1
من علو مناسب، وقبل الدخول بالتفاصيل نستطيع أن نتعرف إلى الصورة العامة للوضع الراهن في أفغانستان، وأن نستشرف بناء على ذلك تطوراتها المنتظرة، أو المفترضة.
هزمت الولايات المتحدة في أفغانستان بعد عشرين عاماً من غزوها هذا البلد، وانتصرت حركة طالبان، وعلى عجل بدأت الولايات المتحدة تلملم قواتها وتسحبها، وبالتبعية حلفاؤها، وتترك عملاءها في كابول وولايات البلاد الأخرى تحت رحمة قوات طالبان التي باتت تتقدم بسرعة وبقوة، وقد ينهار الوضع الداخلي للسلطات الأفغانية سريعا على طريقة حجارة الدومينو، وقد يستغرق الأمر أشهرا، لكنه محسوم على كل حال، وستلعب طريقة إدارة طالبان لهذه المرحلة دورا في رسم طبيعتها.
صحيح أن الانسحاب جاء بعد مفاوضات ممتدة، لكنها مفاوضات تمت فيما المعارك لا تتوقف، وهي مفاوضات لم تنتج أي ثمرة كانت الولايات المتحدة تريدها، اللهم إلا أن يسمح لقواتها بالانسحاب دون تعرضها أثناء انسحابها لهجمات.
نصر على قوات الغزو لا تشوبه شائبة، وهزيمة لهذه القوات لا تحجبها حاجبة، هزيمة تذكرنا في بعض الجوانب بهزيمة الولايات المتحدة في فيتنام، لكن المهزوم هنا ليس واشنطن فقط وإنما معها الناتو، والحلفاء الدوليين الذين استدعتهم لمشاركتها الغزو وقد تجاوز عددهم أربعين دولة، وتلفح معظمهم برداء الأمم المتحدة.
هذا النصر سيواجه، أو بدأ يواجه تحديات جديدة، لكنها ليست مفاجئة، تحديات داخلية وإقليمية تتصل باستكمال إدارة معركة النصر قبل الدخول في التحدي اللاحق الخاص ببناء الدولة والمجتمع.
** من هذه التحديات الداخلية أمواج الهاربين واللاجئين من الأفغان الذين كانوا عونا للمحتل على مدى عشرين عاما، وكانوا شركاء له في كل الجرائم التي ارتكبها بحق الأفغان وبحق المجتمع الأفغاني، ومن هؤلاء كوادر الدولة الأفغانية الراهنة، وقواتها المسلحة وأجهزتها الأمنية والإدارية التي بدأت تنهار وتهرب، وفي اللحظة التي تأكد فيها انسحاب القوات الأمريكية من قاعدة “باغرام الجوية” بدأ الجنود الأفغان بالهرب، وتدفق هؤلاء على الدول المجاورة بحثا عن ملجأ آمن، فيما بدأ آخرون بالخروج عن المنافذ المختلفة، واتجه الكونغرس ألأمريكي لإعطاء المتعاونين مع قواته من الأفغان تأشيرات دخول مستعجلة.
من المهم في هذه المرحلة أن تكون طالبان حاسمة إزاء كل هؤلاء، لكن التحدي المهم أيضا أن تكون واعية فلا تنزلق إلى أوحال منطق الانتقام، الذي يشجع عليه ويغري بها الكم الهائل من الجرائم التي ارتكبها المحتل ألأمريكي والعملاء المتعاونين معه، بحق الشعب الافغاني، بحق المدنيين الأفغان.
** ومن التحديات أن الدول المجاورة لأفغانستان متخوفة من تداعيات حسم الوضع لصالح طالبان، على استقرارها وعلى أوضاعها الداخلية بما قد يخلفه هذا النصر من تحد لتلك الأوضاع، وبما يمكن أن يوفره من ملاذات آمنة لمعارضيها، أو بما قد يغري أطراف محددة باتخاذ فكر طالبان في بناء “إمارة إسلامية” نموذجا يحتذى، خصوصا وأن بعض هذا الجوار يعاني من احتقان متعدد الدوافع مع الشارع الإسلامي ويواجه معارضة من قوى إسلامية تمثل تهديدا داخليا مهما.
وقد وضعت منظمة شنغهاي للتعاون التي تجتمع يومي 13 / 14 يوليو تطورات الوضع في أفغانستان على جدول أعمال اجتماع وزراء خارجيتها لتبني موقف موحد من هذا الوضع، وتضم منظمة شنغهاي للتعاون كلا من روسيا والصين وكازاخستان وقيرغيزستان وطاجاكستان وأوزباكستان، والدول الثلاث الأخيرة دول إسلامية تحد أفغانستان من الشمال، فيما تحدها ايران من الغرب والصين من الشرق وباكستان من الجنوب، واستشعرت موسكو حجم الخطر القادم من أفغانستان على هذه الدول، المأزومة إسلاميا، ولم تخف موسكو تخوفها من هذه التداعيات، وصرح سيرجي لافروف وزير خارجية روسيا الأربعاء أن موسكو مستعدة للدفاع عن حلفائها إذا استدعى الأمر.
