ميشيل سطوف: علينا أن ندرك أنّ إيقاع صيرورة طيّ ملفّ الأسد قد لا ينسجم مع حساباتنا

  غسان ناصر

يستضيف مركز حرمون للدراسات المعاصرة، هذا الأسبوع، الكاتب والمترجم والأكاديمي، المعارض السياسي المخضرم الدكتور ميشيل سطوف، المنفيّ عن وطنه الأمّ سورية قسرًا منذ ما يزيد عن خمسة عقود. ضيفنا، وهو من مواليد قرية الزويتينية في وادي النضارة، محافظة حمص، عام 1946، درس الطبّ في الجزائر، وهو مقيم بين الجزائر وفرنسا منذ عام 1963.

واكب سطوف، المعارض لخط الأسد قبل انقلابه وللحقبة الأسدية، النضال الوطني والجبهوي في الخارج، ضمن شروط هذا النضال وشروط قوى المعارضة الوطنية، رافضًا إغراءات النظام له بــ “المناصب” والعودة إلى أرض الوطن، في ظلّ حكم الأسدين (الأب والابن). وهو منخرط في مسيرة الثورة للتغيير والتحرير، منذ انطلاقتها في آذار/ مارس 2011، ومنكبٌّ على ترسيخ أسس ومنهجية وضرورة الحوار الحرّ واستقلالية الضمير، لمراكمة وعي يستجيب للمهمّات الوطنية والحداثة، خارج العصبوية والتطرّف والإقصاء. ومما يُحسب له تحريره “مذكرات” لهياكل المعارضة، من أجل المراجعة والإصلاح والخروج من مسار العطّالة والتبعية والضرر.

وللطبيب ميشيل سطوف، الناشط النقابي أيضًا، عشرات المؤلفات في حقول الشعر والصحة العامّة والسياسة؛ أبرزها -في الحقل الأخير- كتابه الموسوم «بشار الأسد أضاليل.. ونهاية “عهد”»، الصادر في آب/ أغسطس 2011. وله ترجمات عديدة مهمّة، كسلسلة «أصوات مناهضة للاستدمار»، التي صدرت عن “المؤسّسة الوطنية للاتّصال والنشر” في العاصمة الجزائرية تباعًا، في عام 2007، وقد قدّم لها الرئيس الجزائري السابق عبد العزيز بوتفليقة.

هنا نص حوارنا معه..

في مستهلّ حوارنا معكم، دكتور ميشيل سطوف؛ ماذا تحدّثنا عن أبرز محطّات رحلتك في الحياة وفي عالم السياسة؟

الحديث الإعلامي عن الذات وأبرز المحطّات في الحياة وفي السياسة، بالنسبة إلى البعض، هو الحديث في السهل الممتنع بجدارة، خاصّة مع تقدّم العمر، وعلى الأخصّ في مناخ حرارة اللحظة الوطنية التي يجب أن تظلّل كلّ حرف، ويزداد الأمر صعوبة، حين يكون الحديث عن شاب تعرّف إلى الشأن العامّ، في جوقة إيقاع فرحة قيام الوحدة السورية – المصرية وما عرفته من حماس جياش، وإيقاع الحزن على حدوث فكّ الوحدة ونجاح الانفصال، شاب طار من قريته البسيطة في منطقة وادي النضارة أواخر عام 1963، في إطار بعثة من خمسين طالبًا لدراسة الطبّ في الجزائر، وزار وطنه سورية منذ ذلك التاريخ ثلاث مرّات فقط (أسبوعين في كلّ مرّة)، في إطار معسكرات طلابية كرئيس فرع “الاتّحاد الوطني لطلبة سورية” في الجزائر، زيارات سمحت بالتعرّف إلى إشكاليات السلطة وازدواجيتها الساخنة، بعيد فاجعة هزيمة حزيران/ يونيو 67، والدور الخطير الذي لعبه وزير الدفاع -آنذاك- حافظ الأسد، وصاعد من لعبه بعد الهزيمة، تعرّفٌ واقترابٌ كان على لسان مصادر قيادية في “حزب البعث” الحاكم. الأمر الذي سمح لي في كلمة الفرع الطلابي، في لقاء الجالية السورية في الجزائر مع الوفد السوري الذي ضمّ رئيس الدولة الدكتور نور الدين أتاسي ووزير الدفاع حافظ الأسد وآخرين، في شباط/ فبراير 1970، أن أنتقدَ خطّ وسلوك وزير الدفاع والعسكر. وأدّى ذلك إلى سحب الوثائق المدنية نهاية العام ذاته، بعد وقوف الفرع الطلابي في الجزائر ضدّ انقلاب حافظ الأسد. وكانت تلك عملية نفي موصوف، حيث لم أدخل سورية، منذ صيف عام 1969 حتى اللحظة، بالرغم من مبادرة سلطة الأسد على تقديم إغراءاتها في مطلع الثمانينيات، في أثناء النزاع مع الحركة الدينية المسلّحة، ولفترة طويلة، من أجل العودة و”المناصب”، كما قدّمت تلك الإغراءات في الأشهر الأولى لاندلاع انتفاضة شعبنا الثورية في عام 2011.

ما يهمني تسجيله عامدًا -في هذا السياق وفي هذه اللحظة الوطنية بالذات- هو إيماني وتراكم وعيي بضرورة اعتماد ثقافة الانفتاح الوطني -فردًا وجماعات وتشكيلات- وتغليب الانتماء الوطني على كلّ ما عداه، وإدراك ضرورات العمل المشترك في الشأن العامّ، وحال الوطن هو ما هو عليه منذ بعيد الاستقلال أو الجلاء الاستعماري، مهما كانت الانتماءات الأيديولوجية والهويات الفرعية. كذلك الانفتاح العربي الحيوي للعمل المشترك والمصالح المشتركة والمصير المشترك دون زيادة أو نقصان. لقد كان ميدان الفرع الطلابي الفضاءَ الذي أتعلّم فيه ومنه، وأمارس وأراجع، حيث كان النجاح في تشكيل مجالس الفرع من كلّ الأطياف السورية بما هو أوسع من الخلفيات الأيديولوجية، دون إقصاء، وبعكس التيّار السائد في تجارب السلط والأحزاب الشمولية و”ثقافة” التكلسات العقائدية. تلك المحطّة أنضجت وعيي النقابي والسياسي في التعامل مع الفروع الطلابية الأخرى الموجودة في الجزائر من مختلف البلدان، وسمحت بالتضامن مع نضال حركات التحرّر: الفلسطينية والأحوازية والأريتيرية والفيتنامية وغيرها. وقد سمح لي تقاطر أعضاء من القيادتين القومية والقطرية لـ“حزب البعث”، ممن عارض انقلاب حافظ الأسد في تشرين الثاني/ نوفمبر 1970، من جنسيات عربية مختلفة، إلى الجزائر في عام 1971، بأن أنخرط في العمل الحزبي والسياسي سنوات، وأن ينصبّ الجهد مع العديد من كوادر حزبية مطرودة من دول أوروبية أو هاربة من سورية، على أمرين أساسيين: نقد تجربة التنظيم والسلطة، بموضوعية مستوفاة من جهة والعمل الجبهوي الذي يعدّ مقياس الوعي؛ وجدّية النضال وتجاوز الأخطاء من كلّ نوع من جهة ثانية. ولقد بقي -حتى اللحظة- هاجس العمل الجبهوي المشترك ديدني ودافعي العنيد، طوال عقود عديدة، مع القيادات التاريخية لمختلف أطياف “المعارضة” من دون إقصاء أو كيدية، حيث تعلمت الكثير، على الأقلّ لجهة التعويض عن ابتعادي الفيزيولوجي عن الوطن وجماهيره واستيعاب الذهنيات المحركة لفئات العمل الوطني، وأعطاب التخلف الذي لمست عمقه وانتشاريته. هكذا، كانت خلفية حراكي المبكر أيضًا بين “المجلس الوطني السوري” وبين “هيئة التنسيق”، للعمل المشترك ضدّ عدو مشترك بذهنية جديدة مواكبة لمعنى ومستلزمات الثورة. وهكذا تضمنت مذكراتي لـ“المجلس الوطني” و“الائتلاف” تصوّرات لتدارك الأخطاء في الوعي والسلوك والحسابات..
وهكذا البقاء على التعهّد الذاتي الاستمرار بالتركيز على الحراك والسعي مع أصدقاء مؤمنين ومستوعبين، لتوفير ضرورات العمل الوطني والثوري الجبهوي، وفي المقدّمة: ترتيب البيت الوطني الداخلي المؤمن بالوطن ومسيرة التغيير وتحقيق أهدافها: انفتاح بيني وديمقراطي -استقلالية مستوعبة- وواقعية ثورية وليست مضادة للثورة، في مرحلة تهدّد الوطن بوجوده ومصيره على أكثر من صعيد.

