كثيرا ما طرح هذا السؤال في السنوات السابقة من عمر الثورة السورية. وقد كتبت، في وقت مبكر من عام 2014، مقالةً جعلت عنوانها: ماذا لو هزمنا؟ قبل الإجابة على السؤال، لا بد من التمييز بين مستويات ثلاثة لما درجنا على اعتباره الثورة: مستوى الفصائل، وهي على ثلاثة أصناف: بقايا الجيش الحر، الفصائل الإسلامية، وتنظيمات الإرهاب. مستوى التمثيل الرسمي من ائتلاف، وحكومة مؤقتة، وهيئتي تفاوض في جنيف وأستانة/ سوتشي. المستوى الشعبي، وقد ابتعد خلال ثورته عن المستويين، الأول والثاني، ولذلك بقي ثوريا ورقما صعبا رافضا للأسدية وروسيا وإيران.
لو كان عائد الثورة سيقاس بإنجازات الفصائل والمؤسسات، لكان علينا الاعتراف بأننا هُزمنا. ولكن استمرار المعارك التي طرفها الآخر شعب، لم تنجح الأسدية، ويرجح أنها لن تنجح في ليّ ذراعه وإركاعه، يجعلنا نؤمن أن هزيمة الفصائل والمؤسسات التمثيلية لن تكون هزيمةً له، ولن تعيده إلى الزمن السابق لثورته.
بدأ تقويض الجيش السوري الحر باعتقال مؤسّسه، المقدّم حسين هرموش، وتسليمه إلى مخابرات الأسد، والسبب قراره بناء جيش وطني من المنشقين عن الأسدية، ينضم إليه الراغبون بالتطوع أو التجنيد الإجباري، كي لا يتسلح المدنيون، وتستشري ظاهرة الفصائل، المبعثرة طاقات الشعب وقدراته، والعاجزة عن كسب معركة عسكرية، طرفها الآخر جيش يدار مركزيا، وينال دعما بشريا إيرانيا وتسليحيا روسيا، بينما تغرق الفصائل في الحاراتية والأدلجة المذهبية، وتنشر الفوضي العسكرية والسياسية، وترفض الحلول السياسية، وتؤمن، كالأسد، بالسلاح أداة وحيدة لحسم الصراع الذي يقتصر الجانب الثوري فيه على “أهل السنة والجماعة”. بعد تغييب مؤسسه، تلاشى الجيش الحر بقدر ما تصاعدت الفصائلية، وتبعثر مقاتلوه، بينما اغتال تنظيما داعش والقاعدة ثلاثين من قادته وضباطه خلال شهر يوليو/ تموز وحده من عام 2014.
بانفراد النمط الفصائلي بالساحة العسكرية، أكدت هزائمه استحالة انتصاره على دولة عظمى هي روسيا، وأخرى إقليمية هي إيران، ومليشيات الأسد المعادة هيكلتها وتدريبها وتسليحها على أيدي الروس، وتنظيمات الإرهاب متعددة الجنسيات. وبدا تشتت تنظيماته وتناحرها كقدر لا راد له، وظيفته الرئيسة منع بناء جيش وطني، وقيادة سياسية فاعلة، وتقسيم سورية إلى نتف صغيرة يسيطر كل فصيل على أشبار منها، ويديرها بقدر من القسوة والفساد، يناظر أو يبز ما لدى سفاح دمشق ودولته العميقة .
ـ لعب نمط التنظيم الفصائلي دورا خطيرا في تراجع طابع الائتلاف التمثيلي، وتدنّي قدرته على الحركة والتأثير، وتحوله إلى كيان يرى المسألة السورية بأعين الآخرين، فلا عجب أنه احتجز تكوّن قيادة ثورية موحدة وفاعلة، ترى نفسها بدلالة الشعب، أسوة بالفصائل التي احتجزت تكوين جيش وطني موحد وفاعل.
ـ لو كان ما سيحصل السوريون عليه مرتبطا بالفصائل وائتلاف قوى الثورة والمعارضة السورية، لخرجوا صفر اليدين من أي معركة أو حل. لكن المستوى الثالث: الشعب الذي صنع معجزة الثورة، وقدّم الغالي والرخيص على دربها، وصمد كما لم يصمد شعب قبله، لم يهزم ولن يهزم. وإذا كان لن ينال كل ما ثار من أجله، فلأنه ابتلي بالفصائلية العسكرية والسياسية التي قوضت فرص نجاح ثورته كفعل هدفه الحرية، وتعرّض لحرب إبادة أسدية زادت الفصائل تكلفتها البشرية والسياسية. مع ذلك، لم يستسلم الشعب الغارق في دمائه، وأقنع صموده الأسطوري العالم أن سورية لن تكون قابلة للتهدئة، ما بقي السفاح في السلطة، أو إن حاولت روسيا وإيران إعادتها إلى نظام استعباد وتمييز: أسديا كان أو غير أسدي.
ـ لن يهزم شعب سورية، وكيف يهزم إذا كانت الأسدية قد صارت وراءه، وبقي متمسكا برهان ثورته الذي لطالما هتف له من أعماق روحه: سورية بدها حرية، والشعب السوري واحد.
المصدر: العربي الجديد