مع خروج أميركا من أفغانستان، واستلام حركة طالبان زمام الأمور، عادت من جديد المواقف والآراء والتحليلات التي تدور حول نفسها، وحول أهلها، منذ نحو مئة عام، من دون الاستفادة من تجاربنا الفاشلة أو هزائمنا المتكررة. يبدو أن منطقتنا أدمنت الغرق في الماضي، والارتطام بحائط الواقع، فكلما ازدادت هزيمتها وتعمّق اهتراؤها وتفسخها ازداد تكوّرها على نفسها، واجترارها للفشل والأسئلة الخاطئة.
تعيش منطقتنا، وتستحم، صباحًا ومساءٍ، في ثلاثية الاستبداد والاحتلال والتطرف، فهي تشكِّل قوام حياتنا ورؤانا، ولما نستطع بعد الخروج من هذه الدوامة، واقعًا وتفكيرًا، إلى درجة أن أكثريتنا غير مقتنعة فعلًا بأننا نستحق حياة أخرى، لا مكان فيها للاستبداد، ولا للتطرف، ولا للاحتلال، بدليل أننا نغرق في حديث المفاضلة بين أركانها الثلاثة، أو المفاضلة بين الاستبدادات أو الأنظمة الاستبدادية، أو المفاضلة بين الاحتلالات، أو المفاضلة بين التنظيمات المتطرفة؛ الاحتلال الأميركي أفضل من التنظيمات الإسلامية المتطرفة أو العكس، إسرائيل أرحم من النظام السوري، النظام السوري أفضل من الإسلاميين أو العكس، الاحتلال التركي أفضل من الإيراني أو العكس، طالبان أفضل من أميركا، الاحتلال الأميركي أفضل من طالبان وأمثالها، جبهة النصرة أقل تطرفًا من تنظيم داعش، طالبان تغيّرت، طالبان هزمت أميركا… إلخ هذه في الحقيقة أحاديث وتصورات بشر مهزومين اقتنعوا بهزيمتهم وأدمنوها، ولا يريدون أن يغادروها أو يتمرّدوا عليها.
كل الخيارات هذه ليست إنسانية، ولا وطنية، ولا ديمقراطية. هل نحن محكومون باختيار واحد من الخيارات السيئة هذه؟! هل نحن محكومون بالمفاضلة في ما بينها؟! نحن مهزومون أمام العالم والعصر وأوروبا وإسرائيل، ومهزومون أيضًا أمام أنظمة استبدادية مهزومة هي الأخرى، لكننا نعمِّق هزيمتنا بأيدينا، وندور في فلكها دائمًا، ونستلهم فكرها المهزوم بتياراته المختلفة، ونستبطنه، ونتأقلم بسهولة مع مناخاتها وبيئتها الروحية. في الحقيقة، لا يفعل ذلك إلا المستقيلون من الحياة، وأولئك الذين لا يريدون أن ينتصروا حقًا.
كل الخيارات والطرق والتوجهات السائدة سيئة عدا الخيار الإنساني الوطني الديمقراطي، وهو أضعفها واقعيًا. منطقتنا مستنزفة في ثلاثية الاستبداد والاحتلال والتطرف، ولا مخرج لها إلا في الوقوف ضد هذه الثلاثية جملة وتفصيلًا من دون أي مفاضلة فيما بين أركانها أو ميلان نحو أي منها. وكل النقاشات التي تنحو في هذا الاتجاه فارغة وسطحية، ولا تعدو أن تكون “فشة خلق” تطلقها كائنات مهزومة.
هل من المعقول أن نتفاءل بحركة طالبان بعد كل التجارب التي مررنا بها، هل نحن محكومون بالأوهام، هل نحن مجرد كائنات تبحث عن أوهام لترفعها وتتقاتل حولها، ومن أجلها؟! هل يُعقل أن نصدِّق أن خيرًا يمكن أن يأتي على يدي حركة طالبان، ومثيلاتها؟ ألم نجرب آلاف الفصائل؟ هل يعقل أن نصدق تصريحات إعلامية هنا أو هناك؟ هل يعقل أن نستمر في السير وراء كل من يرفع راية الإسلام؟!
ما الشيء الذي يمكن أن يدعونا إلى التفاؤل بطالبان؟ كل تحرير لا يُنتج التقدم أو لا يكون أفقه التقدم لا خير فيه. هل توحي تجربة طالبان بانتصار الوطنية الأفغانية مثلًا؟ هل تعطينا تجربتها، ونمط تفكيرها، احتمالًا ببناء دولة أفغانية حديثة ومتقدمة؟ هل تقدِّم طالبان ثقافة؟ هل أنتجت فكرًا؟ علمًا؟ طالبان، وأمثالها كارثة محققة، وعنوان فاقع لهزيمة دول وشعوب تعيش خارج الحياة والعصر. ليست المشكلة في لباس أعضائها، ولا في لباس الأفغانيين، بل في الفكر السياسي أولًا وأخيرًا.