** ومن هذه التحديات خطر السياسة “الطائفية الرسالية” لإيران، سياسة “نظام الولي الفقيه”، على استقرار الوضع في أفغانستان، وللمذهب الشيعي الاثني عشري والإسماعيلي في أفغانستان مكانة وأتباعا بحدود 15 % من مجموع السكان تزيد قليلا أو تنقص قليلا، أي نحو ستة ملايين نسمة، معظمهم في قبائل الهزارة والطاجيك، وكان لهؤلاء دورهم في مواجهة السوفييت، وعملت إيران وما زالت تعمل على أن تكون ممثلة لهم، أي على أن يكونوا تابعين لها، وهي التي شجعتهم على المشاركة في النظام السياسي الذي أنشأه المحتل الأمريكي، ثم عملت على استجلاب مرتزقة منهم ” من شيعة الهزارة” قاتلوا وما زالوا إلى جانب قوات النظام السوري تحت أسماء مختلفة “فاطميون، وأبو الفضل العباس”، وقدر عدد هؤلاء الذين استقدموا إلى سوريا بالآلاف.
وخطر هذه السياسة الإيرانية الطائفية حقيقي، خصوصا وأن حدود إيران مع أفغانستان تصل إلى 936 كيلو متر، ومنذ بدأ الغزو الأمريكي لجأ إلى إيران بشكل نظامي وغير نظامي نحو مليوني أفغاني، ومارست على هؤلاء الكثير من أساليب الإغواء والترغيب.
ولكن مما يقلل من القدرة على التلاعب بهذه الأقلية أن إيران التي لها حدود طويلة مع أفغانستان تغطي ولايتي “خراسان وخراسان الرضا” وفيهما تمركز سني، لا تملك تواصلا جغرافيا مع القطاع الواسع من شيعة أفغانستان المتمركزين في وسط البلاد في مناطق “باميان وكابل وغزنة ومزار شريف ومنطقة بغلان”، وبالتالي فإنه إذا أحسن التعامل مع تخوفاتهم، فإن اختراقهم وتوظيفهم دونه عوائق عدة، لكن إمكانية الاختراق تبقى متوفرة، وإذا ما تم ذلك فسيؤدي إلى انعكاسات شديدة السلبية على الداخل الأفغاني، وكارثة على هذه الأقلية.
** كذلك من الأخطار التي تواجه “نصر طالبان” ذلك الجيب السرطاني الذي ينشط تحت اسم “داعش”(تنظيم الدولة الإسلامية ـ ولاية خراسان)، والذي ظهر للمرة الأولى في العام 2015، وهو من مخلفات القاعدة التي استقر عدد من قادتها في إيران، لذلك فإن هذا التنظيم ليس بعيدا عن الأجهزة الأمنية الإيرانية، وكذلك ليس بعيدا عن الاستخبارات الأمريكية التي يهمها أن تجهض الانتصار الطالباني. وقد حاول هذا التنظيم إرباك لجهود طالبان العسكرية والسياسية في المرحلة الماضية، ونفذ هجمات واحتل مواقع استهدفت تخريب هذه الجهود وركز عملياته وجهوده على تفجير صراع طائفي شيعي سني من خلال تفجير مراكز ومساجد للشيعة ومن خلال القيام باغتيالات وهجمات ذات طابع طائفي، لكن نجاحه في هذا الميدان كان محدودا، إلا أنه يبقى احتياطيا مهما لكل من طهران وواشنطن.
** ومن هذه التحديات النجاح في “الإدارة الفاعلة والمنتجة” للعلاقات مع باكستان، وهي الدولة الوحيدة التي وفرت شروطا جوهرية لنجاح طالبان في مسيرة المقاومة، وصولا إلى مرحلة الانتصار، ومن أهم هذه الشروط التي وفرتها باكستان الدعمُ الدائم والمستقر عسكريا وماديا ولوجستيا للمقاومة الأفغانية. بل إن طالبان في انطلاقتها اعتبرت مولودا باكستانيا ساعدت المخابرات الباكستانية في وجوده ونموه، وأمدته بأسباب الحياة، لينهي الوضع الفوضوي الشاذ ل”فصائل المجاهدين الأفغان” الذين تحولوا عقب الانسحاب السوفياتي إلى الاقتتال والصراع البيني.
