فلسطين.. من ثنايا الوجدان السوري إلى “سيف القدس” – ج2

نشمي عربي

لست في وارد الدفاع عن الرئيس الوريث، ولا المُوَرِّث، ولكن الإنصاف يقتضي القول بأن الأسد الأب وَرَّثَ الابن تركةً ثقيلة، فقد عقَّدَ الأب اللعبة السياسية في سورية ومِن حولها، بتداخلاتها الداخلية والإقليمية والدولية لدرجة استثنائية.

أمر واحد لا يمكن إنكاره على الأب وهو أنه مع كل هذه التداخلات وتعقيداتها فقد ترك للابن أيضاً (كروتاً) وازنة كان من المفترض أن تُدَّعم موقفه في إدارة هذه التعقيدات.

من هذه (الكروت) الإقليمية المهمة تلك العلاقة الفريدة مع حركة حماس.

فرادة هذه العلاقة مبررة تماماً فحركة حماس هي فصيل إسلامي يعتمد تحديداً فكر ونهج جماعة الإخوان المسلمين العدو اللدود لنظام الأسد، الذي من المفترض أنه يمثل خط قومي علماني لا شيء يجمعه بالإسلام السياسي لا فكراً ولا نهجاً، ناهيك عن إرث العداء المستفحل بين الطرفين، والذي يعود إلى أواسط ستينيات القرن المنصرم، ووصل لحد المواجهة المسلحة التي اتخذت شكلاً دامياً في ثمانينياته، ولاتزال ارتداداته حاضرة حتى يومنا هذا.

لا أريد أن أخوض في ظروف وتفاصيل نشأة تلك العلاقة بين النظام وحركة حماس، تلك العلاقة التي بدأت مع الأسد الأب بحذر وتوجس شديدين من طرفه، إلا أنه كان من الواضح تماماً أنها ستكون علاقة “مساكنة” يستفيد كلا الطرفين منها في حدود معينة.

كان النظام يرى أن هذه العلاقة تخدمه تماماً في أنها تعزز صورته ضمن محور (المقاومة والممانعة) الممتد من طهران إلى غزة، مروراً بضاحية بيروت الجنوبية وحجر زاويته في دمشق، والذي طالما تَلَطَّى وراء واجهته البرَّاقة في إطالة عمر نظام يؤمن بالبقاء للأبد ولا شيء غير الأبد. وكذلك فهي تضيف لأوراقه الإقليمية ورقة قد تكون مفيدة له يوماً في أية تسوية قد يكون مضطراً للدخول فيها، ورقة طالما حلم الأسد الأب بسحبها من يد (الختيار) أبو عمار، ومن قال إن الأسد الأب أو الابن سيؤرقهما أن التناقض الذي كان يكبر كل يوم وبوضوح بين حماس والسلطة الفلسطينية قد يفت في عضد القضية الفلسطينية برمتها؟

بعيداً عن الوجدان السوري كانت فلسطين مجرد رقمٍ صعب في حسابات الأسدين السلطوية، لا يرضيهم أن تخرج عن ذلك، رغم كل الشعارات الطنانة التي أنتجتها مكنة البعث الإعلامية.

خالد مشعل الذي كانت فلسطين قضية حياة أو موت شعب بالنسبة له كان يعي ذلك تماماً في صميم وجدانه، ولكن القاعدة (الشرعية) في أن (الضرورات تبيح المحظورات) موجودة وجاهزة، ولا بأس ببعض (التقية) في أن يلتقي مع النظام السوري على طريق إضعاف السلطة الفلسطينية والمضي في سياسة “التمكين” الإخوانية بامتياز، لفرض حماس كأهم لاعب في المشهد الفلسطيني، لعله تأثير سكنى الشام هو ما جعل ابن (سلواد) يفكر بطريقة تاجر في (شارع الحريقة)..

