قد تكون أوروبا الطرف الأكثر تضررا من تصاعد التوتر السياسي أو العسكري في أهم دول جنوبها. إذ لم يكن متوقعاً من مجلس الأمن كثيراً في حلحلة أزمة سد النهضة في دوائر الدبلوماسيين والخبراء بدولتي وادي النيل لمصر والسودان، ولكن حدة طرح بعض الدول الكبرى في رفض أن يكون مجلس الأمن فاعلاً في هذه الأزمة، رغم موقف إثيوبيا بتصرف أحادي الجانب في الملء الثاني، شكل صدمة في السياقات غير الرسمية، والشعبية ليس على مستوى دولتي الممر والمصب لنهر النيل، ولكن ربما في نطاقات أوسع، جعل التساؤلات ملحة عن مدى انخراط الدول الكبرى في حماية الأمن الإنساني في إطار مجلس الأمن، بديلاً عن الانحيازات المطلقة لمصالحها الذاتية.
في هذا السياق، يمكن تفكيك مواقف كل طرف للكشف عن دوافع موقفه في أمرين، تصنيف طبيعة الأزمة، وملامح مصالحه في رفض أن يكون هناك أدوار أممية في تحجيم تصاعد التوتر في إقليم ملتهب أصلاً.
ربما يكون تصنيف أزمة سد النهضة هو أهم القضايا الراهنة في تقديرنا ليس في سياق مجلس الأمن فقط، ولكن في كل السياقات الدولية والإقليمية، حيث يمكن رصد أن تصنيف الأزمة يتم بلورته حالياً في سياقين متناقضين الأول، هو تصنيف دولتي المصب وشعوبهما وأن هذه أزمة مهددة للسلم والأمن الإقليمي والدولي باعتبار أنها مرتبطة بمدى جدارة الدولة في توفير وتأمين أهم مستلزمات الحياة لمواطني دولتين، أما التصنيف الثاني، فقد تمت صياغته دولياً على أنه مجرد صراع جيوسياسي بين إثيوبيا ومصر يستند إلى دفاع مصر عن مكانتها الإقليمية تجاه إثيوبيا الناهضة.
يستند التصنيف الأول من جانب كل من مصر والسودان على الخبرة المترتبة على مباحثات فاشلة على مدى عقد كامل مع إثيوبيا، وعن رفضها التوقيع على اتفاق واشنطن رغم انخراطها في المفاوضات على مدى أربعة أشهر، فضلاً عن تصريحات المسؤولين الإثيوبيين الذين يملكون خططاً لبناء سدود إثيوبية جديدة على نهر النيل الأزرق، وأخيراً اعتبار أن مستقبل نهر النيل هو مجرد بحيرة إثيوبية، وهو ما يعني في الأخير تهديد الأمن المائي لملايين البشر.
أما التصنيف الثاني الذي عبر عنه المسؤول الإقليمي في الخارجية الأميركية فهو أن سد النهضة، صراع جيوسياسي بين دولتين، وذلك بعد مرحلة من تبني هذا التصنيف في أروقة مراكز الفكر والأبحاث الأميركية وتأثرت بها أيضاً بعض المراكز العربية، حيث يتجاهل هذا التصنيف حقيقة أنه لو كان الصراع الجيوسياسي هو القائم لما كانت مصر قد وافقت على قيام سد النهضة من الأساس، حيث يبدو أن التوجه الرسمي المصري المسكوت عنه هو “فليقم الإثيوبيون ببناء سد نتوافق على تشغيله تحت مظلة تنموية شاملة لحوض نهر النيل الأزرق، بدلاً من الحديث الدائم الذي يثيره الإثيوبيون بأنهم محرمون من الاستفادة من نهر النيل وذلك تحت مظلة انخراط مصري جاد في أفريقيا على المستوى الاستراتيجي”.
فيما بدا الموقف الروسي هو الأكثر إيلاماً في السياقات غير الرسمية إذ إن موسكو ليست عاصمة روسيا فقط، ولكنها أيضاً عاصمة الاتحاد السوفياتي الذي ما زال جيل يعيش على الأرض يذكر له حالة الانحياز لقيم العدالة.
وفي تقديرنا أن موسكو الجديدة، أرادت توظيف أزمة سد النهضة في مسألة إعادة تموضعها الأفريقي، حيث جاءت الفقرة الأخيرة من كلمة المندوب الروسي في مجلس الأمن مشيرة إلى إمكانية انخراط روسيا في وساطة بهذه الأزمة، رغم طرح الكلمة للدور المركزي للاتحاد الأفريقي، حيث لا يمكن فصل ذلك عن التحالف الروسي الصيني الذي يتطلب مساندة روسية لموقف الصين الحاد بشأن عدم انخراط مجلس الأمن في قضايا السدود والأنهار.
على صعيد مواز، يبدو أن موسكو تريد أن تأخذ موقفاً من مصر والسودان اللتين تجاهلتا عرضاً روسياً قبل أقل من عام جاء على لسان وزير الخارجية الروسي لافروف حين عرض وساطة روسية في أزمة سد النهضة، ولعل ذلك ما يفسر تجاهل الرجل لتناول هذه المسألة بالكلية في المؤتمر الصحافي الذي عقده في ختام زيارة السيدة مريم الصادق المهدي وزيرة الخارجية السودانية إلى موسكو.
