يتنافس المعلقون الاسرائيليون حاليا على ايجاد اسم أو وصف مناسب لبنيامين نتنياهو، لكن الغالبية تتفق على وصفه بالساحر، وسماه آخرون بالنمر، ووصفه البعض بأنه سيد اللعبة السياسية بلا منازع، لنجاحه في خلق ديكتاتورية شخصية لم تعرفها إسرائيل من قبل.
كان نتنياهو موضع سخرية كثيرين عندما وصل رئاسة الحكومة أول مرة عام 1996 , ولكن هذا السياسي اليميني المتطرف أصبح أطول رؤساء الحكومات في الدولة اليهودية بقاء على راس السلطة، وهو يقترب حثيثا من العشرين سنة. وأصبح اليميني الذي حطم أحزاب اليسار للأبد، وأبقى (الليكود) حزب السلطة القوي، بعد أن كانت القاعدة في إسرائيل منذ تأسيسها العكس، أي اليسار هو الذي يحكم بصورة شبه دائمة.
خصوم نتنياهو وأعداؤه كثيرون، ولكنهم فشلوا في اقصائه عن السلطة، وانهاء حياته السياسية، وقد استعصى حتى على سلطة القضاء إذ فشلت حتى الآن في محاكمته وادانته بالفساد رغم توفر الأدلة القوية عليه وعلى زوجته، لإرساله الى السجن بفضل مناوراته البارعة.
قبل جولة الانتخابات الأخيرة يوم 2 مارس المنصرم كانت آمال خصومه وأعدائه وتوقعات مراكز الرصد تذهب الى اليقين بهزيمة نتنياهو ، وأن خسارته للسلطة سيسمح بمثوله أمام القضاء في 17 مايو القادم ، وإدانته وإيداعه السجن ، ولضمان هذا المسلسل اتحد خصومه في جبهة واحدة اسموها ( أزرق – أبيض ) يضم أحزاب الوسط واليسار ، ولكن صناديق الاقتراع خيبت أمالهم مرة أخرى ، إذ خرج نتنياهو فائزا ب 32 مقعدا ، وحصل حزب ازرق – ابيض بزعامة بيني غانيتس على 33 مقعدا ، ويستطيع الأول الحصول على دعم احزاب اليمين الصغيرة ليجمع 58 نائيا ، ولكنه لا يستطيع جمع 61 نائبا ليشكل حكومة مستندة الى الغالبية المريحة بقيادته . وبالمقابل يستطيع غانيتس جمع أصوات أحزاب اليسار والوسط، في تحالف (كاحول لافان) ولكنه لن يصل للغالبية أيضًا.
هكذا عادت دولة العدو الاسرائيلي الى المربع السابق، ولم تحسم الجولة الانتخابية الاستثنائية الثالثة خلال عام واحد التنافس لصالح أحد الفريقين، أي التوازن بين الجبهتين، وعدم إمكان تشكيل حكومة قوية. ورأى محللون في هذه النتيجة أن الناخبين يريدون إجبار الطرفين على تشكيل حكومة وحدة وطنية، لأن اسرائيل مهددة بالانقسام الذي وصفه كثيرون بأنه أخطر على أمن اسرائيل من التهديد الايراني والعربي معا!
وزاد في تعقيد الأزمة ظهور وباء كورونا الذي تفشى في إسرائيل بوتيرة سريعة وعالية، وقفز الى مرتبة التحدي الأول. وذهبت التوقعات الى انتشار الفايروس بسرعة وبمعدلات كارثية، خصوصا أن الظروف مواتية لانتشاره في غزة وانتقاله الى إسرائيل، الأمر الذي قد يسبب هلاك عشرات الوف الاسرائيليين، وانهيار اقتصادي يتسبب بإفلاس وخراب آلاف الشركات ورمي مليون عامل اسرائيلي الى صفوف البطالة الأمر الذي سيجعل إسرائيل في أزمة داخلية مدمرة حتما.
على ذلك انتقلت الأولوية أمام النخب الاسرائيلية الى انقاذ اسرائيل من تهديد كورونا قبل التخلص من نتنياهو، وقبل أخطار الارهاب والتهديد الإيراني والعربي.
