يبدو أن وفاة الشاعر العراقي سعدي يوسف فتحت نوافذ على أوجاع الأوطان وأحزابها السياسية وحكامها، وعلى تمايز رؤى المثقفين إلى مجرى الأحداث العميقة في المنطقة العربية. وسعدي شاعر متعدّد أوجه الإنتاج الأدبي والثقافي، لكنَّ مواقفه السياسية لا تتوازى مع إبداعه، فإذا كان قد اتخذ موقفاً من حزبه الشيوعي لدى غزو الأميركان بلاده عام 2003، فإنَّ موقفه من الربيع العربي لم يكن متسقاً مع موقفه الأول، لا فكرياً ولا سياسياً، كما لم يكن قائماً على قراءة دقيقة لدوافع الربيع العربي وغاياته. وبغضّ النظر عما آلت إليه هبّات هذا الربيع الأولى، فإنه، بمفهومه الأشمل والأعمق، نزوع نحو الحرية والديمقراطية اللتين هما طريق للخلاص من أنظمة الفساد واستبدادها، من أجل بناء دول تكون قادرةً على تنمية أوطانها على أسس حضارية معاصرة، يفرضها واقع التخلف الشامل. وفي تحقّق هذا جلاء الغَمِّ الذي خلفته هزائم الحكام المتلاحقة في صدور أبناء شعوبها من مخاوف وأثقالٍ يشير إليها الواقع القاتم اليوم. ولعلَّ وفاة سعدي يوسف الذي وصف نفسه بـ”الشيوعي الأخير” تشير إلى موقفه من عموم مجريات ما حدث في السنوات العشر الماضية، ومن جهةٍ ثانيةٍ، إلى بؤس مواقف الأحزاب الشيوعية العربية عموماً، والسورية منها على وجه الدقة (معظم الأحزاب الشيوعية تفرّعت إلى أحزاب صغيرة، وخصوصاً بعد سقوط التجربة السوفييتية).
بدايةً، لم تأت مسألة الربيع العربي من فراغ، ولا من تآمر محدّد. لقد جاءت من حاجة موضوعية التقطها جيل الشباب، بوعيه النوعي الجديد الذي تلقاه عبر ثورتي الاتصالات والمعلوماتية، ومن خلال تراكم معاناته بهزائم حكّامه المريرة سياسياً وعسكرياً وتنموياً. وقد تُقرأ حاله الأخيرة، لأول وهلة، أنها ذاتية، لكنها في حقيقة الأمر، في صلب الجانب الوطني والقومي العام، والمقصود هنا عطالة الأجيال الشابة التي نالت في بلادها قسطاً من التعليم، وانعدام فرص العمل أمامها. وبالتالي، ابتعادها عن مجالي الإنتاج والإبداع، وإثبات الذات، والمساهمة في تغيير واقع البلاد الذي يبدأ بالتخلص من الحاكم المستبد. إذاً هي ثوراتٌ بكل معنى الكلمة، يؤكّد ذلك تفجّرها بالعدوى، ما يوضح أن الحال في جوهرها واحدة، فمن تونس إلى مصر فليبيا وسورية واليمن، وقد رافقتها إرهاصاتٌ في دولٍ أخرى، وإنْ بوتائر أقل، لتغير ظروف بلدانها، ما أبقاها كامنة، الأمر الذي أكَّد وحدة الأوجاع من فساد وقمع وتخلف، وأنها هي وليدة الاستبداد وأركان دوامه واستمراره.
ولا يهم مآل الثورات في هذا البلد العربي أو ذاك، فهي لم تنته بعد، وسوف تقوم من انتكاساتها التي قد تكون طبيعيةً في مسار الانقلاب التاريخي لبنية المجتمعات المنغلقة أزماناً طويلة، كما يرى الكاتب اللبناني محمد علي مقلد، في كتابه “هل الربيع العربي ثورة.. قراءة يسارية” (منشورات ضفاف، منشورات الاختلاف، بيروت، الجزائر، 2017) إذ يقول: “ما حصل، ويحصل في العالم العربي، وقد يستمر حصوله لسنوات طويلة، هو ثورة، بل هي أول ثورة بالمعنى الدقيق للكلمة”. ويقارن أحداث الربيع العربي بحوادث جرت في تاريخ هذه البلاد: “وكل ما عدا ذلك لم يكن سوى انتفاضات أو حركات تمرّد أو مطالبة بالسلطة، كثورة الزنج أو البابكية أو ثورة القرامطة، أو الانقلابات التي جرت في العصر الحديث بقيادة أصوليات يسارية أو قومية أو دينية، من سعد زغلول إلى جمال عبد الناصر في مصر وأديب الشيشكلي وضباط حزب البعث في سورية والعراق، ومن جعفر النميري إلى عمر البشير في السودان التي تدعو كلها إلى تغيرات جزئية، وموضعية.. سلبية أحياناً وإيجابية أحياناً من داخل المنظومة الحضارية والسلطوية ذاتها”.
ومن هنا جاءت مواقف الأحزاب الشيوعية السلبية وبعض مثقفيها من ثورات الربيع العربي، فالأحزاب الشيوعية التي توهّج حضورها في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي لم تعد لها تلك الحيوية، بعد أن عاشت حالة من اليتم الحقيقي بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وكان بعضها قد خضع لتحالفاتٍ ساهمت في تمزّقها، وتشرذمها، وتمييع نضالها، وبالتالي الإجهاز عليها (الشيوعي السوري وحزب البعث). ويمكن القول إن الأحزاب الشيوعية واليسارية عموماً لم تستطع تجديد حياتها، ولم تستطع، في الوقت نفسه، أن تكون أمينةً لمرحلة توهُّجها، فتعمل على مباركة الجديد القادم، كونها تؤمن بديالكتيك الحياة والتاريخ.. ولا بد أن تكون قد أدركت أنَّها ابنة مرحلة مضت وانقضت. وكان يمكن أن تؤَبِّن نفسها عند ذلك الحد. لكن هبّة الشباب بالزخم الذي جاءت عليه مبشّرة بيسار جديد قد شلَّت حركة الجميع، فمعالم اليسار القادم تؤكد أنه يسار بحجم الوطن أرضاً وشعباً، لا تحدُّه أحزاب ولا تؤطره إيديولوجيات أو حكام! يسار يحنو على وطنه وإنسانه معاً.
المصدر: العربي الجديد