شهر عسل بعثي-حمساوي ومحلل إيراني

الحقيقة التي تفرض نفسها أن قيادة حماس استفادت تماماً من صفة الضيف المرحب به على التراب السوري، لا بل وبرعاية أمنية وسياسية على أرفع مستوى، الأمر الذي افتقدته الحركة في كافة محطاتها العربية الأخرى، إذا استثنينا علاقتها (التكتيكية) بجهاز المخابرات العامة المصري التي كانت بدورها أيضاً مساكنه من نوع آخر فرضتها الجغرافيا السياسية على طرفي (الأنفاق)، آخذين في الاعتبار أن ما تمتعت به الحركة في دمشق من إمكانية وصول مباشرة ودون عوائق لأعلى المستويات الأمنية والسياسية في النظام، لا يمكن مقارنتها بأي تسهيلات كانت تتمتع بها الحركة في أي بلد عربي آخر، ناهيك عن حرية الحركة بين سورية ولبنان من خلال الخط العسكري الذي ليس لأي جهة لبنانية خلال الحقبة السورية الطويلة سلطة التدخل فيه على الإطلاق فهو بإدارة مباشرة من جهاز الأمن العسكري السوري على طرفي الحدود التي لم تكن عملياً موجودة بالنسبة له.

الشخصية الكاريزمية للسيد خالد مشعل أعطت لوجود قيادة حماس في دمشق وزناً مهماً، كان في استطاعة (أبو الوليد) الوصول بأية لحظة لمكتب أي رئيس جهاز أمن أو مسؤول سياسي، وحتى الوصول لمكتب الرئيس في القصر الجمهوري إذا لزم الأمر كان يتم دون عوائق تذكر، وبالمقابل فقد أثبت (أبو الوليد) حصافةً سياسية لافتة في مراعاته لحساسيات النظام الذي يستضيفه، فحرص على أن تكون علاقاته الشعبية في سورية حتى تلك ضمن التيارات الإسلامية بعيدة كل البعد عن أية شبهة في علاقتها بتنظيم الإخوان الذي ينتمي له عضوياً، وقد أثبت الرجل بعد نظر عميق عندما صار يخالط التيارات السنية الدمشقية الوسطية خصوصاً تلك التي حافظت على مسافة من النظام ولم تتماهى معه، ولكنها بنفس الوقت لم تفكر يوماً في الخروج عليه أو مواجهته، من هنا توطدت علاقة (أبو الوليد) مع شخصيات مثل الشيخ عبد الهادي الطباع وشيخه الشيخ بكري الطرابيشي، الذين تابع عليهما دراساته القرآنية التي بدأها في سن مبكره ليجيزوه في قراءة القرآن الكريم برواية حفص عن عاصم كما فعل أيضاً شيخ قراء الشام الشيخ كريم راجح.

وفي هذا الإطار تماماً كانت جلساته الخاصة بعد كل صلاة جمعة في مسجد الشافعي بمنطقة الفيلات الشرقية الراقية في حي المزة الدمشقي، وفي المجلس الخاص لإمام المسجد (أبو الخير شكري)، ومجموعة من وجوه دمشق الإسلامية المعتدلة.

رغم ذلك فلم يعدم الرجل بعلاقاته المهمة القدرة على التوسط مع الأسد من خلال نافذة صديق الأسد المقرب (وقتها) العميد مناف طلاس لإطلاق سراح حوالي ١٥٠٠ من معتقلي الإخوان المسلمين من سجون النظام، حيث نجح مناف طلاس بأن يقنع الأسد أن (يجامل) مشعل في إطلاق سراحهم. وستثبت الأيام بعد انطلاق الثورة السورية بفترة قصيرة واندلاع أحداث مدينة دوما أن نظرة مناف طلاس كانت صائبة عندما أشار على الأسد الابن بمجاملة مشعل و(الاستثمار) فيه، كما سيأتي لاحقاً.

لعل أهم ما قدمته حركة حماس للنظام السوري (عن قصد أو من دونه) هو الإبقاء على حالة المواجهة المضبوطة مع اسرائيل، بحيث لاهي تنزل عن مستوىً أدنى فتنكشف عورة “المقاومين والممانعين” ولا تزيد عن مستوىً أعلى يدفع اسرائيل لمواجهة عسكرية لا يتمناها أي من الأطراف، توازن الرعب هذا الذي أدارته حماس من دمشق في مواجهتها مع إسرائيل على التراب الفلسطيني، كان يسير بالتوازي مع توازن رعب آخر أدارته كل من إسرائيل وحزب الله على نقاط التماس اللبنانية الإسرائيلية، وإن خرج أحياناً عن حده الأعلى المسموح به فلإسرائيل معالجة ذلك بعمليات عسكرية نوعية من صنف عمليات التطهير الجراحي، هذه العمليات كانت تطال أحياناً العمق السوري ليأتي رد النظام عليها من خلال (الكليشية) المعتادة “نحتفظ بحق الرد في المكان والزمان الذي نراه مناسباً”. هذه العمليات التطهيرية والردود الصوتية عليها كانت كفيلة بأن تعيد فرض توازن الرعب المحسوب بدقة، لتعود لعبة المقاومة والممانعة للدوران بإيقاع يرضي الجميع.