وباكستان التي نشير إليها هنا هي الدولة والمجتمع، مصالح الدولة الباكستانية، ومصالح المجتمع الباكستاني، ـ وهذا وضع يتجاوز موقف الحكومات الباكستانية المتعاقبة وصراعاتها الداخلية ـ ومع ملاحظة أن باكستان هي المعادل الموضوعي الإقليمي لإيران، وأنها دولة نووية، تصبح مراعاة احتياجاتها ضرورة لنجاح البلدين معا في التصدي للتحديات القادمة، وفي مقدمة مظاهر هذه المراعاة التجاوز الإيجابي للمسائل الطائفية، والقبلية المتجذرة في البلدين، وفي بنية السلطة والعمل السياسي فيهما، وعدم السماح بوقوع خلافات بينية يتسلل من خلالها أعداء البلدين. وقد أكد رئيس الوزراء الباكستاني “عمران خان” رفضه تقديم أي عون لأمريكا عسكري أو استخباري يستهدف أفغانستان.
ثم بعد كل هذه التحديات الداخلية والإقليمية سيأتي تحدي بناء المجتمع الأفغاني الدولة الأفغانية، وهو التحدي الرئيس، ليس فقط لأن بناء الدولة والمجتمع بعد تحقيق الاستقلال هو التحدي، وإنما أيضا لأن طالبان ترفع شعار بناء” إمارة إسلامية”، والشعار يعني أن عليها عبء تجسيد “الفكرة” في كيان قابل للحياة، ومن ثم للاحتذاء، وقد فشلت طالبان في تحقيق ذلك قبل الغزو الأمريكي فشلا لم يكن خافيا على أحد.
واشارت طالبان في بيان لرئيس مكتبها السياسي الملا “عبد الغني بردار” في 20يونيو الماضي إلى تفهم الحركة للقلق الدولي والداخلي بشأن تصوراتها لشكل نظام الحكم الذي ستقيمه، مؤكدا أن الحركة ستقيم نظاما إسلاميا حقيقيا يمثل أفضل وسيلة لحل جميع قضايا الأفغان، ويوفر الحماية للنساء والأقليات وقدرة الدبلوماسيين والعاملين في المنظمات الأهلية على العمل بأمان، وقال بردار في البيان” نقطع على أنفسنا التزاما باستيعاب حقوق جميع مواطني بلدنا رجلا ونساء في ضوء قواعد الدين الإسلامي المجيد والتقاليد النبيلة للمجتمع الأفغاني، وسيتم تقديم تسهيلات للنساء للعمل والتعليم”.
وبالتأكيد فإن معايير الحرية والتقدم والعمل والتعليم التي تحدث عنها زعيم طالبان هي شيء آخر غير تلك التي عملت عليها قوات الاحتلال الأمريكية، ونظام كابول التابع لها، للاختلاف الجوهري في مرجعية الطرفين، وسيكشف حكم طالبان الجديد عن الدروس التي تعلمتها هذه الحركة بعد عشرين عاما مضت على تجربتها الأولى في الحكم.
وسيكون حكم طالبان القادم حكما على فكر طالبان ورؤيتها الاجتماعية والسياسية، وهي فكر ديني، وقد تنجح في هذا الاختبار وقد تفشل، لكن في الحالتين ليس حكما على “الإسلام”، فالإسلام لم يكن موضع اختبار ولن يكون، وما هو في موضع الاختبار دائما إنما هو فكر وتصور ورؤى القوى التي ترفع شعار الإسلام، وتعلن أنه مرجعيتها فيما تقدم من تصورات وتنفذ من برامج.
وفق هذه الصورة الاجمالية التي استطلعناها، وفي إطار نجاح طالبان في التصدي للتحديات التي باتت تواجهها الآن، فإن أفغانستان بعد هزيمة الاحتلال وقواته، وتحقيق استقلالها فإنها تحدث فرقا حقيقيا في المنطقة كلها، في الدول والتحالفات والأحداث المنتظرة، وقد يمتد هذا الفرق إلى مدى أبعد بكثير مما يتصوره البعض.
بعد هذه الصورة الاجمالية لا باس أن نقف عند بعض التفاصيل التي من شأنها أن توسع زاوية الرؤية وتكشف لنا الفرق الذي أحدثه المتغير الأفغاني في صورة المنطقة.
2
فجر الجمعة الثاني من يوليو حينما أتمت القوات الأمريكية والأطلسية الانسحاب من قاعدة “باغرام” الجوية أهم معاقل القوات الامريكية في أفغانستان، تكون هذه القوات قد بدأت تودع هذا البلد بعد عشرين عاما من غزوها ومن المنتظر أن يكتمل الانسحاب نهاية أغسطس، وقد تتم ذلك قبل هذا التاريخ بكثير.