 مصير الوطن ووحدته الترابية والمجتمعية تواجه أخطارًا وأجندات

تزداد التعقيدات في الملفّ السوري يومًا بعد يوم، مع تشرذم المعارضة وعجزها عن اتّخاذ قرار سياسي موحّد، بالتزامن مع عدم تحقيق اللجنة الدستورية” أيّ تقدّم ملموس على الأرضوفي المقابل، لم يقدّم مسارا أستانا” وسوتشي” أيّ خطوة ملموسة على الأرض، بينما يبقى القرار الأممي 2254، القاضي بتشكيل هيئة حكم انتقالي في سورية، مجمّدًا بفعل التدخّلات الدولية في الملفّ السوريالسؤال: ما المَخرج؟ وإلى أين المسير وفقًا لهذه المعطيات؟

بين جدل الأسباب والنتائج وجدل الثورة والمعارضة، أو الاستقلالية والتبعية، والانتفاضة والثورة، أو الثورة والحرب الأهلية… جدل المناعة الوطنية ومناعة الضمير ومختلف أنواع الاختراقات، ليس فقط تلك الاختراقات الأيديولوجية أو الأمنية أو السياسية، بل في المقدّمة اختراقات “الجهل”، جهل طبيعة ومهمّة النظام الأسدي، كحقبة لها مواصفاتها وكوظيفة لها مشغلوها، بما هو أبعد من الوقوف على شخص بشار ذاك أو عصبة طائفيين ومنتفعين من كلّ الانتماءات. جهل طبيعة المرحلة وترتيب الأولويات، وجهل معاني الثورة ومستلزماتها من نظرية وحامل وأجهزة وصيغ نضال غير قابلة للتصرف الكيفي، وليس خطابات تفريغية، كلّما ارتفعت حرارة الحناجر فيها، خّفت حرارة الوعي والجدوى.. جهل لطبيعة النظام الدولي وطبيعة العلاقات الدولية خارج اصطفافات نظريات التآمر والانحياز، مهما توفّر بعض الصحة في المقاربات المتناقضة، أو الحكم على الوضع الدولي ككلٍّ متخاذل، في وقتٍ تنحو فيه الخطابات نحو التسليم بتدويل المسألة السورية وأنّ الحلّ دولي، وما يعنيه هذا من اختلال في الرؤية والبصيرة والإدراك، لدى عديد النخب التي تُربك الجماهير المسكينة المنسية والزاحفة وراء رغيف دون سقف أو كرامة على طول الوطن، فضلًا عن “سلعة” الحرّية المفقودة أصلًا.. جهل لمقتضيات العمل الوطني من قبل عديد الفاعلين والناشطين، ما دام هناك فوضى في الحراك والمواقف، ونوّاسُ الارتداد على الذات وإسقاط المسؤوليات على من هم معتبرون في ذات المعسكر، لتصبح التناقضات البينية أدهى من التناقضات مع الأعداء، ولنُصدّر التيه للجماهير التي حافظت بعفويتها على “صبرها الإستراتيجي” في معركة عض الأصابع، مع سلطة مارقة متهاوية لم تستطع، بالرغم من كلّ الحيثيات السائدة لصالحها، تأهيل ذاتها كما لا يمكن تأهيلها، وحيث إنّ قضية استمرار هذه السلطة قضية وقت لا يطول، دون أن يعني ذلك انتصار الثورة أو إنجاز أهدافها الرئيسة بالضرورة، بل ما يمكّن من تبدّل في مناخ المواجهة وافتتاح مرحلة التفاعل الشعبي ما بعد الانعزالية والكيدية وإعادة التموضع لآفاق نضالية وطنية جديدة، مع إدراك أنّ مصير الوطن ووحدته الترابية والمجتمعية تواجه أخطارًا وأجندات يُعمل عليها، وحيث لا يجوز لأحد، حتى لمن يعتقد أنّ التقسيم أو التشظّي غير واردين لأسباب تساق، أن يسترخي أمام هذه الأخطار.

كلّ هذه المعطيات من بين أمورة كثيرة مهمّة يمكن تسجيلها -خاصّة موقع الفكر في السياسة وموقع الثقافة السائدة أو المستجدّة في السياسة، كذلك موقع العمل المسلّح والنضال المدني المجتمعي- ليست سوى بعض تضاريس المقدّمات للحديث عن المخرج الذي يعني بالضرورة: الأزمة. وفي الواقع، هناك أزمات كالأواني المستطرقة أمام شعبنا وقواه القادرة على النشاط، وهناك بالضرورة مخارج فرعية موائمة، حيث أؤكّد أنّ الثابت الذي يتحصن بمعناه هو: بوصلة التغيير والديمقراطية والحداثة على الطريق الطويل والمكلف للوصول إلى دولة الكلّ الوطني، دولة المواطنة، مع التنبيه إلى أنّ “الديمقراطية” كلمة غالبًا ما يتمّ اجترارها وتشويهها وتفصيل مقاييسها، وما زالت الحاجة كبيرة لاستيعاب لوغاريتمها ومعانيها ومقتضياتها.

السؤال المربك هو: ماذا تعنيه كلمة “مخرج” في واقعنا الشاخص بتعقيدات وتحدّيات وتجاذبات لا تربك القضية الوطنية وتعبث بها، بل أيضًا أصبحت تربك الفاعلين -كلّ الفاعلين من سلطة ورعاتها ومن قوى خارجية عديدة معنية بالمحنة السورية- في مناخ دولي انتقالي صراعي جشع نحو نظام جديد بأداءات فظيعة لا مكان فيها لاحترام الحقوق والأوطان وحياة الإنسان أو لرحمة واعتبار إنساني..
رؤى سياسية عديدة ووثائق متشابهة لمشاريع متنوّعة ووسائل اتّصال مثقلة بالحوارات والسجالات تملأ الفضاءات.. وهياكل معارضة أقلّ ما يقال فيها أنّها فاشلة عاجزة ومعطّلة لأيّ حراك فاعل، حيث إنّ محصلة وضعها نقلها بهذا المعنى من قيادة العمل الوطني إلى أداة وضيعة وظيفية خارج العمل الوطني السوري، وبالتالي لا يتجنى كثيرًا من يصفها بهياكل الثورة المضادّة، قبل أستانا وبعدها، “المخرج” قضية بذاتها لا توصف لا بكلمة ولا حتى ببرنامج نظري مرتفع السقف والنبرة. المخرج كمسير ومسار يحتاج إلى مقدّمات تعنينا، وهو يجب أن يعني المخرجَ الوطني كمحطّات على طريق التجاوز والتغيير الوطني بدراسة واقعية لمعاني التمسّك بالقرارات الدولية المعنية وتوفير أدوات التفسير المنسجم مع ثورة شعب على نظام خارج السياق العالمي، لا أن يعني البحثَ والتنجيم الانتظاري لصيغ مخارجية دولية قد تُفرض علينا ويبقى سؤال “المخرج الوطني” مطروحًا.

ما يجب أن يتمّ هو البحث الوطني المسؤول على صعيد الفرد السوري، أينما كان، وعلى صعيد الجماعات والمشاريع عن التوافق على الضرورات الآمرة كمقدّمات لا بدّ منها لمنهاج الخلاص الوطني، فقد تغيّرت الأوضاع بشكلٍ عميق وواسع، ولم تعد أحاديث الثوابت العائمة والمشاعر الملتهبة عنيدة على لازمية المراجعة والتكيف مع وجوب احترام بوصلة التغيير والتحرير.

ما يعنينا -باعتقادي- قبل الاجتهاد بوضع سلسلة من النقاط من فرد أو مجموعة كخارطة طريق وبرنامج مختار، هو توفير وتفعيل مقدّمات لإبداع “المخرج الخلاصي المستوعب بمداخله”: المراجعة والواقعية والانفتاح والتسليم بنسبية الحقائق ونسبية المواقع والمسؤوليات ووعي جدلية العمل المشترك، بعيدًا عن الأحكام الجامدة والمسبقة والكيفية والقطعية وبعيدًا عن التوفيقات الانتهازية ومسح الحدود، حيث النظر إلى سورية كوطن لا كقطع كلّ منها كان أو أصبح ذا خصوصية.. وكلّ مجموعة أصبحت تدّعي امتلاكها خطوطًا تكتيكية وإستراتيجية متميزة.. لا أخفي الحاجة إلى أمل أوسع بكثير مما هو ملموس، وأنّي أتطّلع إلى مكوّنات جديدة فاعلة تدخل على خط العمل الوطني.

ما نظرتكم إلى الانتخابات الرئاسية السورية الأخيرة، التي زعم بشار الأسد أنّه فاز فيها بنسبة 95.1%؟ وكيف قرأتم خطاب القسم؟

من الطبيعي أن ينظر الأسد إلى نفسه كحاكم شرعي يُجري انتخابات دورية، وأن يرفض كلّ الضغوط -إن وجدت- فاضحًا إشاعات من هنا وهناك بهذا الخصوص، بما فيها الحرتقات الروسية. ومن غير الطبيعي أن يتوقّع البعض العكس من هذا الرجل وذهنية تسلّط حكم الأسدية. ومن الطبيعي أيضًا أن يذهب بلعبته المفضلة في التحدّي والاستهتار وتعويض النقص المتأصل في شخصيته المصابة بقصور النضج والصبينة، والوفاء المعهود لتقاليد أجهزته، وأن يقدّم أرقامًا كيفية في السجلات والأعداد والنسب، تفضح أصاحبها مع كلّ السخرية. وبالتالي فهو يبقى منسجمًا مع نفسه وكذبه في كلّ شيء وخاصّة الشرعية.

لا شكّ في أنّ هذه الانتخابات تمثّلت بقمة الهزلية والتسلية، خاصّة عندما يعترف” المنافسون” بأنهم إنّما استجابوا لطلب الأجهزة الأمنية بالترشّح، وعندما يتبجّح منافس بإهداء صوته “للرئيس”، وتتمّ مكافأته بتسميته وزيرًا. الموقف المضحك الآخر هو ذلك الإسفاف في مدح بشار وتغطيته من قبل الأجهزة الروسية، في وقت فضحت غالبية الشعب السوري حتى في “حاضنته” سخافة المسرحية، ورفضت الأطراف الأساسية المعنية بالمسألة السورية كلّ العملية وكلّ ادّعاء لشرعية قاتلِ شعبٍ، ومدمّر وطن، وبائع مَا لا يملك.