لا أقصد من سطوري هذه تقزيم تضحيات حماس في مواجهاتها مع إسرائيل، ولكن في النهاية فإن الأمور كانت تجري تماماً في السياق الذي ذكرته، وعلى إيقاع الراعيين الإيراني أولاً والسوري ثانياً، أمرٌ واحد فقط لم يكن في حسابات كل هؤلاء اللاعبين ولعله سيقلب المشهد رأساً على عقب.

الانفجار السوري العظيم

الانفجار السوري العظيم الذي بدأ سلمياً وأهلياً في مارس/آذار 2011 لم يكن في حسابات نادي المقاومين الممانعين، فكيف تعاطوا معه وكيف سارت الأمور بعد ذلك لتحفر خطوطاً وندوباً عميقة في الوجدان السوري عموماً واتجاه فلسطين وقضيتها خصوصاً؟

بعيداً عن كل العواطف والتقييمات المسبقة فإنني أزعم أن رجلين أدركا من الوهلة الأولى وبحس سياسي وأمني مرهف أن ما تحمله الأيام لسورية بعد مارس/آذار 2011 لن يكون في صالح (نادي المقاومين والممانعين) وأن على أهم أعضاء هذا النادي (النظام السوري) أن يتعامل معها بحنكة ودراية كانوا تعودوها مع الأسد الأب، حسن نصر الله وخالد مشعل هما من أقصد، ولم يكن مستغرباً أبداً أن يتداعى الرجلان إلى اجتماع مهم ومفصلي.

في اجتماعهما المغلق اتفق الرجلان (مشعل ونصر الله) على جملة أمور، منها أن كلاهما يدرك مدى عمق الفساد الذي ينخر في كل مفاصل النظام السوري، ومدى تغوله على أقوات وحريات السوريين، ومدى حاجته لإصلاحات جذرية لا تقبل أي تأخير، ولعل الرجلين المطلعين تماماً على سيرورات عمل هذا النظام يدركان في أعماقهما عدم قدرته على القيام بأية إصلاحات حقيقية، لأنها ستمس في بنيته وكينونته، ولكن لا خيار أمام الرجلين سوى تشجيع النظام على القيام بمثل هذه الإصلاحات، لتمضي الموجة العاتية بأقل خسائر ممكنه للجميع.

كان خالد مشعل منسجماً مع قناعاته السياسية والشرعية، عندما ألح على بشار الأسد أن يعجل بحزمة إصلاحات ضرورية ومهمة وأن يدعم أي خطط للتهدئة، ووعد بالمقابل أن يستخدم ما لديه هو من نفوذ لدى تيارات شعبية وإسلامية لدفعها للتجاوب مع خطوات الرئيس.

لا أدري مدى دقة المعلومة التي تؤكد أن مشعل خلال وقت قصير جداً من خروجه من لقائه بالأسد والوعود التي تلقاها منه بالتهدئة التي استبشر بها خيراً، تلقى اتصالاً رفيع المستوى لينقل له بشكل رسمي أن الرئيس تراجع عن كل ما اتفق عليه معه ويطلب منه رسمياً تجميد الخطوات التي وعد مشعل الأسد أن يقوم بها.