وبعيدا عن أي تهويل أو تهوين لما يجري فإن الحقيقة الحاسمة والساطعة أن أمريكا بكل ما تملك من قوة وجبروت وأسلحة فتاكة وحلفاء، انهزمت وانهزم معها حلفاؤها، وأنها انهزمت أمام قوة محلية استطاعت أن تبني شروط نصرها على أكبر قوة في العالم، وأن تحقق هذا النصر، وهذه ثاني هزيمة صارخة لها بعد هزيمتها في فيتنام، وخروجها صاغرة من ذلك البلد.
لا نريد أن نقف كثيرا على مبررات الغزو الأمريكي لأفغانستان، فليس فيه شيء يستحق التوقف عنده، وما عرضته واشنطن من أسباب للغزو بعد هجمات 11 سبتمبر لا يصمد للتدقيق، شأنه شأن الأكذوبة الصارخة التي صاغوها لغزو العراق واحتلاله، ثم إنها تخرج صاغرة لم تستطع أن تحقق شيئا من الهدف المعلن” محاربة الإرهاب”، واضطرت أن تفاوض على مدى سنوات قوة وصفتها بأنها “إرهابية”، رغم أن السياسة المعلنة لواشنطن أنها “لا تفاوض إرهابيين”، وهذا يعني أن العسكرية ألأمريكية انهزمت وهزمت معها ليس فقط السياسة الأمريكية وإنما ثوابت المواقف الأمريكية.
ومع هزيمة قوات الاحتلال الأمريكية، ينهزم بتسارع أتباع أمريكا من الأفغان، أولئك الذين جاؤوا مع قوات الغزو، وأولئك الذين صعدوا إلى مراكز الحكم والإدارة تحت رعاية هذه القوات، ولنتذكر أن الكبار من هؤلاء جاؤوا بطلب من الولايات المتحدة وهم يحملون جنسيتها، ولقد كان المرشح الأول لرئاسة أفغانستان بعيد الغزو هو “زلمان خليل زاده” ثم بدا لواشنطن أن تستبقي “خليل زاده” ليكون مسؤولا عن الملف الأفغاني ورشحت “حامد كرزاي” بديلا عنه لرئاسة هذا البلد.
والآن يتساقط هؤلاء تباعا، تتساقط المواقع والبلدات والولايات بيد قوات طالبان، ويفر أتباع أمريكا ملتحقين بها، بينما يفر الجنود الأفغان الذين تم حشدهم لمواجهة طالبان على مدى سنوات الاحتلال يفرون بالآلاف إلى الدول المجاورة. وقد فر أول ألف جندي إلى طاجاكستان بعد يومين من الانسحاب الأمريكي من قاعدة باغرام، مما حدا بهذا البلد إلى نشر قواته على الحدود لضبط الوضع.
لقد سطرت طالبان نصرها على مدى حكم ثلاثة رؤساء أمريكيين أطلقوا عملية الغزو، رعوه، وعززوه، قبل أن يأتي رابعهم ويقرر إغلاق هذا الملف.
قرار الغزو اتخذه الرئيس “جورج بوش الابن” على عجل متذرعا بهجمات الحادي عشر من سبتمبر، وأنشأ وقاد من أجله تحالفا دوليا من أكثر من أربعين دولة بزعم المساعدة في محاربة الإرهاب “قوات إيساف”، فالتحف هذا التحالف بلحاف الأمم المتحدة، التي أنشأته بموجب قرار مجلس الامن الدولي رقم 1386 في 20 ديسمبر 2001.
ثم عمل الرئيس باراك أوباما على تدعيم قوات الاحتلال الأمريكية التي قدر عديدها بمائة ألف جندي نظامي، عدا المتعاقدين الأمريكيين “المرتزقة”، بثلاثين ألفا آخرين.
وفي محاولة لتغيير المعادلات على الأرض دون زيادة في القوات أمر الرئيس دونالد ترامب الذي امر بزيادة قوات نيران هذه القوات إلى الحد الأقصى غير النووي، فاستخدم قنابل هائلة، وصواريخ لا سابق لاستخدامها. وكان ترامب قد وافق على بدء مفاوضات مباشرة مع طالبان في يوليو 2018 ، لكن هذا الضغط الترامبي لم يفلح.
وأخيرا جاء الرئيس “جو بايدن” بقرار إغلاق هذا الملف الذي مثل أطول حرب في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية وبسحب القوات الأمريكية من أفغانستان، ما يعني سحب كل قوات الاحتلال الأمريكية وغير الأمريكية.
وفي هذا الإطار لا يعود هناك معنى للحديث المتناثر عن بقاء بعض القوات بدعوى حماية مواقع معينة فمثل هذه التصريحات لا تعدو أن تكون لغوا في محاولة ساذجة لإخفاء حجم الهزيمة التي يدل عليها الانسحاب.