أما نتنياهو فأولويته لم تتغير قبل وبعد كورونا، وهي العودة للسلطة ورئاسة الحكومة، لأن هذه العودة تعد بالنسبة له خشبة الخلاص الوحيدة، من سيف العدالة وارجحية الحكم عليه بالسجن . لذلك ركز مناوراته على تشكيل حكومة برئاسته فقط لتحاشي الوصول الى الاستحقاق القضائي ، وأخذ يساوم المعارضة ويغريها بتنازلات مغرية لخصومه في حزب ازرق – ابيض . ومع أن غانيتس سبق أن أقسم أمام حلفائه والرأي العام انه لن يشارك في حكومة أو تحالف مع نتنياهو مهما كانت المكاسب ، وبنى زعامته الناشئة على معاداته لنتنياهو ، إلا أن التعلب لم ييأس ولم يوقف مناوراته ، فنجح أخيرا ، وللمرة العاشرة في شق صفوف أعدائه ، وتركهم يقتتلون ويتفرقون !
حدث ذلك الخميس الماضي 26 مارس ، إذ وافق غانيتس بصورة مفاجئة على دعوة نتنياهو للتحالف معه في حكومة وحدة وطنية يتبادلان فيها رئاسة الحكومة والكنيست ، على أن تكون مواجهة الخطر الداهم ( كورونا ) برنامج الحكومة الوحيد . ويتولى بيبي رئاسة الحكومة في الشهور الستة الاولى ، ويرأس شريكه الكنيست . وتنازل نتنياهو عن وزارات سيادية لشريكه ، ولكنه بالمقابل أصاب عصافير كثيرة بحجر واحد : إذ تخلص من المحكمة ، وتخلص من جبهة الأعداء المتراصة ، وزرع الإنقسام والصراع بينها ، وأثبت للجميع أنه سيد اللعبة بلا منازع ، وبذلك أصبح نتنياهو أطول وأبرع زعماء اسرائيل منذ قيامها .
الصراعات الآن مستعرة على أشدها بين أحزاب اليسار والوسط ، واتهم غالبية السياسيين فيها غانيتس ببيعهم مقابل السلطة ، وخيانتهم ، والغدر بهم وبجمهورهم ، وأفضى ذلك بسرعة شديدة الى انفراط حزب ازرق – أبيض ، وتحالف ( كاحول لافان ) . ووصف بعض اليساريين ما حدث بأنه انقلاب يميني وفاشي يهدد الديمقراطية . إلا أن أنصار غانيتس وصفوا قراره بالشجاع ، لأنه ضحى بنفسه لانقاذ اسرائيل من خطر الفايروس الداهم الذي وصفه قائد الجيش بأنه قد يدمر الدولة فعلا ، إذا لم ينجح الجميع في الاتحاد لاحتوائه ومواجهته . وتنبأ أعداء بيبي بأنه سيحكم ويحاول تشريع قانون يمنع محاكمته ، ثم ينقلب على شريكه غانيتس ويرفض تسليمه رئاسة الحكومة ، ويذهب لانتخابات جديدة ، وهكذا يكرر لعبته البارعة التي لعبها سابقا مع تسيبي ليفني ! ويقف نتنياهو اليوم مزهوا بانتصاراته الانتخابية والتكتيكية ، ومن رائه تحالف اليمين الديني المتطرف ، ومدعوما بقوة لا حدود لها من الادارة الاميركية في واشنطن .
أما القائمة العربية المشتركة التي فازت للمرة الاولى ب 15 مقعدا، أي بزيادة كبيرة في حصتهم البرلمانية ، فمن المتوقع أن تلعب دورا حساسا في الدورة الجديدة ، وقد يتزعم النواب العرب جبهة معارضة واسعة ومرنة تضم أحزاب اليسار الصغيرة ، في مواجهة الحكومة اليهودية اليمينية المتطرفة التي تشكلت برئاسة نتنياهو – غانيتس !
المصدر: مجلة الشراع اللبنانية