قد تكون المعلومة دقيقة وقد لا تكون، مشعل وحده يستطيع تأكيدها أو نفيها ولكن هناك نقطتين هامتين:

أولاهما أن فحوى المعلومة تتسق تماماً مع سياقات أخرى جرت بنفس الطريقة وبنفس الفترة، كإجهاض مبادرة اللواء محمد ناصيف الذي وصل لتفاهمات مهمة مع زعامات حوران ووافق الرئيس عليها ثم تراجع عنها، لا بل تم اعتقال كل أعضاء أحد وفود التهدئة بعد خروجهم من مكتب أبو وائل، كذلك التراجع عن تفاهمات العميد مناف طلاس التي وصل إليها مع أهالي دوما، وقتل مبادرتي نائب الرئيس فاروق الشرع والوزير محمد سلمان في مهدهما.

النقطة الثانية أن مجرى الأمور بعد ذلك يؤكد أن ما توصل له مشعل مع الأسد من خطط للتهدئة يقوم بها الاثنان كل من طرفه لم تَرَ النور أبداً.

للحقيقة وللأمانة فكل هذا لم يفت في عضد مشعل الذي كان يسعى بكل ما أوتي ليصل لحلول وسط تحفظ حليفه (النظام)، وتوقف عجلة الحل الأمني الساحقة التي بدأ الشعب السوري الذي يعلم مشعل مدى وفائه لقضية فلسطين، يئن تحت ضرباتها الموجعة.

في إحدى جولات العميد مناف طلاس التفاوضية مع أهالي دوما شعر بنفوذ تيار شعبي ذو هوى إسلامي فطلب من مشعل استخدام نفوذه ودالته عليهم ودفعهم للقبول بالتهدئة التي تحقن الدماء وتحفظ الجميع، وفعلاً ذهب مشعل إلى دوما بطلب من العميد مناف طلاس، وفعل الرجلان كل ما استطاعا لفرض تهدئة كان واضحاً أن هناك في دوائر النظام (وربما العائلة) العليا من لا يريد لها أن تتم.

في لقاء آخر جمع مشعل بنصر الله كان موقف مشعل واضحاً وجلياً ووجدانياً، قال لنصر الله بوضوح أن حماس في سعيها لحرية الشعب الفلسطيني، لا تستطيع إلا أن تدعم الشعب السوري الذي وقف دوماً مع الحق الفلسطيني في وقفته من أجل حريته، وأنه لا يستطيع أن يبارك الحل الأمني الاستئصالي الذي سيقود البلد كلها نظاماً وشعباً لنفق طويل مظلم يصعب الخروج منه، بالمقابل كان موقف نصر الله واضحاً وحاسماً في أنه لا يستطيع إلا أن يدعم النظام بكل ما أوتي من إمكانيات رغم كل تحفظاته عليه التي يتفق فيها مع مشعل.

انحاز خالد مشعل لوجدان الشعبين الفلسطيني والسوري، وانحاز نصر الله لرغبة مشغليه في طهران.

أدرك أبو الوليد أن أيامه في دمشق صارت معدودة، وفعلاً بدأ مسلسل التضييق عليه وعلى كوادر قيادة حماس في دمشق، تجلى ذلك تماماً في اعتقال المخابرات السورية لصهره زوج ابنته.

خروج مشعل من قيادة حماس

لا أعلم حقيقةً السبب الفعلي وراء قرار مشعل في الخروج من رئاسة المكتب السياسي لحركة حماس في ظروف عصيبة تمر بها المنطقة كلها.

هل استشرف الرجل بحنكته السياسية التي لا يستطيع أحد إنكارها عليه أن حماس بعد خروج قيادتها من دمشق وتحت ضغط حصار خليجي محكم ستكون مضطرة للالتحاق بالموقف الإيراني، فأراد الرجل أن ينأى بنفسه عن الأمر ويتركه لإسماعيل هنية والفريق المحيط به والذين أصبح تماهيهم مع طهران أمراً يؤرق كل عربي؟ وبغض النظر عن الدعم المتواضع الذي يحصلون عليه من طهران وبطريقة مذلة فإن هذا الدعم ستكون له انعكاسات كارثية على طريقة التعاطي العربي مع قضية فلسطين، مهما كانت الحجج (الشرعية) التي تسوقها حماس في ذلك؟ أم هي لعبة توزيع أدوار آثر أن يأخذ فيها مقعداً في الصفوف الخلفية، يحرك اللعبة دون أن يشارك بها مباشرةً؟

أم أن الرجل انحاز في موقفه بصدق للوجدان السوري والعربي والفلسطيني الحقيقي، تماماً كما فعل عندما رفض أن يصطف مع النظام السوري ضد شعبه، فخرج من دمشق رامياً وراء ظهره كل التسهيلات التي قدمها له النظام، ودخل في وجدان المخلصين فعلاً لقضيته من أبناء الشعب السوري والفلسطيني الذين لم تميز حملات النظام القمعية بينهم بكل تأكيد.

