وقبل نزار قباني وقصيدة “حقائب الدموع”، كان ميلان كونديرا قد خلص للسلام بوصفه استسلامًا للمطر، “دع لأمطار العالم الدافئة أن تسقط داخلك”.
استعادت صنعاء الليلة الكثير من سلامها الداخلي بالمطر، ويقال إن المدن التي تتجنبها الأمطار، تفقد ذلك الحس المغتبط بهبة السماء، الحس الآمن بفكرة تدخل الطبيعة بين الإنسان ونزعته للعنف.
ستكف الحديدة بأمطار الليلة عن كونها جحيمًا أرجأته الحرب وتركته هكذا يواجه طقس اللادولة واللاكهرباء واللااكتراث من أحد لمدينة يحيلها الصيف الجاف لسلخانة وعشوائية يصهرها الزنك والغبار.
ل ا أدري أين اختفت فتاة الحصبة، الكاتبة وهي تلوذ بصمت الجفاف كأنها تمضغ وحشة الحرب وبخل السحب، فتوقفت عن التدفق، وهي التي تولد من كل مطر، وترتجل مهرجانًا طفوليًا عن البنت التي ترفض أن تكبر وتقيم لكل مطرة وليمة ورقصة تؤديها وحيدة مع ذلك الحس السري بتوحش الكهولة.
مطر مطر، ولقد توقفنا منذ زمن عن تلك الميزة المتواضعة للكتابة عن طفولتنا والميازيب، وعن العقاب اليومي لطفل يبلل ملابسه كل يوم، ويعود وقد اعتاد العقاب، مثل قربان يقدمه لأجل المطر.
ما من أطفال يعبثون بملابسهم تحت الميازيب، ولا ميازيب أيضًا، ربما لأننا في الحرب نسينا طفولتنا، في الحرب نضجنا مرة واحدة، أمسينا منضبطين بلا ألاعيب ذهنية، ولا كتابات في تمجيد المطر.
لا أدري أين اختفت فتاة الحصبة، الكاتبة وهي تلوذ بصمت الجفاف كأنها تمضغ وحشة الحرب وبخل السحب، فتوقفت عن التدفق، وهي التي تولد من كل مطر، وترتجل مهرجانًا طفوليًا عن البنت التي ترفض أن تكبر وتقيم لكل مطرة وليمة ورقصة تؤديها وحيدة مع ذلك الحس السري بتوحش الكهولة.
لا يبدو أن لليمني سلامًا يلوح في الأفق، غير هذا المطر، المطر وهو قد تأخر هذا العام، ولقد انتظره كهل حارتنا باعتباره الإشارة لكون السماء لاتزال ترى فينا أناسًا صالحين وجديرين ببعض الرحمة.
قطرات متبقية كانت لدى السحب، تهطل الآن بتؤدة آخر من تبقى من سرب حمام، وبنبرة ناسك قال كل الذي لديه، ولايزال بحاجة لتأكيد فكرة الرحمة.
المطر في صنعاء لا يشبه أمطار لندن ولا بروكسل، هو لا يمنحهم هناك إشارة من نوع ما، ولم يعد من كاتب بريطاني أو ألماني يحاول استعادة طفولته في المطر، الطقس شأن الحرب، أمسى مرتبطًا بالتقدم بطريقته هو، وبفكرة البيروقراطية الاجتماعية، وبقدرات الدول وإدارات محليات المدن على مواجهة السيول، كما هو شأن مدن العالم الثالث، لكنه إذ يسقط على مدينة يمنية، إنما يعفي وعي اليمني البسيط من ثقل إحساسه بالذنب، يخبره المطر أن السماء لم تفقد رجاءها فيه، وأن عليه ألا يفقد رجاءه هو الآخر في أن هبة عليا ستمنح اليمني سكينة وأمانًا، وقد تخلى عنه العالم.
أتقافز بين حفر شارع الصيانة، أختبر ما أتمتع به من فتوة باقية، وأتأكد كلما نزل المطر أنني وإن لم أعد قادرًا على التمسك بطفولتي، إلا أنني لم أكتهل بعد.
