يُحكى أن خالدًا بن الوليد شكَّ في ردّة جماعةٍ عن الإسلام؛ فأسرهم لينظر في أمرهم، وكانت ليلةً باردةً؛ فأمر خالد مناديًا فنادى: “أدفئوا أسراكم”، وهي في لغة الكنانة القتل؛ فظن القوم أنه أراد القتل؛ فقتلوهم، ولم يُرد خالدٌ إلا الدفء. هذا هو التأويل الكارثي: هو تأويلٌ يركن إلى مخزونات الفاهم في لحظة الفهم فحسب، من دون التفكير في الفاعل ومخزوناته ودوافعه وحوافزه ولغته؛ فيفهم المُؤولُ الأمورَ كلَّها بصورةٍ تلقائيةٍ متكرّرة واعتيادية (بالنسبة إليه) تحيل على ذاته وحمولاتها فحسب، من دون أن يُحمِّل نفسه عبء التفكير في حوامل الآخر الفاعل ودوافعه والحوار معه للتحقّق منها. أن نؤول فعلًا ما يعني أن تتدخل منظومتنا الذهنية في فهم هذا الفعل، وهي حتمًا منظومةٌ غير متطابقةٍ مع منظومة الفاعل الذهنية؛ فهذه المطابقة غير ممكنةِ الوجود إلا في صورة وهم. وأن نؤول بصورة كارثية يعني أن نفترض أن هذه المطابقة دائمة الوجود في الواقع: أي أن نستند إلى حمولاتنا الذاتية في الفهم فحسب، وأن نعفي أنفسنا من فعل التفكير الذي يُقلِّب المسائل على أكثر من مستوى معرفي وقيمي، وينظر إلى نسبية المعرفة والحقائق بوصفها ركيزةً مهمةً من ركائز الفهم والتفسير.
يمكن الآن، بعد أن ضبطت السطور السابقة بإيجازٍ ما نعني بـ “التأويل الكارثي”، أن نميِّز بين الثورة السورية بوصفها فعلًا اجتماعيًا والثورة بوصفها تأويلًا لهذا الفعل الاجتماعي من غير الفاعلين به. ونناقش الطرح الآتي: الثورة فعلٌ اجتماعي قام به فاعلٌ يمكن أن نسميه “السوري الجديد” الذي تطوَّر مع الزمان وانفتح على الآخر، وامتلك ذهنيةً جديدةً في التفكير تُحفِّزُه على الحرية، (سمّاها الكاتب في مقاله السابق في “العربي الجديد” ذهنية ما بعد 2011). وتكوّن هذا الفاعل من أفرادٍ سوريين، غالبيتهم من الشباب الذي يمتلك أدوات تواصلٍ معاصرة، وطريقة تفكير وتحليل أكثرَ انفتاحًا على الحياة. هو الشباب الذي نجا من “سرير الأسد” الذي نصبه مثل “سرير بروكروستوس”، وأجبر معظم السوريين على النوم عليه، فـ “مَطَّ القصير وقصَّر الطويل”، حتى صار كل الذين ناموا على السرير على شاكلة صاحبه، ومنهم من معارضيه بطبيعة الحال. وما إن بدأت الثورة بوصفها فعلًا اجتماعيًا، حتى اندفعت إلى فهمها بصورةٍ كارثيةٍ خمسُ مجموعاتٍ من المؤولين، كان لكلٍ منها تأويلها الخاصُ بها؛ فأنتجت خمسة تأويلاتٍ كارثيةٍ:
أولًا، التأويل الأسطوري أو تأويل المعارضة الكلاسيكية: صحيحٌ أن الثورة السورية تأثرت بالثورات في تونس ومصر وامتداداتها في باقي المنطقة، ولكنها بالمعنى المفهومي شأنٌ سوري داخلي محض، يستمد مقومات فهمه العقلانية جميعها من فهم بنية المجتمع والسياسية السوريين، وبنية الحراك الجديد، ومتغيرات العمل السياسي السوري، وبنية الطغمة الحاكمة وآليات قراراتها الداخلية. يعني ذلك أن الاستناد الكامل إلى التصورات الخارجية، مثل تجربة ليبيا