حماس في الطريق نحو الحضن الإيراني

يخطئ كثيراً من يعتقد أن هناك الكثير مما يجمع بين حماس وإيران، حماس هي تعبير مركز للإخوان المسلمين، فكراً ونهجاً، ومن يعتقد بوجود هوىً متأصل بين الإخوان وإيران يكون مخدوعاً بميكافيللية شديدة لم يعدمها الطرفان جعلتهما يُنَحّيان كل خلافاتهم الفكرية والعقيدية، عندما اضطرا للتعاطي الإيجابي معاً بوصولية سياسية منقطعة النظير.

الحقيقة أن حركة الجهاد الإسلامي هي التي بايعت إيران منذ بداياتها بينما بقيت حماس متمسكة بفكرها الإخواني المرتاب بإيران دوماً، فما هي الظروف التي دفعت بحماس للتقارب الشديد مع إيران والذي شكل ندبة بحجم نكبة في وجدان كل سوري، زاد في مأساويتها حالة تخلي عربي ودولي مريعة تعرض لها السوريون في محنتهم غير المسبوقة، وهم الذين كانوا دوماً أوفياء وأمناء لكل قضايا العرب المحقة وفي مقدمتها قضية فلسطين؟

عندما أتحدث في هذا الأمر فأنا لا أبرر لحماس أبداً ولا أتبنى وجهة نظرها، بل أن موقفي كان وما يزال دوماً بأن (أسلمة) القضية الفلسطينية لا تخدمها، بل على العكس تماماً فقد تكون وبالاً عليها سيتكشف مداه مع الأيام، عدا عن أن هذه الأسلمة كانت دوماً غاية إسرائيلية بعيدة المدى، تصب في مصالح عديدة لإسرائيل ليس هذا مجال البحث فيها.

كنت دائماً ممن يؤمنون أنه رغم كل حالة الضعف والتراجع العربي فإن الإطار القومي العروبي سيبقى دوماً هو الأكثر أصالةً وصحيةً لأي جهد صادق وجدي للنضال الفلسطيني، لعل مواجهة “سيف القدس” الأخيرة وتداعياتها غير المسبوقة عالمياً أثبتت أن (أنسنة) القضية الفلسطينية وجعلها عاراً إنسانياً مريعاً هو الإطار الواعد والمثمر في قادم السنين، للحفاظ على قدسية هذه القضية، وإن كان هذا أمراً للفلسطينيين أنفسهم أن يفكروا ويقرروا فيه.

خروج قيادات حماس من دمشق كنتيجة لموقفها الوجداني مع ثورة الشعب السوري تزامن مع حالة تضييق عربي وخليجي غير مسبوقة، تعرضت له الحركة التي كانت تعتمد على سيل مالي وازن يأتي من دول الخليج.

يروق للعديدين ولأسباب مختلفة أن يربطوا بين حالة التضييق الخليجي عموماً والسعودي خصوصاً لحماس بصعود نفوذ ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وهذا الأمر بعيد تماماً عن الحقيقة، الواقع أن حالة التضييق المالي والإعلامي لحماس بدأت في أيام حكم الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز، وأغلب ظني أنها كان لاعتبارات وحسابات سعودية محضة، تتعلق بعلاقات المملكة بالولايات المتحدة خصوصاً والغرب عموماً، والتي كانت لاتزال متأثرة بتداعيات زلزال 11 سبتمبر/أيلول، الذي استدعى حضوراً أمريكياً وازناً في المنطقة من العراق إلى أفغانستان.

لم تكن حماس تعتمد فقط على منح مالية سعودية وخليجية ولكنها كانت أيضاً تعتمد على تبرعات مالية سخية تقدمها العديد من الأسر التجارية الثرية في المملكة خصوصاً والخليج عموماً.