أما عن خطاب القسم، والذي من المفيد أخذه على محمل الجدّ، من منظار تفكير الرجل وبلواه فقط، فإنّه في حقيقته يفضح ضعفه المستتر بلهجته الانتصارية المفتعلة، ويفضح موقف الدب الروسي وحدود حركته وتأثيره أحيانًا، أيًّا كانت القراءة والمقاربة، من حيث ابتزاز الأسد للراعي الروسي، وما يتبع من سلوكيات أجهزته مع زيارة وزير خارجية الصين من التلويح بإضافة سيّد جديد له حصّته التنافسية، كما لو أنّه سيّد اللعبة -وهو ليس أكثر من برغي في ماكينة العلاقات الدولية- وفي واقع وطني معمّم، يفضح تهالكه في كلّ شيء كـ”سلطة” فاشلة ومنهارة بعد انهيار الدولة، وكمسؤول يؤمن بمسرحية “الشاورما”.

ما تقييمكم للانتخابات الأخيرة لـ“الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية”، التي أسفرت عن فوز السيد سالم المسلط برئاسة الفترة الحالية؟

هي مسرحية المضحك المبكي أيضًا، بكلّ موضوعية، ما دام “الرئيس” معروفًا قبل الانتخابات بأسابيع، وما دام اجترار الوجوه ذاتها يتم بصورة أكثر كاريكاتورية من مسرحية بشار الذي يبقى يملك من أمره شيئًا وهم لا يملكون. وهو يفعل الكثير “لقضيته” اللاشرعية، وهم لا يفعلون شيئًا لقضية وطن، بل يعطّلونها واقعيًا، لا إرادة، ولا برنامج، ولا سلطة، ولا صلاحيات.

ومع كلّ مسؤول جديد، هناك فضيحة جديدة، إذ كيف يمكن النظر إلى تصريح رئيس “الائتلاف” المُنَسّق لتوّه بأنّ اللحظة قد حانت لضرورة إصلاح “الائتلاف”؟ لقد كنت قد تقدّمت لهم شخصيًا بمذكرة (وهي منشورة) في أيلول/ سبتمبر 2020، ردًا على دعوتهم للبحث في توسعة “الائتلاف” الفضائحية وغير المبرّرة على أساس الطوائف، بكلّ ما تحمله حكمًا من أذى مفتعل لقضية الثورة والشعب كيفما كانت المقاربة، مذكرة تحتوي على خارطة طريق للتصويب والتكفير عن خطايا. وأجابوا بالاهتمام والمتابعة، مع البقاء في دائرة الاعوجاج البنيوي والتشاطر المنتهي الصلاحية كحالتهم.

إنّ الدخول، من خلال الرئيس الجديد، على خط العشائر، وبمطالب إقليمية لحسابات خاصّة في واقع الانقسامات الشاقولية للعشائر، لهو خطأ إضافي، كما لو أنّ رئيس “الائتلاف” -أيًّا كان- يملك صلاحيات حقيقة أو ربع حقيقية، أو كما لو أنّ لـ “الائتلاف” برنامجًا ونشاطًا ومراجعةً أو محاسبة أو مصداقية لدى الشارع الوطني. مسار “الائتلاف” وحصائله، من خلال تصريحاتهم وواقع “الهيئة العليا للمفاوضات” التي تعجز عن مفاوضة أطرافها، وواقع “اللجنة الدستورية” التي تلبي حاجات كلّ النافذين إلّا حاجة المحطّات الوطنية بحججٍ تفضح أصحابها قبل أن تفضح سلطة الأسد، كلّ هذا يعزّز سخرية هذه التشكيلات التي تمارس سياسة الالتصاق بالكرسي أكثر من الأعداء. لقد “فسد الهواء في القاعة”.. والجماعة سعيدة بأنّها ما زالت في القاعة..

 ضرورة تخليق جسم معارض بديل متقدّم عمّا هو قائم

لماذا خسرت المعارضة السورية رهاناتها؟ هل كان تعويلها على التدخّل الخارجي سببًا في هذه الخسارة؟ وكيف يمكن تفسير ما يحدث اليوم من تجاهل المجتمع الدولي لكل قوى المعارضة؟

بعد أكثر من عشر سنوات على انتفاضة الشعب السوري الثورية، وما عرفته من محطّات وتقلبات وانزلاقات وتعقيدات.. وسوء إدارة لمجريات النضال الوطني؛ لم يعد مهمًّا الحديث عن المقاربات الأوّلية كإشكالية التدخّل الخارجي والأخطاء “الخطابية” التي وقع فيه طرفا الرؤى، ممن كان يتمناه أو ممن كان يرفضه، لأنّ التدخّل الخارجي -وهو عنوان مبهم في العمق- ما كان يمكن أن يكون قرارًا “سوريًا” لأصحاب التمثيل، وما كان له أن يحدث حتى لو خرج قرار دولي بشأنه، إذا لم يكن هناك مصالح كبرى لمن يريد التدخّل ويستطيع أن ينفّذ دون إعاقات تفرض الحسابات، وهذا لم يكن مطروحًا أو واردًا أصلًا، لذا فإنّ الحديث عن التدخّل الخارجي كان مطبًا وقع فيه الجميع، بجهل وانسياب، عبّر عن عدم فهم حقيقة العلاقات الدولية وعدم فهم طبيعة ووظيفة نظام الأسد وحقائق الأجندات العديدة بمختلف تناقضاتها وتقاطعاتها، بل جهل في قراءة الأهمّية الجيو_إستراتيجية لسورية.

لقد قلنا حينذاك إنّ المطلوب هو مطالبة مؤسّسات المجتمع الدولي باحترام مختلف القوانين المتعلّقة بحماية المدنيين، بعيدًا عن الحديث عن نقطة خلافية وطنيًا، ووهمية واقعيًا. ومن الطبيعي، بغض النظر عما أشرت إليه بخصوص طبيعة العلاقات الدولية ومؤشّرات التعامل غير البريء مع ساحات الربيع العربي، وتوافر الأجندات الإقليمية والدولية المستهدفة للساحة السورية، أن يكون تطوّر مواقف مُسمّى المجتمع الدولي الخاضع للحسابات الأميركية قبل كلّ شيء، وبقية الدول الكبرى الفاعلة، مرتبطًا بمجريات الأوضاع الميدانية وموازين القوى المتحركة، حيث استطاع نظام الأسد الإفلات من المأزق في خط صاعد، بينما استمرّت -في اتّجاه هابط معاكس- هياكل المعارضة القليلة الخبرة والضعيفة التأثير في الميدان والمعدومة الاستقلالية عمليًا، وبقيت أسيرة العاملين الخطيرين: عامل غلبة البندقية وتحوّلها إلى فصائلية منفلتة أكثر فأكثر، بحكم الانصياع للمموّلين (المشبوهين في خلفياتهم ومقاصدهم لتفريغ العمل الوطني من طهارته) وما أكثرهم! زيادة على تعطيل وتجميد وانحراف هذه البندقية على حساب الفعل الوطني التحريري وحساب معاناة حملة البندقية المقهورين المستلبين، من جهة، ومن جهة أخرى عامل سيطرة مُسمّى “تيّار الإسلام السياسي” بشكلٍ متزايد، الذي كان وما زال أسير رعاته الخارجيين، كأداة وظيفية وكأسير وَهمِ تقديم البديل المقبول، والممكن كشريك لنظام توليتاري لا يقبل أيّ شراكة.. ونلحظ اليوم الجهود التي تبذل لإعادة تأهيله.

لقد وجد المجتمع الدولي الموصوف بحسابات العلاقات الدولية (المؤسّسة على قاعدة المصالح والنفوذ والاستغلال)، ضالته في تهافت قيادات هياكل مُسمّى المعارضة وانعدام وزنها، ليُبقي عليها فقط كغطاء محتمل لاستمرار تخاذله وحسابات أطرافه، استهلاكًا للوقت وتبريرًا لهذا التخاذل تجاه قضية شعب مستباح، ولإسقاط المسؤولية والحجج على “معسكر المعارضة” المغيّب. كيف يمكننا الحديث أمام العالم وعن الدول، حين يستمرّ “الائتلاف” وبناته ومنصّات المعارضة المختلفة في “مَواتٍ” مشهود وفي فضائح العجز المريح، وحين يتحوّل سوق الفصائلية إلى الارتزاق في عديد الساحات الدولية؟ باختصار: إن هياكل المعارضة تقبع في حافظة بانتظار قطع التيّار الكهربائي، وإنّ دعاية نظام الأسد -ورعاته- أيضًا، بعدم وجود محاور أمامه، يزداد صداها في الوضع الدولي والإقليمي، حتى لدى رعاة هذه الهياكل؛ “فالسياسة” لا ترحم الضعفاء والمتهافتين.

هل من الممكن اليوم إعادة تأهيل هذه المعارضة، بل المعارضات، عبر إعادة تشكيل المؤسّسات التابعة لها: “الائتلاف” و“الهيئة العليا للمفاوضات” وو..، وذلك من أجل أن تصبح أقوى من قبل وقادرة على الاستمرار للوصول إلى سورية المستقبل؟

لقد قلنا مع من شخّصوا وضع نظام الأسد في مطلع الثورة، بل قبيل الانتفاضة، إنّه لا يَصلُح ولا يُصلَح ولا يُصلِح.. لا نغالي بالقول إنّ مثل هذه المقاربة تنطبق تمامًا، منذ زمن بعيد، على واقع هياكل المعارضة المسترخية في حالة غيبوبة متعمّدة وواعية عن أي نداء أو تصوّر للمراجعة والإصلاح..