وفيما يتعلق بالمصالح الروسية، فإن موسكو تريد الضغط على السودان بشأن تنفيذ اتفاق البشير معها بمنحها تسهيلات بحرية على البحر الأحمر، وتريد موسكو أن تكون لها قاعدة بحرية بعد تعثر تنفيذ هذا المطلب في جيبوتي، وهو المطلب الذي ترفضه السودان حالياً بضغط واضح من واشنطن، وربما تكون قد عرضته وزيرة الخارجية السودانية نظراً لحرج الموقف السوداني بشأن الملء الثاني لبحيرة سد النهضة، فطبقاً لحديث مسؤول سوداني لـ”اندبندنت عربية”، فإن إيراد النيل الأزرق في السودان بمنتصف يوليو (تموز) يكاد يكون مفقوداً، وهو أمر له تداعيات مباشرة على الحكومة الانتقالية الهشة أصلاً في الخرطوم.
أما على الصعيد الصيني، فإنه فضلاً عن الاستثمارات الصينية في سد النهضة، ورغبتها أن تكون مؤثرة في أهم دول القرن الأفريقي فإن انخراط مجلس الأمن في أزمات السدود والأنهار يجعل هذا الملف أحد الملفات التي يمكن استخدامها ضدها من جانب واشنطن، وخصوصاً ما يتعلق بأن تقيم سدوداً في نهر الميكونغ ببحر الصين الجنوبي متغولة ربما على حقوق 6 دول بينها فيتنام، وميانمار، وتايلاند، وكمبوديا.
في هذا السياق يبدو موقف الولايات المتحدة غير قادر على حسم أمره في هذا الأزمة والانخراط في مجهود جاد لتجنيب المنطقة صراعات إضافية، حيث إنه من الواضح أن واشنطن تسعى عبر عبارات التهدئة والاحتواء للقاهرة، والتي جاءت خصوصاً على لسان رئيس القيادة المركزية للجيش الأميركي وذلك لسببين، تحجيم اتجاه القاهرة نحو تصعيد يأخذ طابعاً عسكرياً، وذلك في مواجهة ضغط داخلي مصري متزايد على القيادة السياسية المصرية، أما غير المعلن فهو تحييد قدرات القاهرة خطوة خطوة، عبر استكمال ملء بحيرة سد النهضة بما يجعل هذه البحيرة سلاح ردع بمثابة قنبلة مائية ضد كل من مصر والسودان.
وفيما يخص أوروبا فربما تكون الطرف الأكثر تضرراً من تصاعد التوتر السياسي أو العسكري في أهم دول جنوبها، وهو أمر له تداعيات على الأمن الأوربي كما ناقشه الاتحاد الأوروبي في عيده الستين قبل أربع سنوات في روما، والذي كنت حاضرة لسجالاته، بين وزراء دفاع وخارجية الدول الأوروبية، حيث اعتُبر الإرهاب والهجرة غير الشرعية نتيجة لعدم الاستقرار المترتب على نقص الموارد أو سوء إدارتها، وهما شرطان يبدوان متحققان جنوب المتوسط بشكل عام ويزيد عليه في مصر نقص الموارد المائية التي هي أعلى أنواع الموارد حساسية وتأثيراً على حالة الاستقرار السياسي في أي دولة.
ربما انطلاقاً من هذا التقدير الأوروبي، فإن زيارة سامح شكري وزير الخارجية المصري لبروكسل مقر الاتحاد الأوروبي، قد وجدت أذهاناً مفتوحة لمناقشة أزمة سد النهضة وطرح إمكانية انخراط الاتحاد الأوروبي في نوع من المبادرات أو الوساطات في هذا الشأن، حيث سيناقش مجلس وزراء خارجية الدول الأوروبية هذه الأزمة في وقت قريب.
وهكذا يبدو الاتجاه الدولي في العودة إلى الاتحاد الأفريقي مرجحاً، ولكن ربما يكون الخطير في هذا الأمر أن تكون هذه العودة من دون إشراف من أي جهة دولية سواء مجلس الأمن أو الاتحاد الأوروبي، وهو ما قد يجعل الاتحاد الأفريقي يقدم دليل عجزه المطلق عن حل أزمة سد النهضة، في القريب العاجل، وذلك في ضوء قصور أدواته الفنية من ناحية، وعدم امتلاكه آليات ضغط على إثيوبيا الطرف المتعنت، وأيضاً وجود مقر الاتحاد في أديس أبابا، وكلها معطيات إجمالاً لا تقود إلى نجاح الاتحاد الأفريقي في إنجاز مهمته شبه المستحيلة، ويضع كلاً من مصر والسودان أمام خيارات بالغة الحرج والتعقيد في موقف يمكن وصفه باللامبالاة الدولية تجاه هذه الأزمة المتصاعدة .
المصدر: اندبندنت عربية