الانسحاب الأمريكي جاء تطبيقا لاتفاق تاريخي وقع بين الجانب الأمريكي ووفد طالبان في الدوحة يوم 29 شباط 2020، وذلك إثر مفاوضات استمرت طويلا وتنقلت بين عواصم دول عدة قبل ان تستقر في الدوحة عاصمة دولة قطر، حاولت خلالها واشنطن أن توقف مسيرة نصر طالبان بأن تدفع إلى تشكيل وفد مشترك من طالبان والنظام الأفغاني وما يدعى بمنظمات المجتمع المدني، تضمن من خلاله قيام نظام في أفغانستان يمثل خليطا من هذه التركيبة، لكنها فشلت في ذلك.
عشرون عاما من الاحتلال، ليست مجرد رقم، لكنها تاريخ صراع دام، ووقائع ومصائب وجرائم ودمار، أصاب شعبا آمنا لم يكن قد خرج بعد من حرب عشر سنوات مع قوات الاحتلال السوفياتية ( 1978ـ 1989)، ومن صراعات جماعات المجاهدين المتناحرة عقب الانسحاب الروسي، قبل أن تنهي طالبان هذا التناحر وتبسط سيطرتها على أفغانستان بحلول العام 1998.
عشرون عاما من الغزو والاحتلال اختارت الولايات المتحدة أن تطلق على أول مرحلة منه اسم عملية “الحرية الباقية 2001 ـ 2014″، وعلى المرحلة الثانية اسم “حارس الحرية 2015 ـ 2021″، وعلى عكس هذه المسميات المخادعة فإن هذا الغزو مثل في المرحلتين عدوانا صارخا على شعب آمن، وتدميرا لحرية الوطن الأفغاني، ولحياة المواطن الافغاني، وأريقت فيها من الدماء، دماء المدنيين الأبرياء ودماء العسكريين ما فاق كل الحروب الأمريكية السابقة، وإضافة إلى ذلك أهدرت فيها كرامة الأمم المتحدة على نحو غير مسبوق أيضا.
يلف غموض كبير الأرقام الحقيقية لضحايا الغزو الأمريكي من الجانب الأفغاني من المدنيين ومقاتلي طالبان والرقم يحسب بمئات الآلاف من الضحايا، لكن “بي بي سي نيوز” وثقت استنادا إلى مصادر أممية مقتل 111 ألف مدني أفغاني اعتبارا من العام 2009، حين بدأ توثيق سقوط الضحايا المدنيين، أي بعد ثماني سنوات من الغزو، وتذهب تقديرات إلى وقوع أكثر من مائة ألف ضحية بين المدنيين في السنوات العشر الأولى، كما وثقت “بي بي سي نيوز” إستنادا إلى وزارة الدفاع ألأمريكية، وبعثة المساعدة الدولية “إيساف”، عدد القتلى والمصابين من قوات الاحتلال الأمريكية فبلغ 2300 قتيل إضافة الى 20660 مصاب ومعاق، ومئات من قتلى المرتزقة الأمريكيين العاملين تحت اسم “متعاقدين مدنيين”، وكذلك 450 جندي بريطاني، هذا بخلاف قتلى ومصابين قوة “إيساف”، كما وثقت مقتل 64100 جندي أفغاني.
وفي الأرقام المعتمدة أمريكيا بلغت التكاليف الأمريكية المباشرة لهذا الغزو والاحتلال حتى العام 2019 أكثر من 822 مليار دولار، أي قرابة أربعة مليار دولار شهريا على امتداد ثماني عشرة سنة، وهذا لا يشمل مصاريف القوات الأمريكية الرديفة الداعمة من خارج أفغانستان. كما لا يشمل بالطبع تكاليف “إيساف”.
الولايات المتحدة تخرج مهزومة من أفغانستان، لم تحقق هدفا، ولم تخلف إلا الضحايا والدمار، والسؤال الطبيعي الذي لابد أن يطرح هنا، من يعوض على الشعب الأفغاني والذي يلامس عدده الأربعين مليونا عن أرواح ضحاياه، وعن الدمار الذي أصاب البلاد والعباد، عن أجيال من الأطفال والشباب لا يعرفون إلا الحرب والقتل والمآسي.
يغادر المحتل البلاد، وتنتصر المقاومة، لكن كيف يمكن التعامل مع نتائج ذلك الغزو وآثاره، كيف للأفغاني أن ينظر إلى العالم، وإلى المجتمع الدولي، وإلى الأمم المتحدة بعد هذا الذي حدث له، كيف يمكن للشعب الأفغاني أن يطوي بحق هذه الصفحة الدامية من حياته.