الأهمّ أساسًا وبداية هو عدم ولوج الخطايا: كحال سقطات مساعي توسيع “الائتلاف” على أساس طائفي وانتهازي، في وقتٍ ننشد فيه تغيير النظام والوصول إلى دولة المواطنة، والتأكيد على نبذ وعلاج الأمراض أو النزعات الاجتماعية ما دون الوطنية. أو حال تبويب هذا السيد أو تلك السيدة لقيادة “الائتلاف” والحديث عن همّة إصلاحية ومشروع جديد لينقضي عام أو عامان دون أيّ حضور، وليعود المسؤول بعد انتهاء “ولايته” للحديث عن إصلاح، أو حال استرجاع جماعة “أستانا” / “سوتشي” الشهيرة بالبصم على تنازلات وبنبذ الشارع الوطني لها في صدارة “الائتلاف”؟

الحديث هنا عن “اللجنة الدستورية” وعقم تقدّمها في هذا المسار الخطير، ورفض الأخذ بالاعتبار لا تسلسل قرار 2254، ولا النداءات الوطنية لتغيير الأداء والخروج من متاهات لعبة النظام ومندوبي الأمين العامّ للأمم المتّحدة الذين لا يمكنهم الخروج عن موازين القوى وحصائل لعب الكبار، وعن “الهيئة العليا للمفاوضات” المنتهية الصلاحية حتى في حوارها الداخلي وتشظّيها بين التبعيات، وعن حكومة مؤقتة و”مقدّدة” لا تمون على شيء إلا فضائح العجز والمكابرة.. لقد شكّلت هذه الهياكل عقبات حقيقية كبرى أمام النضال الوطني، يتحمّل الشارع الوطني الثوري بدوره مسؤولية عدم تشكيل جسم يتجاوزها ويتجنب كلّ خطاياها.
بالمناسبة، لا بأس من ذكر أنّي تقدّمت في عام 2013، حين كان رئيس “المجلس الوطني” هو ذاته رئيس “الائتلاف”، بمذكرة لحلّ هذه الازدواجية السيريالية، ووعدوا..، كذلك قدّمت مذكرة أيلول/ سبتمبر 2020 لقيادة “الائتلاف”، إثر دعوتها للمشاركة في بحث مشروع التوسعة من داخل الطوائف، مذكرة تتعلق بإصلاح العمل الوطني الثوري وخارطة طريق لجسم وطني جديد، حتى لو حمل الاسم ذاته ووعدوا…

تدور في الآونة الأخيرة أحاديث كثيرة حول تشكيل تحالفات أو منصّات معارضة سورية جديدة مدعومة من قوى إقليمية، للمشاركة في العملية التفاوضية في المرحلة المستقبلية. هل شعبنا بحاجة الآن إلى مزيد من الكيانات السياسية، أيًّا كانت برامجها وخططها وولاءتها؟

في متن السؤال، قضايا عدّة لكلّ منها سياقه، حيث هناك مشاريع وطنية متعدّدة خارج الوطن وداخله، تتفاوت بخلفياتها وأساليب عملها وهوامش استقلاليتها، وتهدف -كلّ من جانبه- إلى الوصول إلى جسم سياسي حامل. والموضوع هنا يطول شرحه بموضوعية وشفافية. ولنكتفِ بالقول إنّها تشترك جميعها -في مقدّمة المشتركات- باعتبار هياكل المعارضة عبئًا على العمل الوطني، عاجزة عن أيّ إسهام في واجب تصويب المسارات وإنقاذ ما يلزم وما يمكن إنقاذه أمام التحدّيات والمخاطر. وتشترك بضرورة تخليق جسم بديل متقدّم عما هو قائم ومعافى من أمراضه. إنّها مشاريع تستحقّ تقدير جهود أصحابها، لكنّي أعتقد أنّها تحتاج إلى كثير من شروط النجاح والإنجاز والفاعلية، وتحتاج إلى صيغة إبداعية تستجيب لضرورات المرحلة، على الصعيد الواقعي والتكتيكي والإستراتيجي، وهي ضرورات في منتهى الحساسية والدقة والصعوبة.

وعلى خلفية ذلك، سعينا في “منبر مسار للحوار الديمقراطي”، منذ مدة طويلة، كي يتقدّم أصحاب كلّ مشروع بعرض تفاصيل مشروعهم. وبادر المنبر بخطوات جديدة ممنهجة لحوار واسع بين جميع المشاريع للوصول إلى صيغة عليا لتنسيق العمل الوطني الثوري، قادرة على استعادة الأمل والمصداقية أمام جماهير شعبنا في كلّ مكان، وقادرة باستقلاليتها وبرامجها التي تجمع بين الثورية والواقعية ومقدّمات عملية التغيير، على فرض الحضور على الصعيد الإقليمي والدولي، بما يخدم مسيرة التغيير والتحرير. كيان تنسيق وفاعلية قادر أيضًا على فرض مراجعة الهياكل المعارضة لأوضاعها وفرض انخراطها في المحطّة المناسبة في سياق الإصلاح الوطني الأشمل. أما ما يتعلّق بمساعي دول من هنا وهناك، لتخليق منصّات وتجمّعات تخدم أجندات أصحابها غربًا وشرقًا، فهي محاولات لم تتوقّف ولن تتوقّف، وتشكّل بذاتها -بغض النظر عن إمكانية وحجم وشروط تحقّقها- مشاريع تحدٍّ أكيد للعمل الوطني المستقلّ والأمين على مصالح الشعب ومستقبل الوطن. وهي ليست فقط دليلًا على محاولات ترسيخ نفوذ بعض الأطراف والتآمر على حقوق شعبنا، بل دليل على الفراغ الذي خلّقته هياكل المعارضة..

بالعودة للأيام الأولى لثورة الحرّية والكرامة في منتصف آذار/ مارس 2011، نسأل: ألم يكن في مصلحة النظام إجراء بعض الإصلاحات المقنعة للسوريين، ومن ثمّ الظهور بمظهر البطل الذي يقود الإصلاح، أم أنّ أيّ إصلاح حقيقي كان من شأنه أن يؤدّي إلى انهيار النظام فعليًا؟

لقد تحدّثت مع انطلاقة الربيع العربي وحتمية تجاوب الشارع السوري، وكذلك بعد الانتفاضة، عن أمرين: الأوّل أضاليل بشار الأسد وما أسميته منذ مطلع الثمانينيات وبعد استيلاء الخميني وملاليه على السلطة في طهران، بالتأسيس للتوريث، والسعي إلى تجسيد “حقبة أسدية”، ومن هذه الأضاليل استحالة استجابة نظام الأسد للإصلاح، بحكم طبيعته ووظائفه ورهاناته، والوصية المفترضة من حافظ الأسد إلى ولي العهد المعطوب، باعتماد القمع، وسيلة واحدة لترويض شعب ووطن لا علاقة حقيقة لهما به، فضلًا عن ارتباط مصالح فئات مافيوية عديدة وفي كلّ المجالات ببقاء رأس السلطة.

والأمر الثاني هو تقديري لجهل الشارع السوري، ومن ضمنه عدد من القيادات السياسية المخضرمة، بطبيعة النظام العميقة والسياق الذي حُمل به إلى السلطة وتوكيد الاستبداد والفساد وتحطيم المجتمع. وهو جهل دفعنا ثمنه كثيرًا، لا بل ما زال شعبنا يدفع الثمن من وجوده وكيانه ومستقبله، وكما ذكرت آنفًا، أثبتت مسيرة وخيارات وشعارات النظام منذ البدء صحة انغلاقه الكلّي على أيّ انفتاح أو إصلاح. ويكفي التنبيه إلى لعبة الغش من قبل بشار في بداية عهده، ليوقع بمن وقّع على بيان “بيروت – دمشق” مطلع القرن.. والتذكير بشعار: “الأسد أو نحرق البلد”.

 مسيرة الثورة والتغيير جارية في طريقها

كسياسي مخضرم خبرت الحياة السياسية السورية الحديثة، نسألك: هل هناك فروقات بين نظام حافظ الأسد ونظام بشار الأسد، خصوصًا من حيث التعاطي مع المعارضين أوّلًا، وطريقة حكم البلد ثانيًا، والسياسة الخارجية ثالثًا؟

كما نبهت أعلاه، هي حقبة أسدية كاملة الأوصاف انطلت على كثيرين، ومستمرّة في أساساتها ومناهجها ومراكز القرار فيها ومرجعياتها الخارجية وسياساتها المختلفة، خاصّة بعد التحالف العضوي مع نظام الخميني، برعاية صهيو – غربية. وإذا كان بالتأكيد لكلّ رجل أهليته لإدارة الأزمات، حيث لا يجوز مقاربة بشار بأبيه، فإنّ حافظ ورفعت الأسد وعصابة الحكم أسّست وأوضحت شخصيتها في أحداث حماة وحلب وغيرها، نهاية السبعينيات ومطلع الثمانينيات. وحين يصرّح بشار الأسد باكتفائه بسورية المفيدة ويخترع تعريفه للمواطن السوري، فهو إنّما يعيد صياغة تصريح رفعت الأسد مطلع الثمانينيات: “لقد استلمنا سورية مع 8 ملايين مواطن، ونحن على استعداد لإعادتها إلى 8 ملايين..”.

الآن، تقف الثورة إزاء مخاطر عديدة، أوّلها اختفاء الشعب من معادلات الصراع؛ وتشرّده داخل البلد أو في البلدان المجاورة؛ وبعض ذلك سببه «طوائف» المتردّدين والحائرين والمتخوّفين؛ يضاف إلى ذلك غياب البعد الشعبي للثورة؛ وهيمنة الأطراف المسلّحة ذات الأجندة الأيديولوجية المتطرّفة، المدعومة من الخارج عليها؛ وأخيرًا، التلاعب الخارجي بالثورة من قبل أطراف عربية ودولية. سؤالنا: مَن المسؤول الأوّل عن إخفاق الثورة السورية في تحقيق أهدافها، والنجاح في تغيير النظام؟ ولماذا؟ وهل من مخرج؟

كلّ ثورة هي انطلاقة ومسار ومسيرة باتّجاه بوصلة هدفها أو أهدافها. وكلّ ثورة هي ضرورة وفكر وحامل وجسم مهيكل ومنضبط وبرنامج عمل واستيعاب معطيات وتحوّلات.. واستعداد للتضحية مع طول نفس.