يقال إن مصر هبة النيل
لكن اليمن “هبة المطر”
المطر من قرر شكل المدرجات والوظيفة الأولى للإنسان.
المطر وهو يحدد الفوارق بين أكثر من محافظة وفقًا لنسب هطول سنوية معينة، وهو المطر ما ترتب على وجهته توزيع الهجرات الداخلية بين صنعاء وذمار وإب.
في وعينا بقيت المحددات والخيارات القروية على الأقل مرتبطة بالمطر أولًا وأخيرًا.
ستبدو لك ملامح أبيك وجدك والعاقل والقريب من قرية مجاورة، وكيف تأخذ شكل تضاريس تنتظر أو لا تنتظر المطر.
كل أداء كان وفقًا للمواسم وتجليات الرحمة السماوية وهي لا تكف تقدم لليمني سببًا للاستمرار في إنجاز محصول زهيد وعناء باذخ.
بعد التلام سنفعل كذا وكذا، قبل التلام، وقت الجهيش، قبل الصراب أو بعده.
لا فعل في الذاكرة دون مطر.
لا مدرجات زراعية ولا هجرة داخلية ولا برنامج أو وظيفة أو مهمة أو جدوى للقروي بلا مطر.
كانت اليمن لتكون مجرد جبال سوداء وقيعان هاوية دون مطر، وماكان ليبقى فيها غير الفئران والخنازير البرية “الطهوش”.
وعندما يطرق اليمني بصمت متأمل في المتاعب، سيلكزه الأقرب إليه، مطمئنًا:
يدي الله مطر.
مضينا صوب سد شاحك في خولان، هناك حيث النموذج الإحيائي الثاني لحضارة السدود تاليًا لسد مأرب. وفي الطريق كان المطر، وكانت أخلاق خولان وفروسيتها قد أزهرت أثناء ما بدأ السخاء السماوي يمر على مزارع العنب
ينسحب المطر الآن فكرة بقيت من رهان الماضي، وكان المطر حتى القريب قبل عقود، هو الحدث الذي على ضوئه يتم اتخاذ القرارات العائلية: نزوجك يا فتى عندما ينزل المطر، نقترض حتى يأتي المطر، وإذا شاء الله وكانت أمطار هذه السنة كافية، سنذهب إلى الحج.
الآن تبدو التقلبات المناخية عمومًا قد أوجدت تناسبًا جديدًا في نسب الهطول بين مناطق اليمن، حتى إن صنعاء تلقت العام الماضي أمطارًا تكاد تكون قريبة من الكمية الأكبر المخصصة لإب، وها نحن حالة من الذكرى واستدعاء حضارة السدود، الدولة الأشهر قديمًا في بناء السدود، وهي كانت مميزة في هذه الاستجابة لهبة المطر.
قبل أسبوع، مضينا صوب سد شاحك في خولان، هناك حيث النموذج الإحيائي الثاني لحضارة السدود تاليًا لسد مأرب. وفي الطريق كان المطر، وكانت أخلاق خولان وفروسيتها قد أزهرت أثناء ما بدأ السخاء السماوي يمر على مزارع العنب، لحظة أن ثملت وأنا أرى أطفال خولان يتسابقون على قطف عناقيد العنب، وتقديمها للمارة في طريقهم إلى سد شاحك، السد الذي منح سكان صنعاء منتجعًا سياحيًا ومساحة بمعزل عن الضوضاء، ومنح خولان بعضًا من ضمانة تاريخية للمضي في زراعة العنب، وممارسة السخاء، وإظهار تلك الفروسية القروية أثناء تدفق الماء والمتنزهين على بلادهم.
اليمن هبة المطر، وفي كل موسم نزهر مجددًا، ونفكر أننا لانزال نحن تمامًا، ذلك أن للطقس بصمته الغالبة على الشخصية والقدرة على إمدادها بما تحتاجه من محددات إنعاش الذات واستعادتها.
المصدر: الوحدوي نت