الحق الذي لا مراء فيه أن أول ما يجب هنا أن يقدم اعتذار رسمي وواضح للشعب الأفغاني عن هذا الغزو وما ارتكبه المحتل من جرائم، اعتذار يكون البداية لكل خطوة لاحقة، ويكون في الوقت نفسه بمثابة اعتراف بالمسؤولية عن كل ما وقع عليه وعلى وطنه.
ثم إنه يقع على قوى الغزو والعدوان تعويض هذا الشعب عما أصابه، وإذا كان ما من شيء يمكن أن يعوض عن الحيوات التي أزهقها الاحتلال، ما من شيء يمكن أن يعيد الأب أو الابن أو الزوج أو الأسرة التي شطبها المحتل من لوحة الحياة، فإنه يصبح من الواجب أن يذهب هذا التعويض إلى أجيال الأفغان على تدرجهم استثمارا في العلم والصحة والعمل والحياة الكريمة، وإلى الوطن الأفغاني إعمارا للبنية الأساسية فيه، وتمكينا له من الخروج من وحول زراعة المخدرات التي رعتها قوات الغزو والمتعاونين معها سلطات وميليشيات. وهذا كله يقع على عاتق الولايات المتحدة أولا، وعلى عاتق التحالف الدولي التي شاركتها هذا الغزو. وعلى الأمم المتحدة التي رضيت أن تقدم غطاء أمميا لهذه الجريمة.
إن هذا يستدعي أن يعقب الاعتذار إنشاء صندوق أممي ل”إعادة إعمار لأفغانستان” تحت إشراف الأمم المتحدة، تموله بشكل أساسي الولايات المتحدة ومن ثم مجموع الدول التي شاركت في الغزو، ويتولى وفق خطة تضعها الدولة الأفغانية الجديدة تغطية تكاليف إعادة إعمار هذا البلد في مختلف القطاعات وعلى مختلف الوجوه.
3
ولا يختتم المشهد الأفغاني، مشهد انتصار طالبان على قوات الاحتلال والغزو إلا بالتوقف عند مصطلح الإرهاب الذي ما فتئت الولايات المتحدة ترفعه في وجه كل قوى تقاوم الاحتلال أو الظلم أو تتمرد على قوى الطغيان.
ومصطلح الإرهاب مصطلح مركزي في السياسة الخارجية الأمريكية منذ عهد الرئيس الأمريكي رولاند ريغان، وهو من أكثر المصطلحات استخداما، ودأبت الخارجية ألأمريكية على إصدار نشرات تصم شخصيات وجماعات وحركات وأحزابا بالإرهاب، وتصم دولا وحكومات بدعم الإرهاب، وتطالب دول العالم عموما العالم وحلفاءها خصوصا باتخاذ الموقف نفسه من هؤلاء” الإرهابيين”، وترتب على ذلك عقوبات وتغري بمكافآت، وشعارها الدائم “واشنطن لا تفاوض الإرهاب”.
والذي نعرفه أن واشنطن صنفت طالبان بأنها حركة إرهابية، ومع ذلك دخلت واشنطن بمفاوضات مع طالبان لسنوات، وكانت منذ العام 2018 مفاوضات مباشرة، ثم توصلت معها إلى اتفاق يقضي بانسحابها من أفغانستان لصالح هذه الحركة “الإرهابية” بالعرف ألأمريكي.
والحق أن قضية الإرهاب تحتاج إلى وقفة، وأن مفهوم الإرهاب يحتاج إلى تمعن، حتى لاتختلط الأمر، وتتداخل المسائل ، وتضيع الحدود.
بداية يجب الاعتراف بأن المجتمع الدولي لا يملك تحديدا واضحا جازما معنى الإرهاب، وليس هناك في القانون الدولي مثل هذا التحديد ولا في الاتفاقات والوثائق الملزمة الصادرة عن الأمم المتحدة، رغم العديد من الجهود المحاولات التي بذلت للتوصل الى موقف وتعريف ملزم.
وللحق فليست الولايات المتحدة هي وحدها التي لاتريد أن يكون هناك تعريفا وموقفا قانونا دوليا ملزما بشأن الإرهاب، وإنما هذا موقف كل الدول الكبرى، لأن كلا منها في جعبته مشاكل ومعضلات لايريد أن تحده حدود في مواجهتها، ولا يريد أن تفرض عليه طرق لايتعداها، في جعبة روسيا أزمات مستعصية من ازمة الشيشان 1994 وما تلاها الى الازمة الأخيرة في القرم وأوكرانيا، وفي جعبة الصين ملفات من أهمها ملف الإيغور في إقليم شينجيانغ وملف التبت، وأحداث “ساحة تيان آن من” قبل 32 عاما، وملفات عديدة لدول الاتحاد الأوربي داخل أوربا وأقربها وأشهرها ملف الصراع في البلقان ومذابح البوسنة والهرسك، وفوبيا الاسلام، وملفات أخرى في افريقيا.