يمكن للشرط الأخير وحده أن يسجل حضوره في مسيرة العقد المنصرم. أما بقية الشروط، بالرغم من الأعداد الضخمة للناشطين والثوار، فهي ضعيفة أو غائبة. وإذا كان واقع الحال يقتضي الاعتراف بالمطبّات والتعثرات والمخاطر التي عرفتها مسيرة الشعب السوري للتغيير، لدرجة أنّ كثيرين من معسكر التغيير والنضال -وليس فقط من أدعياء معسكر النظام والثورة المضادّة- يشعرون أو يعتقدون بأنّ ثورة الشعب السوري قد أخفقت وضمرت شعلتها، والبعض يجنح إلى اعتبار أنّ الثورة انزلقت نحو حرب أهلية، وفق بعض المقاييس؛ فإنّ الارتباك يقع في تعريف الثورة وتدقيق معانيها، كما يقع في هامش تقلب الأمزجة، لدرجة نكران الثورة أو المكابرة بأنّها انتصرت. ولذا، موضوعيًا، يلزم الحديث عن الثورة كمسيرة طويلة ومتعرّجة، لكن في اتّجاه التقدّم نحو بوصلتها الثابتة والمشروعة، بل إنّ الثورة بهذا المعنى هي خط حياة وتطوّر في فصول موصوفة، ويلزم التسليم أنّها سلسلة محطّات وليست “ركلة جزاء” قد تنجح وقد تفشل، بضربة حظ وصدفة.

بهذا المعنى وبواقع الحال، فإنّ مسيرة الثورة والتغيير جارية في طريقها وفي تفاعلاتها ومفاعيلها، على مختلف الصعد من ثقافية واجتماعية وفكرية، وتغيير واقع مهما بدت المظاهر السطحية مخالفة أو كأنّ المسار في تراجع، لسبب بسيط هو أنّ التراكمات والمراجعات المستترة لا تتوقّف حركتها في عمق الذات الخاصّة والعامّة. وإنّ المأزق العميق لمستقبل السلطة، بغض النظر عن إفرازات تعقيدات الأجندات الخارجية، يثبت أنّ مسيرة التغيير لا يمكن لهذه السلطة أن تتجاوزها، وأنّ فعل التغيير حاضرٌ ولو بدا أنه يراوح منهكًا في المكان. أما بشأن البحث في مسؤولية الأوضاع الراهنة لمسيرة التغيير والتحرير ولراهن ومستقبل الوطن، عمليًا، فإنّ مختلف الأطراف الضالعة في الشأن السوري، حتى المؤسّسات الأممية، معنية بحصّة من هذه المسؤولية، سوريًا وعربيًا وإقليميًا ودوليًا. لكنّ السؤال المهمّ والأهمّ يتعلّق بأبناء الثورة، وبمختلف فعاليات النشاط والنضال وكذا هياكل المعارضة، من حيث مراجعة محطّات المسيرة، وتحيين الوعي لموازين القوى في حركتيها المستمرّة. كذلك الواقعية الخبيرة بمجريات الأجندات الدولية، بكلّ تفاصيل تناقضاتها وتقاطعاتها ومقايضاتها على حساب حقوقنا الوطنية، وخاصّة لجهة معرفة المسارات الخفية لمستقبل الشرق الأوسط الكبير والمعلن، والعالم العربي، وموقع الوطن السوري فيها.. بمعنى آخر: توفير الإدراك الموضوعي لواقع الحال السوري بكلّ أعماقه ولواقع الحال الإقليمي والدولي، للتمكّن من رسم إستراتيجية تعاطي على كل الصعد التنظيمية والسياسية والبرنامجية… وهي المهمّة التي يجب أن تتحوّل من معضلة وطنية إلى بوابة الخلاص.

من سلسلة أصوات مناهضة للاستدمار ترجمة د. ميشيل سطوف

بعد عقدٍ من الصراع الدامي، هل ترى نظام الأسد قويًا أم ضعيفًا، خصوصًا في ظلّ وجود خمسة احتلالات في سورية؟ أما يزال النظام صاحب قراره؟ وهل يُتوقّع فعلًا استمراره في ظلّ هذه الاحتلالات وعدم سيطرته العسكرية على مساحات شاسعة من سورية في الشمال والشمال الغربي للبلاد، وما تشهده العديد من المناطق الخاضعة لسيطرته من احتجاجات وحراك شعبي رافض لحكمه، فضلًا عن التدهور الاقتصادي وانهيار الليرة وإثقال كاهل الشعب السوري؟
من طبيعة الانتفاضات الشعبية العارمة أن تؤسّس لتأريخ جديد، بمعنى أنّ ما بعدها لا يمكن أن يعود لحال سابق، بغض النظر عن حصائل كلّ محطّة من محطّات قطار الفعل والتغيير ومن ظاهر الأمور. وعصابات الحكم أكثر من يدرك ذلك، لذا لا تتوانى عن أيّ ممارسة جرمية وتدميرية لكلّ شيء أو عن أيّ تبعية وارتهان وبيع وطن لمختلف الاحتلالات أو أي اختزال لجغرافية الوطن، ولو بحجم إمارة.. أو ولو بمدِّ يوم في عمره، جاهدًا لخلق أفضل الشروط لرسم نهايته. لذا فهو سلطة مارقة وساقطة بالضرورة، فاشلة في كلّ الميادين والمقاييس، لا تملك من أمرها شيئًا سوى الاستمرار في وظيفتها الأم، وهي تدمير وطن تحتلّه وليس لها، وسوى مقايضة الرعاة والخصوم، ما داموا هم بحاجة إلى مدّ عمرها وفق مصالحهم وتكييف أجنداتهم تقاطعًا وتناقضًا ومقايضةً مع أجندات الفاعلين الآخرين، في ظروف تعقيدات المسألة السورية ومصير الإقليم، في إطار شرق أوسط جديد لم ينضج بعد من منظور القوى العظمى، لكنّه قيد المخاضات الطويلة. ولهذا نلاحظ تشابك وربط قضايا دول المنطقة ببعضها البعض، وإلى أمدٍّ قد يطول، نحن فيه من يدفع راهنًا أقسى الفواتير.

قوّة أيّ نظام لا تقاس فقط بقوّة الضدّ من ثورة ومعارضة ومجتمع في مقطع ما، بل أيضًا تقاس بانسجامها الإيجابي مع حركة التاريخ وضرورات كلّ مرحلة مفصلية من حراك شعبه ومن بوصلة الحراك الدولي. ونظام الأسد سقط عمليًا، كسلطة صاحبة قرار، منذ الأشهر الأولى، سقوطًا تكرّس باستدعاء أو قبول القوى الأجنبية على مساحة الوطن إنقاذًا له أو نفوذًا على حساب سلطته. وهو موضوعيًا ساقط، بحكم فشله في إدارة أيّ ملفّ أمني أو اقتصادي أو اجتماعي داخل حدود تسلّطه، والمسألة التي كانت وما زالت موضوعيًا مطروحة هي مسألة البديل الوطني القادر على فرض حضوره أو أخذه بالحسبان، مهما كانت الصعوبات والتحدّيات والمناورات. وإلاّ فهو استمرار الفراغ أو مدّ عمر الفراغ، بانتظار تصنيع دولي متوافق عليه، يفرض واقعً جديدًا أمام استمرار مسيرة التغيير والتحرير. إن الواقع المضني هو معاناة شعبنا المتراكمة والخطيرة، مع كلّ يوم من بقاء هذه السلطة العميلة. ولا يجوز في هذا الصدد أن نتجاوز التنبيه إلى دور ومسؤولية هياكل المعارضة في هذه المحنة، وإلى مسؤولية كلّ مواطن وناشط تجاه استمرار هذه الهياكل وهذه السلطة.. وإلى التأكيد على مخاطر استمراره الذي يعني المزيد من الدمار الوطني وفواتير البناء والمصير.

تشهد مناطق سيطرة النظام بين الحين والآخر احتجاجات شعبية وتظاهرات سلمية، عالية السقف في بعض المناطق، وقد كان آخرها -قبل أيّام- في قرى الزرقات ويحمور ، على الطريق الواصل بين صافيتا ومحافظة طرطوس الساحلية، على خلفية تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، كيف تنظرون إلى هذه الظاهرة، وما توقّعاتكم المستقبلية حيال هذا الحراك، وتحركات أخرى قد تنشأ؟

لا شكّ في أنّ الموالين فاعلون، لكنّهم قلّة تتراجع، والمغلوبون على أمرهم واعون لوضعهم وغير راضين عن استغلال السلطة لهم والتضحية العمياء بهم. ولا شكّ أنّ الكتلة الشعبية راكمت ما يكفي من الوعي المستمدّ من المعاناة ومن انفضاح حقيقة سلطةٍ لا يهمّ أصحابها غير المكاسب اللامشروعة والنهب الشره. وما فيلم الصراع على المليارات، بين رامي مخلوف وبيت الأسد والأخرس، سوى “عطسة” وقحة في وجه شعب مسلوب الرغيف والأمان بعد استلاب الحرّيات المزمن. وإذا كانت السلطة قد نجحت لفترة ما في تضليل كثيرين أمام الفشل غير المسؤول أو المقبول في إدارة هياكل المعارضة للمناطق الخارجة عن تسلّطها وتقديم نموذج مقنع وواعد؛ فإنّ تراكم سوء الإدارة الشامل للسلطة في كل الميادين، بلغ حدّ موات الناس وتغييب الكرامة الإنسانية في أدنى مستوياتها، وخاصّة مع إدراك المواطن لعجز النظام عن الاستمرار وعجزه عن تخفيف معاناة الأحياء، بعد خسارة مئات الآلاف من الضحايا بين قتيل وجريح، ولعجز رعاته -بتوافقاتهم وبتناقضاتهم وتناحرهم على التسلّط والنفوذ بشكلٍ مفضوح ومستفزّ- عن توفير الاستقرار وأدنى مقوّمات الحياة، ولا بدّ أمام كلّ هذا من أن ينهض المواطن للدفاع الأخير عن وجوده وعن أهله، وأن يقف أمام مهامّ الضمير الوطني للإنقاذ والخلاص. إنّ أهمّ ما في الموجة الجديدة من الحراك الشعبي سماتها النوّعية، لجهة انطلاقها في معاقل حاضنة الأسد وعصابة حكمه، ولجهة الصمود الفاعل والناطق في الجنوب السوري بسهله وجبله، بالرغم من كلّ الجهود من قبل النظام وإيران وجهات أخرى للعبث بسكان الجنوب واستغلال ظروف الحصار والفقر المضروبين عليها، ومحاولات اختراق الكتل الشعبية لصالح الأجندات الخارجية والتقسيمية. إنه حراك وصل بوعي أصحابه إلى درجة اللارجعة، حتى لو تمّ ضخ مسكنات عابرة وجزئية من قبل السلطة.. وتسويق خطاب انتصاري مزيف، يفضحه صمود الجنوب وتأكيد الوجه اللائق والرائع لأهل حوران، بتعاملهم مع الأسرى، سلوك سيكون له مفاعيله الثورية والوطنية المتتابعة وله ما بعده في كلّ الأحوال.