حجم المبالغ كان خيالياً، العشر الأخير من كل رمضان كان وحده كافياً لجمع هبات وتبرعات ضخمة باتت تشكل لاحقاً المصدر الرئيس لتمويل الحركة، بعد توقف الدعم من الجهات الرسمية السعودية والخليجية، حتى تلك التبرعات والهبات الأهلية وأموال الزكاة التي كانت ترسل لحماس جرى التضييق عليها لأقصى حد، كان واضحاً أن الحركة على شفا انهيار مالي بعد أن فقدت قيادتها قاعدتها المتقدمة في دمشق بفعل موقفها من الأزمة السورية، وكان واضحاً وجلياً أيضاً أن الأرضية صارت مهيأة تماماً لقوى إقليمية أخرى لتملأ فراغ الدعم المالي والإعلامي الذي افتقدته حماس.

أي حسبة سياسية متواضعة كانت ستصل لنتيجة واضحة لا يشوبها غموض في أن التضييق العربي الشديد على حماس كان سيدفعها للحضن الإيراني الذي كان ينتظر هذه اللحظة بترقب شديد، كانت إيران تواقة جداً لكسب ورقة حماس الإقليمية التي خسرها الأسد، لتستفيد منها في مواجهتها الحقيقية ليس مع إسرائيل، وإنما مع جيرانها العرب، وهذا بالضبط ما حصل.

ليس معنى هذا أن حماس كانت ستعمل مع إيران ضد العرب، ولكن المنطق السياسي البسيط يفرض أن من يتحكم بالدعم المالي سيكون بالضرورة، على الأقل، شريكاً في القرار السياسي.

الإيراني بالفطرة مغرم بالبازارات، والسياسة في ذلك ليست استثناءً لديه، حتى عند ملاليه الذين تظاهروا في البداية بحالة عتب شديد على حماس لموقفها الذي خيب آمالهم في سورية، ولكن سرعان ما تجاوز الطرفان حالة العتب الودود هذه، لتبدأ حماس فصلاً جديداً في دورها الإقليمي تستند فيه لدعم مادي شحيح من ملالي طهران، وإعلامي من حكومة العدالة والتنمية التركية، وكذلك دعم مالي قطري يكون سخياً فقط في الحدود التي لا تغضب واشنطن.

حماس في الحضن الإيراني

لا أريد أن أزاود على الإخوة الفلسطينيين في أن أناقش مدى أخلاقية التحاقهم بالموقف الإيراني في الوقت الذي تحتل فيه إيران أربعة عواصم عربية مهمة، إحداها تقع في الحديقة الخلفية للعربية السعودية، ولكن تفهمي المطلق للظروف الخارجة عن أيديهم، كما يبررون، والتي دفعتهم لهذا الموقف لا تجعل من السهل علي كسوري وكعروبي أن أتقبل هذا المنطق، وحتى لا أكون متحاملاً على الإسلام السياسي الفلسطيني الذي تمثل حماس أهم أركانه، فلابد من ذكر حقيقة مهمة ومؤلمة في آن وهي أن هذه الميكافيللية ليست حكراً على الإسلام السياسي الفلسطيني، فلليسار الفلسطيني شطحاته الطفولية المضحكة في التماهي مع أنظمة عربية قمعية، بحجة أنها أنظمة مقاومة وممانعة. أما تيار الوسط الفلسطيني فهو في الحقيقة أول من ابتدع هذه القسمة المؤلمة في التعاطي مع كل العرب المنخرطين بالشأن الفلسطيني. فمن منظور هذا التيار أنه في الوقت الذي يحق للفلسطينيين أن يختاروا تحالفاتهم بالشكل الذي يخدم قضيتهم، ويعتبرون أي تدخل عربي في أي مسار يختاره الفلسطينيون مساساً باستقلالية القرار الفلسطيني، فإنه لا يحق لأي طرف عربي أن تكون له أي مبادرة لا تتفق مع ما يراه الفلسطينيون كونهم أصحاب القضية، وللفلسطينيين دوماً حق التحالف مع من يرون في سبيل قضيتهم.. حتى لو كانت إيران، تلك قسمةٌ ضيزى!

