عاشت الجزائر خلال الأيام الأخيرة نكبة مادية ونفسية مروعة جراء الحرائق التي اكتسحت، ولا تزال تتواصل بوتيرة أقل، مساحة معتبرة من فضاءات المحافظات الجزائرية. ومع الأسف الشديد فإن هذه الحرائق قضت على أرواح عشرات المواطنين والمواطنات، وعلى منازل وآلاف الهكتارات من الثروات الغابية والغطاء النباتي الأخضر الذي يشتهر به شمال الجزائر ويلقب بسببه بسويسرا شمال أفريقيا، وعلى خلايا النحل الريفي والماشية والدواجن وحقول الزيتون وشتى أشجار الفواكه.
لقد تزامنت هذه الحرائق مع فاجعة القتل بالطعن والضرب والحرق الوحشي البشع للشاب البريء جمال بن اسماعيل وسط ساحة بلدة “الاربعاء ناث إيراثن” في محافظة تيزي وزو في القبائل الكبرى أمام أنظار الرأي العام الجزائري، علماً أن هذا الشاب الناطق بالعربية أتى بنية حسنة من مدينة مليانة التي تبعد من البلدة المذكورة ما لا يقل عن 250 كيلومتراً من أجل مؤازرة سكانها ومساعدتهم على إطفاء نيران الحرائق.
وأعاد مقتل هذا الشاب على أيدي مجموعة متوحشة وفاقدة الضمير ومحسوبة على سكان بلدة “الاربعاء ناث إيراثن” الأمازيغية ولكنها معزولة ولا تمثل أمازيغ الجزائر لا من قريب ولا من بعيد، شبح تقسيم الجزائر على أساس عرقي متخيل فقط.
وفي هذا الخصوص يلاحظ المراقب عدم نجاح السلطات الجزائرية حتى الآن في تجاوز نفق الصراع الهوياتي الأمازيغي – العربي المهدد للوحدة الوطنية وهو الموضوع النمطي الذي يجد باستمرار النافخين في جحيمه، وبخاصة من طرف المحرضين على مستوى فضاءات وسائل التواصل الاجتماعي التي ما فتئت تحيي مفردات القاموس الصراعي الذي تخلل الحراك الشعبي مثل مفردات “الزواف” التي تذكَر بمرارة بفرقة الأمازيغ التي عملت إلى جانب الجيش الفرنسي أثناء مرحلة الاستعمار و”الفرشيطة” الصفراء التي تعني الشوكة وترمز إلى الراية الثقافية الأمازيغية كعنوان للنزعة الانفصالية.
رغم أن والد الضحية جمال بن اسماعيل قطع الطريق بشهامة ووطنية نموذجيتين في تصريحاته الى الصحافة الوطنية داعياً إلى ضبط النفس والتسامح وإلى ضرورة تجاوز الأزمة بتغليب رابط الأخوة بين الأمازيغ والعرب على نافخي أبواق الانتقام لابنه، لكن هذه المأساة كشفت مجدداً أن الوضع في الجزائر هشَ جداً وأن الأزمة الجزائرية المركبة لا تزال تفرز الأخطار بالتقسيط ولا يوجد حتى الآن أي أفق واضح لتفعيل الحلول الراديكالية التي بموجبها تضع البلاد في الطريق الصحيح.
وفي ما يخص تعامل السلطات الجزائرية عبر البلديات والدوائر والمحافظات مع كارثة الحرائق على مستوى القرى الريفية البعيدة والبلدات والمدن الحضرية والمناطق غير المأهولة بالسكان، فقد تبيّن للرأي العام الوطني أن انعدام وسائل الإنذار المبكر على مستوى القرى والبلدان والمدن والمزارع حقيقة مرّة، علماً أن القاصي والداني يعرفان أن تكنولوجيا رقابة الأوضاع من بعد متوافرة في العالم وتستخدمها الدول لمواجهة مختلف الكوارث بسرعة ودقة ومهنية عالية.
وتفيد الوقائع بأن البلديات الجزائرية التي يقدر تعدادها بـ 1548 بلدية توجد فيها على نحو دائم مخافر الدرك الوطني والشرطة ويفترض أنها مجهزة جميعاً بالضباط الخبراء في مجالات التعامل مع الكوارث الطبيعية وتلك التي يتسبب بها البشر، وفضلاً عن ذلك يفترض أن فرق الإطفاء متوافرة على مستوى الدوائر التي لا تبعد إلا بمسافات قصيرة عن القرى والبلدات والحقول والجبال المحيطة، وهناك أيضاً الثكنات العسكرية في كل المحافظات الكبرى ويفترض أيضاً أنها مجهزة بالحفارات التي تعزل النيران عن المناطق السكنية والغابات والمزارع والمعامل وتملك المدرعات والمصفحات التي تستعمل في إطفاء الحرائق ودحرها بقوة. لا أحد يدري لماذا لم تستخدم مثل هذه الوسائل والإمكانات وهل هي متوافرة بالعدد الكافي أم لا؟
في هذا المناخ المأساوي تفاجأ المواطنون الجزائريون بعدم وجود أسطول طيران خاص بالتدخل السريع لإطفاء الحرائق، سواء في السهول أم في الجبال أم في المناطق الوعرة التي يصعب أن يصل إليها رجال الإطفاء.
ولقد تميزت ردود فعل قطاع واسع من المواطنين تجاه عدم امتلاك الجزائر ولو طائرة واحدة من هذا النوع بالاستغراب، بخاصة أن الوضع في الجزائر غير مستقر ويحتاج إلى الحذر والحيطة كما أنها محاطة بدول تشهد حروباً داخلية كما في ليبيا وبعض دول الساحل الأفريقي المتاخمة. وأكثر من ذلك فإن عدم تسلح الجزائر بهذه الوسائل الضرورية جداً لأمنها الوطني يتناقض مع التحديات الكثيرة التي تواجهها البلاد منذ العشرية الدموية حتى الآن، ويبدو واضحاً أن الخبرة التي تملكها الجزائر في مجال مواجهة الإرهاب طوال هذه العشرية وذيولها التي لا تزال تطفو هنا وهناك من حين لآخر قد تبخَرت ولم تتعلم منها الدروس.
ومما يؤسف له أن السلطات الجزائرية تتهرب، منذ سنوات طويلة، من مواجهة حقائق مترابطة، وهي أن الانفصال لا يحدث إلا بقوة جاذبية التخلف الروحي والمادي المفروضين والتقسيمات التعسفية للثروة المادية والمعرفية والإثنية، كما أن العنف في المجتمع الجزائري ليس مجرد نزوة فردية أو صفة جوهرانية تلصق بمنطقة معينة لصقاً وإنما هو ظاهرة ثقافية واجتماعية وسياسية ونفسية بنيوية عميقة لم تشخص وتدرس علمياً ولم تعالج فكرياً وتربوياً حتى الآن، وهي لا تزال تطاول الجميع وفي التحليل الأخير تمثل عرضاً ونتاجاً لفشل الحكام في مرحلة الاستقلال في بناء الدولة الديموقراطية العادلة وفضاء الرفاه الاجتماعي وحل مشكلة الهوية الوطنية على أساس الاعتراف الصادق بأن مفهوم الوحدة الوطنية يعني صوغ وحدة مكونة من وحدات التنوع الثقافي واللغوي الذي يميز مركَب الشخصية التاريخية الجزائرية ولا يعني إلغاء هذه العناصر أو اختزالها تعسفياً في عنصر أحادي مغلق وطارد للتكامل العضوي.
المصدر: النهار العربي