من الواضح لنا جميعًا أنّ هناك عملية روسية لإعادة “تأهيل نظام الأسد” في سورية، بخاصّة بعد تمثيلية الانتخابات الرئاسية؟ فهل ستنجح هذه العملية؟ وما هي عوامل نجاحها أو فشلها، أو إفشالها من قِبل قوى الثورة والمعارضة السورية؟ وكيف ترون حقيقة الأهداف الروسية في سورية، وحقيقة الخلافات بين موسكو ودمشق حول الدور التعطيلي لبشار الأسد تجاه الحلّ السياسي؟
 يعتقد كثيرون أنّ سلوك الكرملين في سورية قبل الدخول الروسي نهاية أيلول/ سبتمبر 2015 وبعده، سواء كأدوار سياسية ودبلوماسية وتغطية أممية، أو أدوار خاصّة كحضور عسكري متسيّد وإنقاذي لنظام بشار ولشخصه، وتجريب القدرات التدميرية لمئات الأسلحة الروسية، ما زال يسعى لإعادة تأهيل الأسد كما تجلّى في تغطية مسرحية انتخابات بشار، تغطية تتباعد الآراء حول إمكانية نجاحها أو إفشالها.

أما تناول العلاقات بين موسكو ودمشق ما قبل بوتين وبشار الأسد وما بعد وصولهما إلى هرم الحكم المستبدّ، مع تشابه طبيعة السلطتين ومزاجية الرجلين، فحديث طويل له مختصّوه. وما ينبغي التنبيه إليه في ما يعني الحالة السورية هو أهمّية سورية الجيو_سياسية والتاريخية في الحسابات الروسية، أهمّية ترسّخت مع التدخّل الروسي الذي أصبح أقرب لحالة انتداب، ليس من خلفية الكرملين فحسب بل من منظور الاشتباه الراجح برضى أو تشجيع الأميركان والغرب للدور الروسي التقليدي في سورية، لأسباب ما زالت أيضًا موضع مقاربات مختلفة بين التلزيم والتوريط، وفي الواقع كلاهما في جدلية العلاقات الدولية، وحيث يجب التنبيه إلى نصائح الغرب منذ نهاية 2011 إلى هياكل المعارضة، بالتوجّه إلى موسكو لإيجاد تفاهمات ومخارج، والتعبير أنّ بشار الأسد هو رجل الغرب وليس رجلهم. الأمر الذي لم يتجاوب معه الكرملين -بالرغم من مرونة وفود المعارضة السورية، هيئات وفعاليات- ولم يعد التفاهم مع الكرملين سهلًا ضمن المعطيات الراهنة والمنظورة قريبًا، أمام عمليات التدمير والاستهداف الروسي المتعمّد والمستمرّ والمغالط الموجّهة خصّيصًا ضدّ قوى وجماهير الثورة والمعارضة، وأمام شيوع الإدانة الشعبية للدور الروسي في الشمال السوري ومناطق أخرى، بعد انكشاف مسؤوليتهم في خفض التصعيد ومناورات “أستانا” و“سوتشي” وضعف أدائهم لاحتواء العدوان على أهلنا في درعا وفي الجنوب السوري ككلّ. ومما يجب التنبيه إليه أيضًا، أنّ معرفة الأسد بحاجة رعاته إليه شخصيًا، وخاصّة الكرملين، يعطيه هامشًا للمناورة والابتزاز والمساومة وأحيانًا للتحدّي غير المباشر، ويضاف إلى ذلك الارتباطُ العضوي بنظام الملالي وتوازع الأدوار والمصالح بين عصابات السلطة، على خطّي حكام الملالي والكرملين اللذين يتبادلان الحاجة والتنافس معًا. ولذا نجد أنّ الأسد، على ضعفه وهشاشة وضعه ومصيره، وعلى قوّة التواجد الروسي في سورية ودواليب السلطة، يحتاج إلى دعم وتغطية وإنقاذ الروس له، وقد بدا لي، منذ ساعة التدخّل العسكري الروسي في سورية، أنّ بوتين لا شكّ أنّه فكر كثيرًا قبل هذا التدخّل، لكن هذا لا يعني أنّه فكّر جيدًا، وتجربتا فيتنام وأفغانستان شاهدتان للروس وللأميركيين معًا، وإنّ تعقيدات المسألة السورية الأصلية والمتوالدة، وطبيعة سلطة الأسد وطول “الأزمة” (المواجهة المتعدّدة الأطراف والمستويات)، من بين عوامل داخلية وارتباط المسألة السورية فاعلًا ومنفعلًا بأزمات دولية وإقليمية أخرى.. كلّ هذا وضع الكرملين في مواقف حرجة ودقيقة، ولنا في أحداث درعا البطلة شاهدٌ، وكذلك في مسرحية التقارب الصيني – الأسدي، وأيضًا في التجاذبات الإعلامية العالية النبرة بين أقلام محسوبة على هذا وعلى ذاك. ما هو واقع متحرك أنّ هناك عدم تطابق بين حسابات الأسد وبوتين، حول الخطوات الإجرائية المشتركة والمطلوبة على عديد الصعد. ويمكن لهذا الوضع أن يتطوّر -مدًّا وجزرًا- على نار هادئة نحو المزيد من التجاذب وشدّ الحبل.

إنّ الكرملين يدرك -مهما حاول مداراة الأسد- أنّ بشار الذي كانوا يرون أن لا حلّ معه ولا حلّ بدونه، إنّما يقترب ولو ببطء من أوان حالة “أن لا حلّ معه”، خاصّة أنّ الأسد ومعه الإيرانيون يلعبون لعبة الانتصار الحاسم في المعركة، وأنّ لا حاجة بعد نجاح التسويف والمماطلة إلى حلّ سياسي وإلى تطبيق القرار الأممي 2254. الواقع يعلّمُنا، من باب استمرار المصالح المتبادلة، أنّ كلّ ما يشاع أو يتمّ تسريبه من طرف ومن آخر، يشير إلى أن الوضع لم يصل بعد إلى حالة اللارجعة. ويحتاج إلى عوامل أخرى فاعلة، في مقدّمتها عقلانية وفاعلية الثوار باتّجاه الثبات وخلط أوراق الأعداء، وتقديم خطابات وطنية راقية، كما فعل أهلنا في حوران في معاملة الأسرى وإدارة المفاوضات. وبهذه المناسبة، تجدر الإشارة إلى ضرورة التمييز بين البلد العدو، وبين سلطة معتدية، كما هو حالنا مع روسيا، وهي ليست عدوة، ومع (بوتين روسيا) كسلطة معتدية. وتجب الإشارة إلى أنّ العالم، وخاصّة البلدان الضعيفة والمستضعفة، في سوق تسويد سياسة النفوذ والهيمنة بين الدول الكبرى، سياسة أصبحت منهجًا مغلوطًا وغير مشروع أو مقبول في العلاقات الدولية، في وقتٍ وصلت فيه البشرية والفرد إلى حدود متقدّمة جدًا من الوعي والاطّلاع والاهتمام بالطبيعة وبالحيوان، وبالتالي فإنّ الخيار الإنساني والعادل، حفاظًا على البشر وحقوق الفرد والجماعات والشعوب، هو خيار التوازن الدولي والتعاون مع حقوق التنافس الشفاف والإنتاج البشري والمردودية المعقولة ضمن قواعد العلاقات الدولية المنصوص عنها في المواثيق الدولية.

مصير نظام الأسد محسوم غربيًا

هل صحيح أنّ الأمور تسير حاليًا نحو دعم ما تسرّب من نتائج “اتّفاق روسي – إسرائيلي” يقضي ببقاء الأسد في الحكم، كي يعقد اتّفاق سلام مع الكيان الإسرائيلي في قادم الأيّام، وأنّ الأسد سيكون نقطة التلاقي الإسرائيلية – الإيرانية، برعاية روسية هدفها التمهيد لتقارب إسرائيلي – إيراني، يعقبه لعب إسرائيل لدور وساطة بين طهران ودول الخليج، بخاصّة السعودية والإمارات والبحرين؟
لا يجوز رفض أيّ سيناريو له بعض وجاهة وانسجام، لكنه يبقى سيناريو بين سيناريوهات أخرى. ويتجلّى داخل السؤال عدد من السيناريوات الفرعية. ويبقى من الضرورة العمل على تفكيك وجاهة أيّ تسريبات لمواكبة المفاعيل المتدافعة في المنطقة والوقوف على ما هو محتمل.

