باستثناء قرار الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الانسحاب من شمالي مدينة الرقة لصالح تركيا، وقراره المفاجئ الانسحاب من سورية قبل أن يتراجع عنه، تبدو الولايات المتحدة غائبة تماماً عن المشهد السوري، لا سيما السياسي منه. والتراجع الأميركي من الساحة السورية بدأ نهاية عام 2015، وتحديداً في أواخر سبتمبر/ أيلول، حين دخل الروس عسكرياً إلى سورية، الأمر الذي لا يمكن أن يحصل لولا وجود موافقة أميركية ضمنية، لإعادة ترتيب الجغرافيا العسكرية المبعثرة.
وقد ترافق الحياد العسكري الأميركي، إن صحت العبارة، بتراجع آخر على المستوى السياسي في الفترة نفسه، كان عنوانه اجتماع فيينا الأول في 30 أكتوبر/ تشرين الأول 2015 الذي جمع 17 دولة، إضافة إلى الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي. تم في ذلك الاجتماع اعتماد صيغة بيان جنيف الأول لعام 2012 “هيئة حكم ذات صلاحيات تنفيذية كاملة”، غير أن روسيا وبعض الدول استطاعت إقناع الولايات المتحدة بتغيير هذه الصيغة، فاجتمع الفرقاء مرة أخرى في فيينا في 14 نوفمبر/ تشرين الثاني من العام نفسه، وخرجوا بصيغة “حكومة وحدة وطنية”. لم تقبل الدول الإقليمية والأوروبية المعارضة للنظام السوري بهذه الصيغة، فتم اللجوء إلى مقاربة عامة اعتمدت لاحقاً في قرار مجلس الأمن 2254، الصادر في 18 ديسمبر/ كانون الأول من العام نفسه، “حكماً ذا مصداقية يشمل الجميع، ولا يقوم على الطائفية، وتحدّد جدولاً زمنياً وعملية لصياغة دستور جديد، ويعرب كذلك عن دعمه انتخابات حرّة ونزيهة تجري عملاً بالدستور الجديد”. وبعد هذا القرار، استمرت اجتماعات جنيف نحو سنتين، من دون أن تخرج بأي شيء، في ما كانت الآلة العسكرية الروسية توجه ضرباتها للمعارضة التي اضطرت إلى الانسحاب من مدينة حلب في 13 ديسمبر/ كانون الأول عام 2016.
اتجهت روسيا إلى تركيا للمساعدة في ترتيب الوضع العسكري، في مقابل تقديم تنازلات كبيرة لها في الشمال السوري، ونتج عن ذلك مسار أستانة الذي رأى النور في يناير/ كانون الثاني 2017. وقد اهتمت الجولات الثلاث بمسألة وقف إطلاق النار بين النظام والمعارضة، فيما خرجت الجلسة الرابعة في الرابع من مايو/ أيار 2017 باتفاق “مناطق خفض التصعيد الأربع” (محافظات إدلب واللاذقية وحلب وأجزاء من محافظات حماة، حمص، درعا والقنيطرة، منطقة الغوطة الشرقية). ولكن تبين، بعد نحو عامين من انطلاق مسار أستانة، أنه كان مقدمة للقضاء على المعارضة العسكرية وإخراجها من كل هذه المناطق، بما فيه الجنوب الذي كان تحت الرعاية الأردنية ـ الأميركية، ولم يستثن من ذلك سوى إدلب لاعتبارات تركية. وفي خضم هذه التحولات العسكرية، خلص مؤتمر الحوار السوري ـ السوري الذي عُقد في سوتشي الروسية إلى الموافقة على تشكيل لجنة دستورية، غير أن الأمر احتاج نحو عامين، لكي تجد اللجنة طريقها إلى أرض الواقع. وخلال هذه الفترة، كان السجال محصوراً بين الروس والأتراك والأمم المتحدة، مع حضور نسبي ضعيف للأميركيين. وجاء الانسحاب الأميركي من منطقتي تل أبيض ورأس العين في الشمال السوري تتويجاً لمسار التراجع الأميركي، وفتح الباب واسعاً لتركيا وللنظام السوري للسيطرة على مناطق كانت ممنوعة عليهما.
هل يعني ذلك كله أن الولايات المتحدة تسير على مسار بطيء للانسحاب نهائياً من المشهد السوري برمته، وتركه لقادة الكرملين؟ تبدو الإجابة عن هذا السؤال صعبة، لأسباب كثيرة، منها المفاجآت المتعددة التي عرفها الملف السوري سياسياً وعسكرياً، والغموض البناء الذي يكتنف السياسة الأميركية تجاه سورية.
لكن الإصرار الأميركي على البقاء في المثلث السوري التركي العراقي، وعلى البقاء عند الحدود السورية العراقية في التنف أولاً، وعلى ربط إعادة الإعمار بالتسوية السياسية ثانياً، وعلى فرض عقوبات اقتصادية متصاعدة على النظام السوري وحلفائه ثالثاً، وعلى منع الدول من الانفتاح على دمشق سياسياً رابعاً، ذلك كله يشير إلى أن الاستراتيجية الأميركية تقوم على معادلة الانسحاب وعدم الانسحاب في الوقت ذاته.
وباعتبارها دولة عظمى، تمتلك الولايات المتحدة القدرات العسكرية والاقتصادية والسياسية على التعطيل. ومن هنا ليس ضرورياً أن يربط حضورها الاستراتيجي الواسع بالجغرافيا الضيقة. وتقوم المقاربة الأميركية على عدم التدخل المباشر، سواء على الصعيد العسكري أو السياسي، (باستثناء السيطرة على عدد من حقول النفط)، أي أن واشنطن لا تتدخل في تفاصيل العمليات العسكرية، ولا في تفاصيل العمليات السياسية الحاصلة، وقد تركت هذه المسائل للعواصم المعنية. وتقوم الاستراتيجية الأميركية على التعطيل، وهذا ما تدركه موسكو جيداً، فبدون الضوء الأخضر الأميركي، لن تستطيع موسكو استثمار كل نجاحاتها العسكرية على الأصعدة السياسية والاقتصادية والإنسانية.
وقد بينت السنوات السابقة الفشل الذريع للجهود الروسية في الملفات السياسية والاقتصادية والإنسانية. وعليه، يمكن القول إن الولايات المتحدة تركت سورية للروس، شرط أن يلبي الأخيرون المطالب الأميركية. يدرك الروس ذلك، ويدركون حجم قدراتهم المحدودة، لكنهم يلعبون على الوقت، على أمل أن تأتي إدارة أميركية متساهلة، أو إلى حين وصول الأزمة الإنسانية في سورية إلى حد يدفع المجتمع الدولي إلى غضّ النظر عن التغيير السياسي في مقابل منع حصول كوارث إنسانية، أو حدوث تغير مفاجئ مثل انتشار فيروس كورونا للمطالبة بالانفتاح على دمشق، تحت عنوان الضرورات الإنسانية.
وإذا لم يحدث ذلك، ليس أمام الروس سوى ترك الأزمة السورية مفتوحةً مع ما يعنيه ذلك من تكلفة مالية باهظة على دمشق وطهران وموسكو، أو الضغط على النظام السوري، لإجراء التغيير السياسي. وعند ذلك، سيصطدم الروس مع دمشق وطهران. وفي الحالتين، لا يوجد أفق روسي للحل من دون الأميركيين. وقد بينت التجربة أن الروس قادرون على ممارسة ضغوط على النظام السوري في القضايا التكتيكية المرحلية، مثل اتفاق سوتشي حول إدلب أو اتفاق موسكو الأخير حول إدلب أيضا، لكنهم عاجزون تماماً عن ممارسة الضغوط، حين يتعلق الأمر بالتحول السياسي.
المصدر: العربي الجديد