توقع أغلب المراقبين أن تشهد العملية السياسية في ليبيا بعض الانتكاسات من حين إلى آخر نتيجة لضعف السلطة التنفيذية المنبثقة عن الحوار الأممي، ونتيجة أيضاً لعدم الاستقرار الذي يعيشه البلد، والذي تسببت فيه عوامل عديدة. فالسلاح الخفيف والثقيل ما زال منتشراً في ليبيا بأيدي الميليشيات ولم يُنزع، والأخيرة لم يتم حلها وإدماج عناصرها في أجهزة الدولة أو في الدورة الاقتصادية، وبعض الأطراف الخارجية المتدخلة في الشأن الليبي لم يتم إرضاؤها كما يجب في العملية السياسية ولم يهدأ لها بال حتى تنال المزيد من كعكعة الحكم والثروات.
لذلك لم يكن مفاجئاً أن يُغلق الجيش الليبي الذي يعمل تحت إمرة خليفة حفتر الحدود الليبية الجزائرية ويعلنها منطقة عسكرية يُمنع التحرك فيها خلافاً لإرادة المجلس الرئاسي الذي من المفروض أن القيادة العليا للقوات المسلحة تعود إليه. كما لم يكن مفاجئاً أن يرفض حفتر نفسه في وقت سابق هبوط طائرة رئيس الحكومة عبدالحميد الدبيبة في بنغازي باعتبارها تضم عناصر نُعتت بأنها إرهابية كانت ضمن الفريق الأمني لرئيس الحكومة، ويتعلق الأمر تحديداً بميليشيا النواصي التي تتهم بانتحال صفة جهاز المخابرات.
ويبدو أن إغلاق الحدود مع الجزائر جاء رداً من خليفة حفتر على الحوار الأخير الذي أجراه الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون مع إحدى القنوات العربية، والذي لمح فيه بما مفاده أن الجزائر اعتبرت خلال معركة طرابلس أن العاصمة الليبية هي خط أحمر ولا يجب على حفتر دخولها، وقد وصلت الرسالة على ما يبدو إلى هذا الأخير وتراجع عن مسعاه. وبالتالي تم اعتبار هذا التصريح استفزازياً وتدخلاً جزائرياً في الشأن الليبي يقتضي تحركاً ما، واستقر الأمر على إغلاق المعابر الحدودية بين البلدين وهي حدود صحراوية في عمومها لن تؤثر كثيراً في الحركية الاقتصادية في ليبيا.
ولعل السؤال الذي يطرح اليوم، كيف سيتعامل المجلس الرئاسي الذي فيه تمثيل لكل أقاليم ليبيا بما في ذلك إقليم الشرق أو برقة، حيث معقل خليفة حفتر مع تحركات القوات الموالية له على الحدود مع الجزائر؟ هل يمتلك هذا المجلس الوسائل التي تمكنه من فرض قراراته؟ أم أنه سيرضخ في النهاية لمشيئة خليفة حفتر الذي يبدو أن التوازنات الجديدة التي تمخض عنها الإتفاق الأممي لم ترض طموحاته وطموحات داعميه؟
إن ما هو أكيد أن المجلس الرئاسي، وهو القائد الأعلى للقوات المسلحة أضعف من أن يجبر الجيش الليبي بقيادة حفتر على الإذعان لمشيئته باعتباره حديث عهد في إدارة شؤون البلاد ولا تدعمه قوة حاملة للسلاح قادرة على تغليب إرادته. وأقصى ما يمكن لهذا المجلس القيام به هو الطلب من بعض الأطراف الخارجية أن تضغط على خليفة حفتر من أجل أن يتراجع على ما أقدم عليه من إغلاق للحدود مع الجار الجزائري الذي ما كان عليه بدوره أن يدلي بمثل تلك التصريحات التي أساءت كثيراً إلى الليبيين.
وبالتالي فقد أحرج المجلس الرئاسي الليبي نفسه، وهو القائد الأعلى للقوات المسلحة، حين أعلن عن حظر أي تحركات لقوات عسكرية في البلاد إلا بعد موافقته، وهو الذي يدرك أفراده تمام الإدراك أن في الإمكان أن تحصل تحركات عسكرية من دون موافقتهم ولن تكون لديهم القدرة لمنعها أو لردع من يتجرأ على القيام بها. كما أحرج المجلس نفسه حين ظهر بمظهر القابل بالتدخلات الخارجية وهو يعارض سلوك حفتر من دون أن يعلق على تصريحات تبون التي أثارت جدلاً واسعاً داحل ليبيا وخارجها.
كان من الأفضل لهذا المجلس الرئاسي، وفي إطار إنقاذ ماء الوجه، أن لا يصدر ذلك البيان مع السعي في الخفاء للضغط على حفتر للتراجع عن إغلاق الحدود مع الجزائر ومن دون الذهاب في التصعيد معه. كما كان من الأفضل لهذا المجلس، وبعد أن وجه لومه ضمنياً إلى الطرف الليبي، أن ينتقد ضمنياً أيضاً التصريحات الصادرة عن الرئيس الجزائري والتي تدخل من خلالها في الشأن الليبي.
ولعل حداثة عهد أعضاء المجلس الرئاسي بالعمل السياسي هي التي تفسر سلوك الهواة الذي ينتهجونه مع هذه الأزمة التي تقتضي دهاءً سياسياً وحنكة منقطعي النظير لا يمتلكهما محمد المنفي ورفيقيه في الوقت الراهن. كما يخشى البعض من أن يكون سبب الهجوم على حفتر قد تم بتحريض من تركيا والحركات “الإخوانية” التي يبدو أنها بصدد الهيمنة على السلطة التنفيذية الجديدة مثلما كان حاصلاً مع رئيس الحكومة السابق فايز السراج الذي وصفه البعض بالدمية التي تتحرك وفقاً لأهواء الأتراك وآخرين من الفاعلين في المشهد السياسي الليبي.
فما يحصل في ليبيا ليس انتكاسة للعملية السياسية مثلما ذهب إلى ذلك البعض وإنما هو تعثر بسيط تشهد مثله كل الدول التي تعيش أوضاعاً مشابهة لما تعيشه ليبيا اليوم وذلك خلال السنوات الأولى من المراحل الإنتقالية. ومن المؤكد أنه مع مرور الوقت والقيام بعدد مهم من الإصلاحات ستتحسن الأوضاع أكثر فأكثر وسيصل البلد إلى بر الأمان.
المصدر: النهار العربي