شخصيًا، لا ألمس موضوعية وقابلية السيناريو أعلاه للتطبيق، لما فيه من محطّات تبدو أقرب للبهلوانية. فلا إسرائيل على عجلة من أمر اتّفاقيات سلام مع سورية، بعد تدمير سورية وحدوث اختراق فاقع للخليج، ولا الأسد مؤهل لأن يلعب مثل هذه المهمّة، ولا العلاقات الإيرانية – الإسرائيلية تمرّ بهذا العبور. إنّ أيّ مماطلة وتأجيل للحلّ في سورية أو لبنان ومدّ عمر الأسد، إنّما يتعلّق بانتظار نضج المنطقة بالكامل لترتيبات إستراتيجية طويلة للشرق الأوسط الكبير، هذا المشروع الذي يُعمل عليه منذ أكثر من ثلاثة عقود. بالمقابل أعتقد أنّ السيناريو الفعلي لم ينضج ولم يتبلور بعد، فكما يمكن أن تحدث مفاجآت أو تسارع أحداث ظاهريًا وتسريعها من الخلف، يمكن أن يستمرّ الوضع أطول مما نعتقد، بسبب ارتباط الوضع السوري بعدد من الساحات الأخرى، على الأقلّ لجهة الجوار ومصير المفاوضات الإيرانية حول النووي والباليستي. وإن ما ينبغي لنا معرفته ومراقبته، إنّما يتعلّق بالحديث عن “المجلس العسكري الانتقالي” منذ أشهر، بالرغم من ضمور المعطيات وغياب الالتزامات، ويتعلّق بما يشاع عن لقاء أمني سابق لعدد من الدول المنخرطة في المسألة السورية، ومنها تركيا وتل أبيب. وأخيرًا لقاء بغداد لزعامات الجوار وزعامات دولية، نهاية هذا الشهر، مع أرجحية عدم دعوة بشار، بالرغم من تسريب العكس، والتطرّق المحتمل إلى “المجلس العسكري الانتقالي”، مع أو من دون جسم سياسي، بسبب “عدم الثقة” بالواجهات السياسية القائمة، والنظر للسياسي كعامل إرباك.

بتقديركم، ماذا وراء تجاهل إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن للملفّ السوري؟ وهل لديكم توقّعات بانتهاج سياسة تمنع بقاء الأسد من الاستمرار في الحكم في المستقبل القريب؟
قضيتنا الوطنية لم تكن، ولن تكون، قضية سورية محدودة ومحدّدة، وهي جزء مهمّ من معادلات إقليمية وعربية ودولية عديدة. وليس هناك من ساحة عربية أو إقليمية توازيها في هذا المجال، بالرغم من الأهمّية الخاصّة لكلّ من ساحات الربيع العربي أو الساحات الأخرى. وشاءت الأقدار أن تكون انتفاضة شعبنا في مرحلة من التحوّلات الدولية الأوسع والأعقد في التاريخ المعاصر، حيث تتنافس الدول العظمى على الهيمنة والنفوذ، بلا رحمة ولا قيم إنسانية أو احترام لحقوق الشعوب، خلافًا لخطابات التغني بالمواثيق والحرّيات وحقّ تقرير المصير. هذه التحوّلات تجري أيضًا، بالضرورة، داخل المجتمعات المعنية في مواجهة مشكلاتها الخاصّة، يرافقها السعي المعروف والميل لتصدير الأزمات أو التغطية عليها ما أمكن ذلك. وإلى درجة أنّ قوى إقليمية ودولية تجهد لتخليق إمبراطوريات خاصّة وعدوانية في الزمن المستحيل، كما أثبتت تجربة انهيار الاتّحاد السوفيتي وفشل الولايات المتّحدة الأميركية في التسيّد المطلق على رأس الهرم العالمي، وفي رغبتها في تجاوز قوانين الديناميكية الاجتماعية وحركية الاقتصاد والتجارة.

هكذا، يجب أن نخرج -بتقديري- من هواية الحكم على الأشياء بظواهرها السطحية والتصريحات القوس قزحية، إلى ما في ذلك من تسطيح للوعي والحقيقة وزوغان في الإدراك، وبهذا المعنى لا يمكن لأيّ قاطن للبيت الأبيض أن يتجاهل الوضع في المنطقة لأهمّيتها في الصراعات والتحوّلات الدولية ولأهمّية سورية داخل جغرافية المنطقة. وبالتالي فإنّ فهم موقف الإدارة الأميركية الراهنة، بما هو أوسع وأعمق من رؤى بايدن، إنّما يتعلّق بعدّة زوايا رئيسة: أولويات الإدارة في هذه اللحظة، موقع المنطقة وسورية في خلفية الإستراتيجية الأميركية العميقة، اعتبارات استحقاقات الانتخابات الداخلية القريبة للمؤسّسات الأميركية، والتخوّف من فقدان سيطرة الحزب الديمقراطي عليها مع المعسكرات الدولية الأخرى، التجاذبات القائمة بين البيت الأبيض وأصدقائه، وبينه وبين الصين والكرملين وكليهما في ملفات أخرى.. والخلاصة إنّ مصير نظام الأسد محسوم غربيًا، وشرقيًا أيضًا، بتقديري. فعلى الرغم من محاولات الشرق تأهيل الأسد وحديث الغرب عن عدم تبديل النظام، بل تبديل سلوكه، وهما أمران غير قابلين للصمود ويحملان طابع المناورة والمداورة، علينا بالمقابل أن ندرك أنّ إيقاع صيرورة طي ملف الأسد قد لا ينسجم بالضرورة مع رغباتنا وحساباتنا وحجم معاناة الشعب السوري. بل يمكن القول إنّ الميل للاعتماد على الموقف الأميركي أو الدولي من بشار الأسد إنّما يحمل في جدله ميلًا إلى الاستقالة من واجباتنا الوطنية التي تعود بمسؤوليتها علينا نحن قبل أيّ طرف آخر.

ما موقفكم من العقوبات الغربية والأميركية على نظام الأسد، وهل تعتقدون أنّ الأزمة الاقتصادية غير المسبوقة بالتاريخ السوري المعاصر، خاصّة في المناطق الخاضعة لنفوذ قوّات النظام -بعد نيف وسنة من دخول “قانون قيصر” حيّز التطبيق- هي أزمة مفتعلة، بهدف كسب تعاطف عربي ودولي أم أنّها أزمة حقيقة؟ وما المخرج لإنقاذ ملايين السوريين من الجوع والعوز؟

ليس هناك من علاقة مسؤولية أو تأثير فعلي للمواطن، سواء أكان من أصحاب “ال مع الكيفي” أو أصحاب “الضدّ الكيفي”، تجاه الأزمة الاقتصادية الخانقة أو العقوبات الخارجية بسقفها “قانون قيصر” الأميركي التي تستهدف بعض الأشخاص والشبكات المافيوية؛ فكلاهما من فعل قوى ذات حسابات وأجندات ومصالح، سواء تعلّق الأمر بسلطة الأسد أو بالخارج. وعلينا أن نعي، من جهة أخرى، أنّ كلّ طرف فاعل يحاول أن يستفيد إلى أقصى درجة من خطوات الآخر الذي يستهدفه، عدوًا كان أم خصمًا، واستغلال مجرياتها. لا يجادل أحد حتى الموالون حول مسؤولية السلطة المستمرّة وحواشيها عن الأزمة الاقتصادية وتفاقمها الخانق والمعمّم في البلاد وجوارها. حتى إن بعض تصريحات الأسد ذهبَت إلى الاعتراف بأنّ تدهور سعر العملة سابق لـ “قانون قيصر”. وإنّ الفساد مثلًا -وهو السرطان الخبيث البارد- هو من إنتاج وتصنيع أسدي عمدي، يعود لحافظ الأسد منذ أن كان وزير دفاع، أي قبل 55 عام.

يمكن للتساؤلات أن تذهب إلى تأثيرات هذه الأزمة على مزيد من سلوكيات تركيع المواطن وسحقه، أو إلى شحن وعيه وهمته للدخول على خط مواجهة الظلم والجشع والفساد دفاعًا عن حياته ووجوده، إن لم نقل عن كرامته، وإلى التساؤل عن مدى توزيع الضرر بين عصابات السلطة والفساد وبين المواطن، حيث يمكن لعصابات الحكم أن تلتف على حدّة العقوبات المعيقة، وأن تتّجه إلى أوجه أخرى من الاستغلال والجشع خارج أيّ وجود أو حساب لضمير. أما التساؤل: ألم يكن هناك من إجراءات أخرى، كان بإمكانها حصار عصابات الحكم ونظام الأسد برمّته لمساعدة الشعب السوري في وضع حدّ لمحنته المرعبة والطويلة والتخلّص من سبب الداء والأزمات ألا وهو نظام الأسد وشبكاته المافيوية، فهو تساؤل يبقى مطروحًا وضاغطًا وكاشفًا.

تاريخيًا، لا جدوى لمثل هذه العقوبات، لا في تغيير نظام ولا في تغيير سلوكه، مثال كوبا وكوريا وإيران ونظام الأسد سابقًا.. هذه العصابات سوف تستمرّ في الوفاء لطبيعتها الاستغلالية الشجعة ولوظيفتها التدميرية للاقتصاد والمجتمع، أيًّا كانت الأوضاع. ويجب التنبيه أخيرًا إلى العلاقات العضوية في تشابك مسؤولية سلط الأمر الواقع داخل سورية من جهة، وفي دمشق وبيروت من جهة أخرى، عن الأزمات الاقتصادية في سورية ولبنان. أما بخصوص إنقاذ ملايين السوريين من هذه الحالة الخطيرة الحادّة، فيمكن الإشارة -والحال على ما هو عليه- إلى العمل على محور ترشيد المواجهات -خاصّة لدى الموالين- ضدّ أسباب الأزمة والمحنة الوطنية المتمثّلة بالنظام وبالفساد، لا بالعقوبات التي تبقى مهما قيل فيها فعلًا لاحقًا ومبرّرًا، من وجهة نظر العديد من الناس.. مواجهات تستلزم ترسيخ الوعي بأنّهّ لا مفرّ من الدخول على خطّها وفي محطّاتها اليوم قبل الغد، لتخفيف التكلفة، على خلفية الإنقاذ الوطني الملحّ.