هذا الموروث السياسي الفلسطيني ليس نتيجة الربيع العربي وليس وليد ضغط حصار مالي كالذي تعرضت له حماس، بل هو متأصل في طريقة التعاطي الفلسطينية مع محيطها العربي، ولعل أولى تجلياته ظهرت بوضوح صادم في طريقة تعاطي منظمة التحرير مع الرئيس عبد الناصر، عندما قبل مضطراً بمبادرة روجرز الشهيرة عام 1970.

عبد الناصر وحرب الاستنزاف

كان عبد الناصر في ذروة حرب استنزاف مريرة تخوضها مصر محاولةً تعديل الكفة بعد زلزال النكسة المدمر، وتتلقى بالمقابل ضربات جوية إسرائيلية في العمق المصري كرد على حرب الاستنزاف التي بدأت تؤلم إسرائيل، وكانت مصر بحاجة ماسة لفرصة استعادة أنفاس، تتمكن فيها من بناء حائط الصواريخ الذي ألح عبد الناصر على الروس بنشره على طول القناة، فقبل بمبادرة روجرز ليكسب بعض الوقت، وقال للفلسطينيين: “أنا قبلت المبادرة ومن حقكم أن ترفضوها”. لتتحول إذاعة صوت فلسطين من القاهرة لآلة شتم وتنديد بعبد الناصر ولتقول برامجها فيه من القاهرة مالم يقله مالك في الخمر، حتى اضطر الرجل لإغلاقها مؤقتاً. لم يشفع لعبد الناصر عند الإخوة الفلسطينيين صدقه ووضوحه الكامل معهم حين قال لهم: “ليس لدي خطط جاهزة لتحرير فلسطين، قبلت المبادرة لحاجات مصرية ملحة، ومن حقكم الكامل رفضها”، تماماً كما لم تشفع كل الدماء التي أراقها قاتل أطفال سورية قاسم سليماني في أن تمنع الإخوة في قيادة حماس أن يطيروا إلى طهران للتعزية به، وفتح سرادقات العزاء به في غزة، وتسميته “شهيد القدس”، في تحدٍ صارخ لمشاعر السوريين والعرب، لا بل وسواد الشعب الفلسطيني أيضاً.

أذكر قاسم سليماني تحديداً وموقف حماس منه لما له من رمزية خاصة في الوجدان السوري، فقد كان الحاكم الفعلي والمطلق لسورية منذ بداية حالة المواجهة بين النظام وشعبه بعد الانفجار السوري العظيم وحتى دخول الروس للمشهد هناك.

منذ اللحظة الأولى للحراك السوري أتى قاسم سليماني بكل التقنيات التي استخدمت في قمع تظاهرات طهران ووضعها في خدمة النظام لقمع الحراك السوري.

قاسم سليماني (أُذَّكِرْ قيادة حماس) كان هو المسؤول ومن اللحظة الأولى عن الضغط على النظام بكل ما أوتي من وسائل سياسية وعسكرية وأمنية، ليضمن عدم دخوله في أي حل حقيقي يصون دماء السوريين، نظاماً وشعباً.

حسن نصر الله الذي اتفق مع خالد مشعل على مدى فساد نظام الأسد ولكنه اختلف معه في أنه لا يملك إلا أن يدعمه بأي شكل كان واستقدم ميليشياته الطائفية لتوغل في دماء السوريين، كان في وضع محرج بعد تفجير الميناء في بيروت، إسماعيل هنية بصفته رئيساً للمكتب السياسي لحركة حماس، ودوناً عن خلق الله جميعاً، حضر إلى بيروت ليشد من أزر نصر الله وحزبه ويظهر معه في الإعلام وعلى رؤوس الأشهاد، في لحظة شعبية فاصلة كادت تطيح بنفوذ حزب الله في لبنان، وفي تحدٍ صارخ لمشاعر كل اللبنانيين وكل السوريين، وربما جل الفلسطينيين.