حركة طالبان، في الحصيلة، ليست أكثر من ميليشيا مسلحة تتقن القتال في الجبال، وسواها، ويمكن أن تحقق انتصارات عسكرية، ويمكن أن تطرد محتلًا، لكنها أعجز من أن تبني مدرسة حديثة، فكيف يمكن أن تبني وطنًا ودولة؟! لأن الانتقال من عقل الميليشيا إلى عقل الدولة ليس أمرًا سهلًا أو حتميًا. هذا الانتقال يحتاج إلى مؤشرات مسبقة، إلى فكر وثقافة، وإلى قناعات مبدئية تتعلق بالإنسانوية والمواطنة. هذا كله غائب، لذلك من الطبيعي أن يكون استفحال الخراب الأفغاني هو الأرجح، إن لم يكن محتومًا.
طالبان محكومة بتاريخها، وبانتماءاتها العشارية، وبالتقسيمات الإثنية في أفغانستان، ومحكومة بسلاحها، وبأيديولوجيتها الدينية التقليدية التي فصّلت الدين على مقاسها، وكل المراجعات التي يُقال إنها أجرتها لا تصبّ إلا في إطار التكتيكات السياسية، المؤقتة وعديمة الجدوى على مستوى بناء الوطن والدولة. هل هناك من يتوقع أن تكون طالبان ديمقراطية مثلًا؟! هذا شكل من أشكال الخرف أو الهذر السياسي؛ فالديمقراطية لا تنبت فجأة، وليست يافطة تضعها أي جهة على صدرها فتصبح ديمقراطية. لن تستطيع حركة طالبان بناء نظام حكم ديمقراطي، وعلى الأرجح سيكون مسعاها بناء “ولاية فقيه” سُنيَّة، لأن دستورها، وعقل كوادرها، لا يختلفان كثيرًا عن نظام ولاية الفقيه في إيران، إلا بالتسميات والمذهب المعتمد، لكن يبقى للواقع وتعقيداته، وأطرافه الداخلية والخارجية، كلمته أيضًا في مستقبل أفغانستان.
لا يتحدَّد معيار الانتصار بإزعاج الخصم والتغلب عليه فحسب، بل أيضًا بماذا تستطيع أن تقدم لنفسك وشعبك، وماذا تستطيع أن تفعل بعد “انتصارك” العسكري. ماذا تستطيع طالبان أن تقدِّم لأفغانستان المنكوبة سوى المزيد من الخراب؟! نعم أميركا هُزمت في أفغانستان، لكن وفق معاييرها، وليس وفق معاييرنا للانتصار والهزيمة. إن وجود طرف مهزوم لا يعني أن الآخر منتصرٌ بالضرورة، فقد يكون هو الآخر مهزومًا أيضًا، وربما بدرجة أكبر؛ انتصر النظام السوري، لكنه مهزوم هو الآخر، وسورية كلها هُزمت.
ألم ترتكب طالبان جرائم عديدة في حق الأفغانيين؟ ألا تستحق “العدالة الانتقالية” أن تكون على جدول أعمال طالبان والأفغانيين؟! لا يوجد أي معيار سياسي عقلاني في تأييد أي جهة سوريّة لحركة طالبان. لا يوجد فعلًا سوى البعد الديني المذهبي وراء الاحتفاء بها. لكن هذا الترحيب بطالبان له دلالاته وآثاره على المستوى السياسي السوري، ويطرح تساؤلات جوهرية؛ هل يمكن حقًا بناء الثقة بهيئات وحركات وشخصيات سوريّة ترى خيرًا في طالبان أو تتوقع منها بناء دولة؟! هل يمكن بناء تحالف سياسي مع هذه التراكيب المدنية والسياسية بقصد بناء الدولة الوطنية الديمقراطية في سورية؟ بالطبع لا. كل التحالفات التي نمت في هذا السياق كانت شكلًا من أشكال التواطؤ المشترك، أو التكاذب، بين قوى إسلامية مغرقة في الأيديولوجية، وتدعي التسامح والديمقراطية والوطنية، فيما هي لا تشتري هذه الكلمات بقشرة بصل، وعيونها معلقة بأوهام الخلافة الإسلامية أولًا وأخيرًا، وقوى أخرى واهمة هي الأخرى أيضًا، ليبرالية ويسارية وقومية وغيرها، اعتقدت أنها بهذه الطريقة تستطيع احتواء مثل هذه الحركات الإسلامية، وأن وجود خصم مشترك كافٍ لبناء التحالفات معها.
هذا الكلام ليس بقصد إعلان القطيعة، فلا حكمة في ذلك أبدًا. لكن ينبغي لنا إعادة بناء الثقة على أسس جديدة، واضحة، وحقيقية، من دون نفاق ولا مجاملات، وأول خطوة هي المصارحة والوضوح. تحتاج الثقة أيضًا إلى تثبيت أرضية مشتركة، وهدف مركزي؛ بناء الدولة الوطنية الديمقراطية الحديثة، وينبغي لأي قوة سياسية أن تنظف خطابها وممارستها وبناها التنظيمية من كل ما يتعارض مع هذا الهدف الوطني، وغير ذلك لا قيمة لأي تحالف، ولا خير في أي قوة سياسية أو فعل سياسي.
المصدر: المدن