كيف تفهم دور الكاتب وطبيعة علاقة الفكر بالثورة؟ وهل يحقّ للمثقّف أن يقف موقف المتفرج النخبوي؟ أم أنّ عليه الانخراط مع الناس ومساعدتهم في تحقيق التغييرات المطلوبة بأقلّ كلفة ممكنة؟

لا شكّ في أنّ كلمة فكر لا تعطي ذات الصدى والإيقاع أو ذات المدلولات في أذهان الناس، حتى “لدى المتعلّمين”، حيث يتمّ غالبًا الخلط بين المتعلّم والمثقّف، وبين الكاتب والمفكّر، وبين المفكّر والعالِم، وبين كلّ هؤلاء والسلوك لما يعود للفكر والعلم والمعرفة عادة من نبل المقاصد والمهمّات، بالرغم من أنّ النشاط الفكري ليس بالضرورة أن يكون بنّاءً وإيجابيًا، على طول الخطّ. هكذا يتمّ الحديث عن المثقّف العضوي والكاتب الملتزم والمفكّر “التقدّمي”، بمعنى الاهتمام بقضايا الناس والمجتمعات والدفاع عن الحقوق المشروعة للإنسان والطبيعة. وبالعودة للثورة، كونها فعلًا نضاليًا شعبيًا واسعًا وعميقًا يستجيب لضرورات حياتية ومستقبلية لمجتمع ويستدعيها تلاقي الواقع والزمان والمكان، لا بدّ من توفير الفكر والمفكّرين، سواء في عملية التمهيد قبل نضج انطلاقتها، أو في مواكبتها الساهرة لضمان الاستمرارية والتصويب والإغناء المدروس، وإلّا تحوّلت الانتفاضات إلى ردات فعل نخاعية ذات عدوى، كما يحدث في الملاعب الرياضية أحيانًا. وحين نتحدث عن ثورة، فإنّما نعني السعي إلى أفضل تغطية للمصالح المشروعة للناس والمجتمع والتكيّف الحضاري، وبالتالي فإنّ المثقّف يعي أنّ مصلحته كمواطن تقع في هذا الإطار. خارج هذا الفهم، يجوز الحديث عن “الانتهازي” و”الأناني”، كجزء عضوي من معسكر الثورة المضادّة. ومن جانب آخر، لا يجوز النظر إلى المثقّف والمفكّر “كمتعهد”، نسقط مسؤوليات التعثر والقصور أو الفشل على كتفيه، ونحمّله التكليف بمهمّة النجاح المضمون.

كيف ترون أدوار وأداء السياسيين السوريين المستقلّين؟

إلى جانب المسؤولية الأكيدة والرئيسة لحقبة الاستبداد الأسدي، طوال أكثر من نصف قرن، عن مُسمّى “التصحّر السياسي”، وفقر التجربة وضعف التراكم على صعيد المجتمع ، وخارج الميل للتغطي الوارد والسهل بمسؤولية الاستبداد هذه، فإنّ هناك -على ما أعتقد- علاقة جدلية بين عوامل عدة، في مقدّمتها:

* الموروث الثقافي، الذي بقي -بالرغم من تجربة مقاومة الاستعمار الفرنسي، وتجربة سياسية غنية وذات إنجازات وطنية بعيد الجلاء، متبوعة بفترة قصيرة من انفتاح سياسي، وتجربة أحزاب مختلطة مع الانقلابات العسكرية التي كانت تمثّل في مكانٍ ما شكلًا من أشكال ممارسة السياسة في زمنها- مطبوعًا بعلاقات اجتماعية عشائرية وجهوية دائمة الحضور وقليلة الفعالية، على صعيد أولوية الانتماء للوطن ما فوق الانتماءات الأخرى، وهي ما عاودت ظهورها وهيمنتها، بالرغم من الموجة المجيدة من رقي الانتماء الوطني الجامع طوال العامين الأوّلين للثورة، وشكّلت بالتالي وواقع الحال إرباكًا للسياسة، على حساب المسيرة الثورية، وصولًا إلى خطابات شوفينية عدوانية منتشرة، ذهب البعض إلى اعتبارها من مقدّمات الحرب الأهلية.

* النهج المغري والتجريبي في سياسة حرق المراحل التي أوصلت إلى الأدلجة والتعصّب فالتطرّف والإقصاء وخنق السياسة في أجواء الحرب الباردة، مع الميل والانزلاق نحو الأحادية والاستبداد حتى داخل التنظيمات السياسية، يسارًا ويمينًا..

* إهمال الجانب الفكري وثقافة المشتركات ووحدة المصير، لصالح التسطيح والاستهلاك السياسي مع تراجع حضور المثقّف العضوي في شروط القمع والحصار من جهة، وسلوك الاحتواء والإفساد الممنهج من جهة أخرى، مع ما يشبه حالة انهيار الأخلاق..

* تسويد العلاقات العدائية بين التيّارات والأحزاب العقائدية المختلفة، ومن ثم إفساد الحياة السياسة وإرباك عمليات الاندماج الوطني وتأصيل سلوكيات الكيدية وتصفية الحساب كخيار غالب في الممارسة، مرّة أخرى حتى داخل التنظيم الواحد. هذا السلوك الذي عاود أيضًا حضوره وحرارته، في هذه السنوات الأخيرة، لنصل -باعتقادي- إلى ضرورة تحديد المعاني الموضوعية للمصطلحات والعناوين وتصويب ما لحق من مغالطات في بعض المفاهيم، منها أنّ صفة “المستقلّ” أصبحت صفة حميدة، حتى لمن ولج العمل الوطني لتوّه مع نزعة التعالي والاتّهام للتنظيمات وللمناضلين، خاصّة المخضرمة والمخضرمين منهم، في فهم خاطئ وحكم جائر لنضالات المناضلين والتنظيمات المعارضة، على مدى العقود العديدة الماضية، كما لو أنّ النضال الوطني وممارسة المعارضة لا يعدو كونه إلزامَ تعهد وإلزامَ نتائج، في مجتمع شبه مستقيل من واجباته الطبيعية في النضال ومواجهة الظلم والاستغلال وانهيار الأخلاق، يتفرّج على إدارة العملية السياسية للمجتمع ككلّ، كمن يتفرّج على مقابلة رياضية. ولنصل إلى أنّ ما يهمّ وما هو حيوي في العمل السياسي والمدني في حالتنا هو (استقلالية الضمير) أينما كان موقع المواطن والنضال -داخل التنظيمات السياسية والمدنية أو خارجها – بكلّ ما يعنيه من عدم التعصّب واحترام الآخر ومراجعة المواقف والسلوك. وفي اللحظة الوطنية الجارية، نجد أنّ القضية الوطنية ومحنة الوطن تحتاج إلى كلّ الجهود والعطاءات الوطنية، قبل أيّ مفاضلة أو حكم قيمة بين دور المناضل المستقلّ ودور المنخرط في أطر سياسية، مع التنبيه إلى الحاجة الأكيدة لتوفير مقدّمات تشكّل الأحزاب والتنظيمات السياسية كشرط لازم لممارسة السياسة بمسؤولية وفعالية مطلوبتين. وفي واقع الحال، إنّ كلّ نشاط، سياسيًا كان أم آخر، هو في جوهره انحياز إلى جانب ما، أو إلى خيار، حيث يبرز المعنى الفلسفي لصفة المستقلّ ولاستقلالية الضمير.

أخيرًا، ما نصيحتكم للشعب السوري، بعد عقدٍ دامٍ من عمر الثورة اليتيمة المختطفة؟ ماذا تقولون لهم؟

لا أحد يمكنه أن ينصح “الشعب”، بالمعنى التقليدي للكلمة، فالشعب أو الجماهير هو من يستخلص دروس التجربة ويقرأ الواقع، واقع محنته ومهمّاته، ويراكم كمونه. وجماهير شعبنا تعرّضت في هذه المسيرة إلى زلازل وهزات كثيرة، ولكلّ صيغ التشويه والتشويش والتضليل مهدّدة وحدتها ولحظة خلاصها، يقابل ذلك نمو الوعي الشعبي لحاجة التضامن والتآخي إيمانًا بوحدة المصير، حيث نلمس إرهاصات أداء شعبي جديد وواعد، في مختلف مناطق وجهات الوطن، يؤسّس لانطلاقة جديدة على درب التجاوز والتغيير والحداثة، في بلد مقسّم وسلطات أمر واقع متعدّدة ودون وطنية تجهد للتسويق لذهنيات مشوّشة ومستسلمة وقناعات منحرفة. وعلينا أن نعي -كمفردات شعب- حيوية أن يكون الشعب شعبًا واعيًا بذاته، بالمعنى الحداثي والتامّ للكلمة، من حيث التمسّك بوحدته ووحدة أرضه واستقلال إرادته وتجاوز كلّ انحرافات التطرّف والعصبوية والإقصاء، ومن حيث تأكيد قوّة الانتماء وفهم المواطنة والدفاع عنها وإجراء المراجعات الضرورية للتخلّص من الأوهام والمنزلقات والدسائس واستمرار مسيرته الثورية العظيمة، مهما كانت التضحيات للتخلّص من الاستبداد والاحتلالات والفساد وبقايا الأمراض الموروثة وترميم الجراح وبدء النضال الأكبر نضال البناء الحديث في الذهنيات والآليات والخيارات… وصولًا إلى دولة المواطنة والقانون، دولته الحديثة دولة الحرّية والعدالة والمساواة في علاقتها الجدلية والإيجابية بين الدولة والشعب والمواطن.

 

المصدر: مركز حرمون للدراسات المعاصرة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى