يوم دام آخر عاشته مدينة عفرين الواقعة في ريف حلب الشمالي الغربي، حيث تساقطت عليها أول من أمس السبت قذائف صاروخية ومدفعية من مناطق تقع ضمن النفوذ الروسي توجد فيها قوات للنظام، وأخرى لـ”وحدات حماية الشعب” الكردية التي تشكل الثقل الرئيسي لـ”قوات سورية الديمقراطية” (قسد)، في خطوة غير متوقعة يبدو أنها تحمل الكثير من الرسائل السياسية.
ولا تزال الصدمة تسيطر على عفرين ذات الغالبية الكردية من السكان، جراء القصف الذي أودى بحياة 21 شخصاً، فضلاً عن أكثر من 40 مصاباً، جلّهم من المدنيين، في حصيلة غير نهائية، بعدما طاول القصف قسم الطوارئ في مستشفى “الشفاء” في وسط المدينة. واتجهت أصابع الاتهام على الفور إلى “قوات سورية الديمقراطية”، كون القذائف جاءت من منطقة تل رفعت التي تسيطر عليها هذه القوات منذ مطلع عام 2016. إلا أن “قسد” أصدرت على الفور بياناً نفت فيه مسؤوليتها عما جرى، مشيرة إلى “أنه ليس لدينا أيّ تواجد في تلك المناطق”.
وتخضع منطقة عفرين للسيطرة التركية منذ مطلع عام 2018، بعد أن ظلّت لسنوات تحت سيطرة الوحدات الكردية التي انسحبت من المنطقة نتيجة عملية عسكرية واسعة النطاق حملت اسم “غصن الزيتون” قام بها الجيش التركي وفصائل سورية معارضة تابعة له. ووصفت وزارة الدفاع التركية الهجوم بـ”الدنيء”، متهمةً القوات الكردية المتمركزة في ريف حلب الشمالي بالوقوف وراءه، وأوضحت أنه “تم إبلاغ روسيا بهجوم وحدات حماية الشعب الذي استهدف المدنيين الأبرياء بشكل مباشر”. وأضافت: “يجب أن يعلم الإرهابيون، أعداء الإنسانية، أنهم سيدفعون بالمثل ثمن هذه الهجمات”.
من جانبه، وصف “الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية”، في بيان، ما جرى في عفرين بـ”جريمة حرب”، واتهم الوحدات الكردية بالوقوف وراء القصف، مشيراً إلى أن هذه القوات “تستنسخ الانتهاكات وجرائم الحرب التي يرتكبها النظام بدعم من روسيا وإيران منذ سنوات”.
ويأتي القصف الصاروخي الذي طاول عفرين، السبت، في خضم تصعيد عسكري بدأه النظام والجانب الروسي مع بداية الشهر الحالي على الشمال الغربي من سورية، مع اقتراب موعد استحقاقات سياسية مهمة في الملف، أبرزها اللقاء الذي سيجمع الرئيسين الأميركي جو بايدن والروسي فلاديمير بوتين في جنيف، بعد غد الأربعاء، ومن المقرر أن يكون الملف السوري حاضراً على طاولة التباحث. كما جاء القصف بعد أيام قليلة من اجتماع على مستوى الخبراء بين الروس والأتراك في العاصمة الروسية موسكو، لمحاولة التوصل إلى تفاهمات حول ملفات عدة، منها تجديد آلية إدخال المساعدات الدولية إلى الشمال الغربي من سورية الشهر المقبل، إذ تصرّ موسكو على أن يكون للنظام الدور الحصري فيها، بينما يرفض الأتراك والأميركيون ذلك ويدفعون باتجاه الإبقاء على الآلية الراهنة التي تسمح بإدخال المساعدات إلى محافظة إدلب ومحيطها عبر معبر باب الهوى الحدودي مع تركيا والواقع تحت سيطرة فصائل المعارضة السورية. ويدل هذا التصعيد باتجاه منطقة عفرين الواقعة ضمن النفوذ التركي المباشر على أن موسكو وأنقرة لم تتوصلا إلى أي تفاهمات جديدة حيال الملفات الساخنة في سورية خلال الاجتماع المذكور.
وتقع مناطق واسعة في ريف حلب الشمالي تحت النفوذ الروسي المباشر، ما يعني أنه لا يمكن لقوات النظام أو وحدات حماية الشعب الكردية بدء تصعيد واسع النطاق كالذي حدث السبت، إلا بموافقة أو بإيحاء روسي. وفي السياق، ربط القيادي في فصائل المعارضة في الشمال السوري، مصطفى سيجري، بين ما جرى في عفرين والتصعيد الحاصل في مناطق عدة في محافظة إدلب. وأشار، في حديث مع “العربي الجديد”، إلى أنّ “منطلق الهجمات الإرهابية على منطقة عفرين كان مناطق سيطرة الأسد وعصابات قسد في منطقة تل رفعت وما حولها، وفي هذا رسالة واضحة بأنّ روسيا تلوّح باستخدام القوة في المرحلة المقبلة للضغط على الأتراك عبر تحريك مليشيات قسد”. وتابع أن “مليشيات قسد المتمركزة في مناطق غرب الفرات منذ عام 2016 تتحرك بحماية ورعاية ودعم وغطاء وأوامر من الاحتلال الروسي”.
لكن الرئيس المشترك لـ”مجلس سورية الديمقراطية” (الجناح السياسي لقوات سورية الديمقراطية)، رياض درار، اعتبر أنّ “استهداف عفرين كان يراد منه الإساءة لقسد”. وقال في منشور له عبر موقع “فيسبوك”: “مع اقتراب لقاء بايدن – بوتين، ولقاء آخر يضم بايدن و(الرئيس التركي رجب طيب) أردوغان (اليوم الإثنين)، فإنّ طباخي الفتن يهمهم الإساءة لمشروع سورية الديمقراطية، ويهمهم تشويه قوات سورية الديمقراطية، وهذه المرة جريمتهم كانت باستهداف مستشفى في عفرين وارتكاب مجزرة بحق المدنيين الأبرياء”.
من جانبه، أشار الباحث السياسي المقرب من الإدارة الذاتية ذات الطابع الكردي، إبراهيم مسلم، في حديث مع “العربي الجديد”، إلى أنّ “أغلب قتلى القصف على عفرين هم من الأكراد”، لافتاً إلى أن “قائد قسد، مظلوم عبدي، نفى مسؤولية قواته عن القصف”. ورجح مسلم أن يكون لـ”الروس والنظام يد في هذا القصف، إذ دائماً ما يلجأ هذان الطرفان إلى قصف المستشفيات والمدارس في كل سورية”، داعياً إلى تشكيل لجنة تحقيق لمعرفة ملابسات ما جرى”.
من جهته، رأى الباحث في مركز “الحوار السوري”، محمد سالم، في حديث مع “العربي الجديد”، أنّ القصف الذي طاول مدينة عفرين “رسالة روسية للجانب التركي وللولايات المتحدة الأميركية”، مضيفاً أنّ “قصف المستشفيات بدقة، أسلوب روسي تكرر بشكل مباشر أو عبر وكلاء؛ النظام غالباً وهذه المرة قسد”. وبيّن “أن قسد استولت على تل رفعت في عام 2016 بدعم من الطيران الروسي ضمن سلسلة ردود موسكو على حادثة إسقاط الطائرة الروسية قرب الحدود من قبل الأتراك أواخر عام 2015”. وبرأيه، فإن “قوات قسد في غربي الفرات ورقة يتم اللعب بها من قبل روسيا ضد تركيا عندما تتوتر العلاقة بين موسكو وأنقرة بشأن سورية خاصة”. وأعرب سالم عن قناعته بأنّ “هناك جملة أسباب أدت إلى عودة التوتر بين موسكو وأنقرة”، موضحاً أن تركيا “تبذل جهوداً بالتنسيق مع الولايات المتحدة لتمديد القرار الدولي الخاص بإدخال مساعدات دولية إلى الشمال الغربي من سورية، أو إيجاد بدائل، وهو ما ترفضه روسيا”. وأشار إلى أنّ “هناك تقارباً وتنسيقاً بين أنقرة وواشنطن في ما يتعلق بالملف السوري تحديداً، بدأت مؤشراته مبكراً منذ إحياء الخارجية الأميركية لذكرى مقتل الجنود الأتراك في إدلب (قتلوا أوائل عام 2020)، وتصريحات حديثة من وزير الدفاع التركي خلوصي أكار حول أهمية حلف شمال الأطلسي، وإمكانية إيجاد حل لما يقلق الولايات المتحدة بشأن منظومة صواريخ أس 400 الروسية”. وأعرب سالم عن اعتقاده بأنّ الروس “لا يريدون عودة تركيا لمظلة حلف شمال الأطلسي”، مضيفاً: “ترد روسيا بالتصعيد التحذيري لتركيا من مغبة التقارب مع الولايات المتحدة، والضحية هم المواطنون السوريون في إدلب وعفرين”. واعتبر أن “الدعم الأميركي للدور التركي في الشمال السوري حيوي وضروري لردع الروس عن التمادي في الابتزاز وفرض أجنداتهم، ومن حق المدنيين في الشمال السوري أن يحظوا بكل أنواع الحماية التي يمكن أن يسهم فيها المجتمع الدولي، وعلى رأسه الولايات المتحدة”.
ومنذ عام 2018، ضربت انفجارات كبيرة مدينة عفرين، أدت إلى مقتل وإصابة المئات، لعل أبرزها انفجار هز سوق الهال أواخر عام 2018، وانفجار صهريج مفخخ في إبريل/نيسان من العام الفائت، حصد أرواح العشرات من المدنيين.
المصدر: العربي الجديد
330 4 دقائق