جمال الأتاسي عشرون عامًا من الغياب وما زلت حاضرًا

محمد عمر كرداس

نعم مازال حاضرًا: بتاريخه النضالي والفكري والسياسي لم يكن امينا عاما للحزب وبعدها للتجمع الوطني الديمقراطي بل كان المعلم والأب والمفكر الموسوعي والمثقف العضوي كما سماه غرامشي الملتحم بقضايا الناس والقدوة في العمل والحياة البسيطة وهو ابن العائلة الأرستقراطية التي انجبت الكثير من السياسيين ومن ضمنهم ثلاث رؤساء جمهورية في عهود مختلفة. انحاز للفقراء وهمومهم كجميع رواد الحرية في العالم، لذلك تبنى مشروع نهضة الامة بقيادة عبد الناصر بعد ما كان قياديا ومؤسسا في حزب البعث،

جذبه شعار ارفع راسك يا أخي فقد ولى عهد الاستعباد وعلى الاستعمار ان يحمل عصاه ويرحل. كانوا ثلة طليعية في الوطن العربي الذين تبنوا المشروع سياسيين ومفكرين بعضهم دفع حياته ثمن حمله لهذه الأفكار بدأ من المهدي بن بركه الذي اغتاله العميل الحسن الثاني مع المخابرات الفرنسية التي لم تغفر لعبد الناصر ما فعله في الجزائر وافريقيا  الى احمد بن بلا وتآمر الجميع على عزله الى مناضلين كثر على مستوى الوطن الكبير ،كانوا يتطلعون الى التجربة الناصرية في مصر الاقليم القاعدة من الغاء الملكية الى جلاء الإنكليز وتمصير الاقتصاد والإصلاح الزراعي وتاج التجربة بناء السد العالي والقاعدة الصناعية الكبرى ببناء اكثر من الف مصنع، السد الذي يحمي مصر مئة عام من الجفاف حسب الخبراء. كانت عيادته مفتوحة وبيته أيضا للجميع وخاصة للحوار مع أي طرف او شخص يقبل بالحوار حول قضايا الوطن وهمومه وسبل الخلاص من الواقع المؤلم.