للتمهيد لتدخل خارجي، أو تجربة العراق لوضع “لا” للتدخل الخارجي، وإلى ما هنالك من تأويلات تستند إلى الخارج الدولي والإقليمي، ليس إلا واحدًا من انعكاسات فهمِ المعارضة غير العقلاني الذي يستند إلى أساطير وأوهام في رؤوس أصحابها فحسب، تؤدّي إلى تأويل أسطوري للثورة. لم تكن الأحزاب والتجمعات والمنتديات التي تشكل بمجملها المعارضة الكلاسيكية فاعلًا في هذه الثورة، ولم ترتقِ يومًا إلى مستوى الفعل، لأنها لم تبذل الجهد اللازم لفهم الآليات والديناميات الجديدة التي اشتغلت فيها الثورة، ولم تقترب وتتعلم من الشباب الذي يمتلك الثورة، ويمتلك نمط تفكيرها الذي ينتمي إلى المستقبل ويعمل بدلالته، والذي لا يعيش هوويًا في الماضي. مع ذلك، لا يبدو انتشار هذا التأويل الأسطوري خطأ المعارضة فحسب، بل خطأ الثورة الكارثي أيضًا، لأنها أوكلت المهمّة السياسية في الثورة إلى المعارضة الكلاسيكية؛ فنحن ندرك الآن أن هذا التفكير، وإن كان منطقيًا، لكنه لم يكن علميًا، ولذلك لم يكن صحيحًا. إذا آمنت أن السحرَ هو سبب الأمراض كلها ومرضت؛ فمن المنطقي أن تلجأ إلى العرّافة، ولكن هذا منطق أسطوري، يعني غير علمي، وإذا آمنت أن الأمراض هي اضطرابات فيزيولوجية وباثولوجية ومرضت؛ فمن المنطقي أن تذهب إلى الطبيب، وهذا منطقي وعلمي. وخطأ الثورة أنها آمنت بالمعارضة؛ فكانت تفكّر بصورة منطقية ولكن غير علمية؛ وكان هذا خطًأ كارثيًا.
ثانيًا، التأويل الغائي أو التأويل الإسلامي للثورة: يوجد عقلٌ لا يرى الدنيا إلا مع الإسلام أو ضد الإسلام، ولا يتّسع فهمه لمكانٍ ليس له صله بالإسلام، أو لشأنٍ من شؤون الدنيا التي “نحن أدرى بها” بتعبيرات الحديث الشريف، ولا يتسع فهمه أيضًا لكثير الحركات والمواقف والبشر التي ليست مع الإسلام وليست ضده: هي غير معنية بذلك، وتعالج موضوعات منفصلة وحيادية إزاء موضوع الإسلام والأديان، ومنها الثورة السورية؛ فهي في أصلها فعلٌ غير متصلٍ وغير معني بالإسلام لا سلبًا ولا إيجابًا. ويوجد نمطُ التفكير هذا عند جماعتين: الأولى دينية أهمها الإخوان المسلمون والسلفيون وتصنّف نفسها “إسلامية”، والثانية للمفارقة جماعةٌ تعرف نفسها بعدائها للإسلام وتصنف نفسها “علمانية”، ومنها بعضُ الذين يرونَ هويتهم في مصطلح الأقليات الدينية، أو في مصطلح العلمانية فحسب. ليست الجماعة الأولى إسلامية والثانية ليست علمانية، على الرغم من إصرار كليهما على التسميات.
أوّلت الجماعة الأولى الثورةَ بوصفها فعلًا غاياته إسلامية، فلم تخرج هذه القوى في ذلك عن عاداتها في الفهم الرغبوي الذي لا يقيم وزنًا للواقع. وأوَّلت الجماعة الثانية الثورة التأويل نفسه، ولكن تأويلها لم يكن رغبويًا يستخدم للاقتراب من الثورة مثل الإسلاميين، لكن كان هوويًا خائفًا يُستخدم للابتعاد من الثورة ثم الاقتراب من النظام. وفي النهاية، خسر الاثنان أخلاقيًا ووطنيًا، وخسرت الثورة وسورية كارثيًا.