كل الدول الكبرى في النظام الدولي الراهن لا تريد ولا ترحب بوجود تعريف واضح جامع مانع للإرهاب، وللمنظمات الإرهابية، وللأفعال الإرهابية، وجميعها يريد أن يبقى الأمر استنسابي لكل دولة، واستنسابي لكل حدث، واستنسابي لكل قوة معنية. وكل الدول الكبرى تنطلق في موقفها من مصالحها الخاصة، لذلك هي مسؤولة مجتمعة على إهدار كل فرصة وكل جهد لبناء رؤية أممية قائمة على ضمير انساني فعال.
ورغم اشتراك كل الدول الكبرى في إعاقة التوصل الى موقف اممي موحد إلا أن الولايات المتحدة تتحمل المسؤولية الأولى في ذلك بحكم كونها الدولة الأعظم التي تعمل على فرض سيطرتها على العالم بالقوة، وبحكم كونها الراعية الأولى للكيان الصهيوني العنصري في فلسطين المحتل الذي يرتكب جرائم إرهاب وعنصرية وعدوان بشكل يومي.
مهم أن نتذكر هنا محاولات دولية للتوصل إلى تعريف محدد للإرهاب، لكنها بقيت محدودة قاصرة وكذلك عاجزة عن التحول إلى إنجاز ملزم قانونيا.
في العام 1972 ذهبت الأمم المتحدة إلى أن الإرهاب هو” استخدام العنف غير القانوني أو التهديد به بغية تحقيق هدف سياسي معين”.
وعلى وقع هجمات سبتمبر 2001 واحتلال أفغانستان بعيد ذلك، وكذلك احتلال العراق في 2003 أعطى مجلس الأمن الدولي في قراره رقم 1566 الصادر في أكتوبر 2004 تعريفا محددا للأعمال الإرهابية حيث نص على أن الأعمال الإرهابية هي ” الأعمال الإجرامية بما في ذلك تلك التي ترتكب ضد المدنيين بقصد القتل أو الحاق إصابات جسمانية خطيرة أو أخذ الرهائن بغرض إشاعة حالة من الرعب بين عامة الجمهور أو جماعة من الأشخاص أو اشخاص معينين أو لتخويف جماعة من السكان أو ارغام حكومة أو منظمة دولية على القيام بعمل ما أو عدم القيام به. واعادت الجمعية العامة للأمم المتحدة تأكيد هذا التعريف في قرارها رقم 43/ 60 الصادر في يناير 2006.
وذهبت المحكمة الجنائية الدولية المؤسسة في يوليو العام 2002 (تم التوقيع على نظامها الأساسي في روما في العام 1998) إلى تعريف للإرهاب جاء فيه أن الإرهاب هو “استخدام القوة أو التهديد بها من أجل إحداث تغيير سياسي أو القتل المتعمد والمنظم للمدنيين، أو التهديد به لخلق جو من الرعب والاهانة للأشخاص الأبرياء من اجل مكسب سياسي أو الاستخدام غير القانوني للعنف ضد الأشخاص والممتلكات لإجبار المدنيين او حكوماتهم للاذعان لأهداف سياسية”.
لكن هذه القرارات والتعريفات على قصورها لم تتحول لتكون جزءا من القانون الدولي وبالتالي لم تأخذ طابع الإلزام، وبقيت مجرد محاولات تستجيب لظروف محددة مقصودة بعينها، أو تحكم عمل هيئات محددة مثل المحكمة الجنائية الدولية (روسيا والولايات المتحدة والصين والهند ليسوا موقعين على ميثاق المحكمة)، لكنها لا تعطي تعريفات محددة ملزمة أمميا لمصطلح “الإرهاب” الذي يبقى مصطلحا محملا بدلالات سياسية وايديولوجية، وبمصالح ذاتية، وبوقائع مرحلية.
والإرهاب في حقيقته وصف لعمل قبل أن يكون وصفا لفكر، وإن كانت له أرضيته الفكرية، وإذا كانت مواجهة العمل ضروري للتصدي لظاهرة الإرهاب، فإن مواجهة الفكر ضروري لتفكيك العقل الإرهابي.
والعمل الإرهابي بهذا الطابع يتجلى في ثلاثة مستويات:
الفعل، والاتجاه، والأداة.
** ويمكن أن يقوم به الفرد، فنكون أمام إرهابي. استهدف الوصول إلى غرض ما دون مراعاة أي اعتبار، وهذا أبسط أنواع الإرهاب وأقلها خطرا، لأنه ينتهي بانتهاء الفرد.