    علاقة شخصية إضافة الى الحزبية جمعتني بالراحل الكبير منذ صيف 1970 عندما انتخبت عضوا باللجنة المركزية، ومع اشرافي على جهاز النشر كنت استلم مقالاته المكتوبة بخط يده لأنضدها على ورق الحرير وبعدها لتطبع على الجستتنر ،كان خطه جميلا قبل ان تصاب يده بإعاقة بسيطة من جلطة اصابته عام 58 ،نتيجة ضغط العمل في صحيفة الجماهير التي كلفه عبد الناصر برئاسة تحريرها واوقفها بعد مئة يوم بمقال رائع كان عنوانه الصمت موقف معبرا بذلك عن احتجاجه لتدخل البيروقراطية في عمله ،وقتها كانت الوحد ة حديثة عهد لكن سرعان ما تم فصم عراها بمؤامرات داخلية وخارجية ليتنطح في عهد الانفصال للقائمين عليه في جريدة البعث  التي اعيد إخراجها بعد توقف، لياتي حكم 8 اذار بانقلاب عسكري وقد شارك بوزارته الأولى كوزير للاعلام وسرعان ما استقال عند قناعته بان الحكم الجديد لن يعيد الوحدة مع مصر ولينحاز الى التيار الناصري الذي وجد فيه ما كان يراه صحيحا ويتلاءم مع توجهات الجماهير ،  لتتكرر الانقلابات العسكرية بين رفاق الحزب الواحد ولنصل أخيرا بعد مرحلة دامية من التصفيات قام بها الانفصاليون الجدد امام بوادر انقلاب في سورية اتى بنظام ما يسمى الحركة التصحيحية ولانه كان مهموما بالهم ا لوطني ومتفائلا بحذر ايد ما جرى في 16 نوفمبر/تشرين ثان الا انه صدم بعد التجربة  القصيرة من التعاون مع النظام الجديد وانسحبنا من الجبهة بعد فترة قصيرة لاكتشافنا مناورات النظام واستئثاره بالسلطة محاولا تهميش الجميع بما فيهم حزبه. وسرعان ما خرجنا من الجبهة ليبدأ بهمة لا تفتر محاولة جمع اطراف المعارضة المشتتة وبدأت نقاشات طويلة وعميقة ليخرج عنها عام 79 التجمع الوطني الديمقراطي بأحزابه الخمسة والذي اصبح الوعاء الاشمل والاقدر على جمع المعارضة الوطنية وليطلب من الجميع وقف نشرهم الخاص ليكون نشر التجمع هو المعبر عن رأي جميع الأطراف في التجمع.كخطوة هامة على توحيد الرؤى، كنا نجتمع في قيادة التجمع كل ثلاثة أسابيع  وكانت اجتماعات المكتب السياسي للحزب تتم في بيته شهريا بانتظام. ونتيحة توزيع البيان الأول للتجمع مع تسارع الاحداث ومؤتمرات النقابات المهنية التي بطش بها النظام حاول النظام ترهيب الدكتور فوضع  قنبلة تحت سيارته الا انها لم تحدث خسائر ونصحه الأصدقاء بالتواري عن دمشق لفترة وبعد الحاح خرج الى الزبداني ليقيم عند احد أعضاء الحزب وليعود سريعا الى دمشق ليتلقى عرضا مغريا من النظام بالعودة للتعاون مع تهديد مبطن عن طريق عبد العني قنوت وليرفضه فورا. عام 90 اشتدت الالام البروستات عليه وكان ممنوعا من اسفر منذ تركنا الجبهة، كانت العملية يحب ان تجري في فرنسا لدقتها ولوضع قلبه الضعيف، وبمسعى من شقيقه المهندس نادر سافر الى فرنسا واجرى العملية بنجاح ليعود بعد شهر ليزاول عمله المهني ونشاطه السياسي فورا فقد كانت الحرب على العراق وشيكة لإخراجه من الكويت .فانتقد بنشرة مشاركة الدول العربية ومنها سورية في هذه الحرب كما انتقد دخول الجيش العراقي الى الكويت وارسلنا بوفد للقاهرة للقاهرة لإبلاغ وجهة نظرنا للأحزاب المصرية المعارضة كحزب العمل والتجمع الوحدوي والحزب الناصري تحت التأسيس ومنظمات المجتمع المصري كنقابة المحامين وغيرها، واندلعت الحرب ونحن في القاهرة ليوقف الطيران ونبقى لنهاية الحرب وكانت مهمة غنية ومثمرة ،كان الوفد مشكلا من حسن عبد العظيم والمرحوم عبد الهادي عبلة ومني لنعود ونخضع لحملة اعتقالات واستدعاءات على خلفية موقفنا من الحرب وشملت الاعتقالات دير الزور وحلب ودمشق لتستمر عدة اشهر ليبدأ النظام بعدها بتغيير نهجه  من نظام بغداد وليفتح أبواب التجارة معه لازلامه ومحسوبيه مع برنامج النفط مقابل الغذاء ،لنبدأ مرحلة جديدة  من العمل السياسي ونتلقى رسائل النظام بطلب التعاون معه وليرفض الدكتور كل المحاولات طالما لم يغير النظام من تسلطه واستبداده ولنوسع الحوارات لتشمل الاحزاب الكردية  التي اعتبر  يدراسة موسعة ان القضية الكردية قضية عربية، وليتم ضم التنظيم الشعبي الذي خرجوا واخرجو من الحزب سابقا ممهدا لذلك بنشرات سياسة يوضح فيها ان الضم جاء لانهاء ظاهرة التعدد في العمل الناصري.كان نموذحا من المناصلين الذين يملكون الجرأة والشجاعة للتراجع عن الأخطاء ونقد المواقف.

    مع البدء بالإعداد للمؤتمر الثامن الذي أراده نوعيا وديمقراطيا حرص على حضور مناقشات بعض المؤتمرات الفرعية وعندما اكتملت التقارير والمؤتمرات الفرعية قرر دعوة بعض الضيوف من التجمع والوجوه الناصرية لجلسة الافتتاح، وقام بكتابة كلمة الافتتاح بحدود1200 كلمة ليسلمها لي ويقول كتبتها على قدر طاقتي التي بدأت احسها تتراجع.

   في اجتماع التجمع الأخير أحس بمشكلة جديدة في البروستات وتحتاج الى عملية، طلبنا منه اجراء العملية قبل المؤتمر فرفض قائلا لابد من انجاز هذه المهمة أولا التي طال انتظارها كان في المؤتمر متألقًا كعادته استراح الجميع لفترات وبقي صاحيا متابعا.    لم يتحمل قلبه الضعيف العملية الجراحية فاسلم الروح في المشفي يوم 30 مارس/آذار عام 2000 بعد عمر قضاه مدافعا عما أمن به من مبادئ.  رحم الله جمال الأتاسى غاب ويغيب الرجال وتبقى الذكرى.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى