد الأمن الإقليمي والدولي.
ليس معروفا مدى تجاوب إدارة الرئيس الأميركي بايدن مع الطرح الأردني. ولكن، واضح تماماً أنها بدأت تغضّ النظر عن محاولات التقارب العربية مع النظام السوري، وقد يكون ذلك أحد الوعود التي حصل عليها الملك في واشنطن، وقد وصف المحلل السياسي في مجلة فورين بوليسي الأميركية نيل كويليام هذا التحرّك بـ”محاولة إجراء تموضع مسبق” قبل تسوية سياسية مقبلة، بدلاً من خطواتٍ نهائية نحو تطبيع العلاقات مع الأسد في ظل الوضع الراهن، معتبراً أن ذلك يأتي في سياق بحث الدول العربية عن طرق لتطوير حل عربي للحرب. ومن خلال القيام بذلك، إعادة سورية إلى ما يسمى “الحضن العربي”. وبالطبع، العامل الاقتصادي، حسب تحليل كويليام، يلعب دوراً أساسياً في المساعي العربية، نتيجة طموح الدول العربية في الحصول على حصّة مهمة من عوائد عملية الإعمار.
لكن، لا بد أن الأردن، وغيره من الأطراف العربية، يدركون استحالة تحقيق أي اختراق في الملف السوري، إذا لم يكن اللاعبون الأساسيون، أميركا وروسيا، وحتى إيران، ضامنين لمصالحهم، وإذا لم تتناسق التحرّكات التي يجريها الآخرون مع هذه المصالح. من هنا يبدو أن مشوار الأردن قد يكون طويلاً في مهمة تدوير زوايا الملف السوري، بما يستدعي سهر المطبخ السياسي الأردني ليالي طويلة.
المصدر: العربي الجديد