** ويمكن أن تقوم به جماعة، أو تنظيم سياسي، أو اجتماعي، أو ديني، وعندها نكون أمام تشكيل إرهابي.
** ويمكن أن تقوم به سلطة سياسية في دولة ما، فنكون أن سلطة إرهابية أي إرهاب دولة.
** ويمكن أن يستخدم العمل الإرهابي ضد جهة محددة. في مكان محدد، فيكون بذلك عملا إرهابيا مضبوطا.
** ويمكن أن يستخدم استخداما عشوائيا، لا يكون فيه العدو محددا، ولا تكون للمكان خصوصية عداء، وإنما الاختيار جاء بهدف نشر الرعب والذعر العام.
** ويمكن أن تستخدم في العمل الإرهابي أسلحة وأدوات عادية تستخدم في مختلف أنواع الصراعات، قنابل، براميل متفجرة، عبوات ناسفة.
** ويمكن أن تستخدم فيه أسلحة هي بطبيعتها محرمة دوليا وتصنف باعتبارها أسلحة إرهابية. الغازات السامة مثل غاز السارين، والأسلحة الكيماوية، والقنابل الحارقة.
كل ما سبق من تجليات العمل الإرهابي، ونحن حينما نتطلع إلى تعريف قانوني شامل وملزم فإننا ندرك أن من خصائص التعريف تغطيته هذه الجوانب كلها، لكن واشنطن والدول الكبرى لا تريد مثل هذا التعريف، الجامع المانع والمقيد، ولم تقتصر عدم الرغبة بمثل هذا التعريف على هذه الدول، وإنما امتدت ظاهرة عدم الرغبة في التوصل إلى هذا التعريف للعديد من الدول الأخرى الأقل شأنا التي صار من مصلحة النظم القائمة فيها أن يبقى مصطلح الإرهاب غائما بحيث يسمح لها أن تطلقه على من تشاء من خصومها السياسيين، من جهة، كما يسمح لها بأن تستخدم كل الأسلحة التي تملكها ـ ولو كان بعضها يدخل في المحرم والمجرم ـ بمواجهة هؤلاء الخصوم.
هذه الرغبة الحقيقية في إبقاء مفهوم الإرهاب غائما عائما، أفقدت مفهوم “مقاومة الإرهاب” على المستويين الوطني والدولي قيمته الحقيقية، وجعلته مجرد سلعة دعائية بأيدي القوى المسيطرة، قل أن يستحوذ على اهتمام المجتمع وعلى تعاطف قواه المختلفة، وبالتالي فإن يصبح عاجزا عن التعامل الصحيح والفاعل مع بيئة الإرهاب.
وفي العودة إلى أفغانستان فإن حركة طالبان وعلى امتداد السنوات العشرين من صراعها ضد قوات الاحتلال لم تقف كثيرا على أوصاف الإرهاب التي أطلقتها الولايات المتحدة تجاهها، وتجاه قيادات وشخصيات طالبانية، إذ اعتبرت ـ وهي محقة في هذا الاعتبارـ أن واشنطن التي تحتل أفغانستان، وتقتل بطائراتها وصواريخها المدنيين الأفغان، وتدمر بيوتهم وتحرق محاصيلهم، ليست أهلا لأن تكون مرجعا في توصيف الآخرين.
لذلك فإن إطلاقها وصف الإرهاب على الحركة وعلى رجالاتها يصبح مصدر فخر واعتزاز، لأنه بات يعني أن الحركة ترهب قوات الاحتلال وترهب القيادة السياسية لهذه القوات، وأن من شأن زيادة منسوب هذا “الإرهاب” أن يأتي بواشنطن صاغرة إلى طاولة المفاوضات، وأن يدفعها صاغرة أيضا على اتخاذ قرار الانسحاب، ولأنها كانت موقنة بهذه الرؤية أصرت على أن تكون جولات المفاوضات كلها فيما المعارك مع قوات الاحتلال مستمرة لا تتوقف، وهي في هذا تكرر التجربة الناجحة للتفاوض بين الفيتناميين والأمريكيين التي كانت تجري في باريس بينما القتال على أشده لا يتوقف في فيتنام.
مهم جدا هذا الدرس الطالباني لكل القوى والحركات التي تعمل على تحرير أوطانها، فمهما تكتل الأعداء، ومهما تكاثروا، ومهما استجلبوا من مرتزقة وميليشيات داعمة، ومهما استحضروا من أدوات العنف والقهر، يبقوا معتدين، إرهابيين، طارئين على الوطن والمجتمع والحياة، لا يستطيعون أن يتحملوا ثمن البقاء، ومصيرهم أن يرحلوا صاغرين.
الدرس الطالباني في مواجهة المحتل ليس الدرس الوحيد الذي يقدم لقوى المقاومة، لكن لعله الدرس الأهم على الإطلاق.
9 / 7 / 2012
د. مخلص الصيادي