ثالثًا، تأويل معياري إيماني أو التأويل النخبوي للثورة: ليس شرطًا أن تنتمي إلى الدين وتؤمن بالله، لكي تفكر بطريقةٍ إيمانية، وليس شرطًا أن تنتمي إلى قبيلةٍ لتفكّر بصورةٍ عصبية. بل كشفت الثورة أن النخب السورية التي تنتمي إلى ما قبل 2011 هي بصورة أو بأخرى مجموعةٌ مثل الطائفة أو القبيلة، ولكن روابطها أقلّ تماسكًا، وهي عصبيةٌ ركيكةٌ مقارنةٌ بالطائفة والقبيلة. ولكن لها بنية التفكير ذاتها: تفكّر بصورة عصبية وإيمانية مطلقة ويقينية، ولها مقدّسات مثل المقدّسات الدينية، اكتملت في مرحلة ما من تاريخها؛ فلا تتعرّض للنقد أو المراجعة. وفي الوقت الذي كان الإسلاميون فيه يؤولون الثورة بوصفها فعلًا غائيًا غاياته إسلامية؛ كانت النخبة المثقفة أوَلته بوصفه فعلًا معياريًا، يتّخذ من معايريها المسبقة الصنع أنموذجًا للصح والخطأ. مشكلة هذا النوع من التأويلات أنه لا يرى الثورة صالحة، إلا إذا اتّبعت معيارًا واحدًا سائغًا في تقويماتها، في حين أن الثورة فعل عابرٌ للقيم المقولبة، وهي محاولة تاريخية لإبداع قيمٍ أكثر عصرية وأكثر حرية، إضافةً إلى معرفتنا اليوم بأن معايير النخب المقولبة جميعها قد سقطت في امتحان الأحقية منذ 2011. هذا النوع من التأويل كارثي لأنه يعرقل التطور القِيمي الذي تحاول الثورة ابتكاره، ولأنه يقف ضده بصورة إيمانية. نحن لم نستكمل بناء أي نخبة بعد 2011. وحتى حينه، يظل مفهوم النخبة مفهومًا ينتمي إلى ما قبل 2011 وينتج تأويلات غير ملائمة للثورة في أكثر التقديرات تفاؤلًا.
رابعًا، تأويل درامي نفساني: وجد أصحاب هذا التأويل الثورة مسرحية درامية، ينبغي أن يؤدوا فيها دور البطل على الخشبة. وفي الحقيقة، يبدو لأسباب نفسانية تحيل على عقدٍ وأمراض أن هؤلاء لم يميزوا بين الحقيقة والتمثيل. واعتقدوا بصورةٍ راسخة أن مشاهدهم التمثيلية في الثورة فيها متعةٌ للآخرين، وتعود عليهم بالشهرة والنجومية. ومن هؤلاء من صدَّق تمثيله، ولا يزال مقتنعًا بأنه بطلٌ حقيقي، ومنهم من لا يزال يؤدّي أدوارًا مختلفة ومتغيرة ومتناقضة، من دون الشعور بأي مشكلة؛ فهو لا يتصوّر المسائل حقيقية، ويبدو أنه مريض إلى درجة لا يفهم أن هذا الموت الذي نراه حقيقي، وأن بكاء الأمهات لا ينتهي بانتهاء مقابلة تلفزيونية أو مشهد تصويري. لا يزال بعض هؤلاء يقدّم نفسه حكيمًا وسياسيًا بارعًا وبطلًا وحيدًا، والكارثة الكبرى أن بعضًا منهم له أتباع.
خامسًا، تأويل ممنهج أو تأويل الطغمة الحاكمة: هذا هو التأويل الكارثي الوحيد الذي يدرك أصحابه من المجرمين أنه كارثي، والذي يسعى إلى الكارثة بصورة ممنهجة، وتخدمه التأويلات الكارثية الأربعة السابقة من حيث لا تدري، وتشترك معه في الانتماء إلى ذهنية ما قبل 2011.
وختامًا، نقول إن غياب تأويل عقلاني للثورة يُفكر بعد 2011، ويقارب المسائل بدلالة المستقبل، يفسح المجال أكثر للتأويلات الكارثية؛ فيطيل الكارثة كل يومٍ أكثر. وهذا الغياب بحد ذاته كارثي، ينبغي التعامل معه والوقوف في وجه التأويلات الكارثية كلها. والأكيد أن التأويلات الأربعة الأولى جميعها لا تنتمي إلى الثورة، لأن نمط تفكيرها ينتمي إلى ما قبل 2011؛ وأن الطغمة الحاكمة ليست عدوًا سياسيًا للثورة، لكنها عدو تأويلي له ذهنية قاطع طريق إجرامية لا تمتّ للسياسة بصلة.
المصدر: العربي الجديد