مواجهة “سيف القدس” والتعاطي الشعبي السوري معها، فعل أم ردة فعل؟

على امتداد سنوات أزمة الشعب السوري الطويلة منذ انتفاضته على النظام في 2011 وتحديداً خلال السنوات الخمس الأخيرة، كنت أحذر من أعرف من الفلسطينيين، خصوصاً أولئك الأقرب لتيار الإسلام السياسي الفلسطيني ممثلاً بحماس، من بوادر تصاعد نفس شعبي سوري أكثر سوريةً وأكثر بعداً عن الوجدان السوري الطبيعي الذي كان دوماً أكثر التصاقاً بكل القضايا العربية وفي مقدمتها قضية فلسطين.

هذا النفس كانت تذكيه التفافة حركة حماس باتجاه إيران وحزب الله بشكلها الإعلامي المبالغ فيه معطوفةً على حالة تخلي عربي شبه كامل عن مأساة الشعب السوري، كل هذا كان يحمل في طياته بذور تغيير بنيوي في الوجدان السوري الذي احتار من أين يتلقى الخيبات، من الإسلام السياسي الفلسطيني أم من اليسار الطفولي المضحك الداعم للأنظمة الشمولية أم من تيار الوسط الفلسطيني المستغرق دوماً في شعبويةً فلسطينيةٍ ضيقة تتلطى دوماً تحت ستار “القرار الفلسطيني المستقل”، أم من السلطة الوطنية الفلسطينية التي لم تقطع لحظةً مع نظام الأسد في تحدً سافر لمشاعر السوريين؟

مظاهر هذا التغيير البنيوي في الوجدان السوري اتجاه القضية الفلسطينية تحديداً بدأت تتجلى في انتشار مقولات لم تكن واردة ولا مقبولة في العرف الإنساني والوطني عند السوريين، كل السوريين، مقولات من قبيل “سورية أولاً، والدم الفلسطيني ليس أغلى من الدم السوري المسفوك على أيدي حلفاء حماس في طهران وضاحية بيروت الجنوبية، وقضية فلسطين ليست أكثر أهمية من قضية الشعب السوري”، لا بل أن بعض هذه المقولات والطروحات الغريبة تماماً عن الوجدان السوري بدأت ترى في أن كل ما تعرض له الفلسطينيون من مآسٍ على يد إسرائيل، لا تعادل جزءاً مما تعرضت له قطاعات عريضة من الشعب السوري في مواجهتها مع النظام.

لا ألوم الإخوة الفلسطينيين على الإطلاق في أن تكون قضية فلسطين محور اهتمامهم الأول، وحتى الأخير، ولكن أتمنى على نخبهم أن تتفهم أن هذا سيكون له منعكسات على طريقة التعاطي العربي عموماً والسوري خصوصاً مع قضيتهم العادلة، وأن السوريين من حقهم أيضاً أن تكون قضيتهم السورية محور اهتمامهم الأول والأخير، وأن هذا الحق الذي يسري على كل العرب ستكون منعكساته سلبيةً على قضيتهم على المدى الطويل.

مواجهة “سيف القدس” الأخيرة وطريقة تعاطي العديد من السوريين معها على منصات التواصل الاجتماعي كانت دليلاً صارخاً وصادماً على هذا التحول البنيوي في الوجدان السوري اتجاه قضية فلسطين، لا أتمناه ولا أتبناه، ولكنني أضعه برسم النخب الفلسطينية عموماً والإسلامية خصوصاً، ممثلةً بحماس.

كان واضحاً وجلياً أن الوجدان الجمعي السوري بلغ المرحلة التي عبر عنها الشاعر الأمير ابن حلب أبو فراس الحمداني في أصدق روميَّاته وأكثرها وجداً، حين قال:

إذا مت ظمآناً فلا نزل القطر

وأن المرحلة التي يعبر عنها شاعر سوري آخر هو المعري في طريقها للأفول، أقصد قوله،

فلا هطلت عليّ ولا بأرضي

سحائب ليس تنتظم البلادا.

لكل من يستغربون هذا التغير في الوجدان السوري نحو قضية فلسطين والذي أضعه برسم حركة حماس والعديد من النخب السياسية الفلسطينية الأقرب للإسلام السياسي، أقول لهم بكل صدق، ما قاله أبو فراس الحمداني في قصيدته عينها:

فقالتْ: ” لقد أزرى بكَ الدهرُ بعدنا!

فقلتُ: “معاذَ اللهِ! بلْ أنت لاِ الدهرُ …

المصدر: الناس نيوز

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى