توفيق الحلاق؛ إعلامي سوري معروف، عمل في الاذاعة والتلفزيون السوريين. دارنا العربية بجزئيها الأول والثاني؛ ليست رواية كما كُتب على غلافها الخارجي، بل هي أقرب لمذكرات أو سيرة ذاتية، تعتمد السرد المباشر، بلغة المتكلم، يتحدث بها توفيق الحلاق عن نفسه واهله وبيئته الاجتماعية والمحيط السياسي العام منذ طفولته حتى نهاية المرحلة الثانوية من دراسته. من المفترض ان هناك اجزاء اخرى كما ختم توفيق الحلاق كتابه الثاني.
طفولة توفيق الحلاق:
يبدأ توفيق سيرته الذاتية من لحظة مفصلية في حياته وحياة عائلته، توفيق من بلدة دير عطية، كان طفلا في المرحلة الابتدائية، عندما قررت العائلة أن تترك دير عطية وتنتقل الى دمشق والسكن فيها. والده يعمل على شاحنة كبيرة يملكها بين سورية والكويت، والده من أهل دير عطية العائدين من أمريكا اللاتينية، حيث كان الكثير من أهل دير عطية قد هاجروا قديما الى تلك الدول، عاد البعض واستقر البعض، والده كان ممن عادوا واشترى سيارته تلك وبدأ يعمل عليها بين سورية والكويت. تزوج الوالد من أم توفيق الفتاة الجميلة التي كانت محط اهتمام الشباب في البلدة، لم تحب امه زوجها، اُلزمت بالزواج منه، هذا ما أخبرت ابنها به بعد حين. ام توفيق أصيبت بالتشاؤم عندما توفي اخوتها الثلاثة متتابعين، فقررت ان تبيع كل ماتملك وتنتقل الى دمشق لتعيش هناك، والده كان ذو اصول اقطاعية. اشترت العائلة بيتا عربيا كبيرا في باب توما، الحي الدمشقي الشهير، سكنت العائلة في جزء من غرفة العشرين الكثيرة، والتي تطل على ارض دار لها بحرتها وأشجار الحمضيات والورود، استقرت العائلة هناك، وبعد وقت اجّرت الغرف الفارغة لكثير من العائلات الوافدات الى دمشق، كانت موارد الايجار تساعد ام توفيق لتصريف أمور حياتها وأسرتها الكبيرة؛ ثمانية اخوة والوالد والوالدة، والده كان يغيب كل ثلاثة أشهر مستمرة ويعود ليعيش معهم فترة قليلة، حتى يجهز تحميل شاحنته ويغادر إلى الكويت مجددا. كانت والدته تقود العائلة في حقيقة الأمر، لتوفيق اخ اكبر منه، ترك المدرسة مبكرا، وبدأ بالعمل ليعيل أهله، كان والد توفيق رجلا عصبيا، وموتورا، جاهز لضرب زوجته وأولاده لأي سبب، مهما كان تافها. دور الوالد المادي في بيته شبه معدوم، كما كانت علاقته مع عائلته سيئة. كانت تستعين والدة توفيق مع أحد اقربائها لحل امورها، كان ذلك الرجل نموذج للخدمة وتقديم المشورة والنصيحة. دخل توفيق المدرسة وتابع دراسته في مدرسة في حييه الجديد، كان يحب أن يكمل تعليمه ويكون كاتبا او غير ذلك، المهم ان لا يكون ذا حرفة او مصلحة، كان يكره العمل اليدوي. استفاد من اسرة لبنانية سكنت عندهم، ام واولادها الاربعة صبيان وابنتان، كلهم قريبين من عمره، كانوا قدوة له في القراءة والاطلاع والتثقف، زرعوا في ذاته حب المعرفة، كان يكره الرياضيات، ويتفوق في مواضيع الإنشاء التي كان يكتبها ويتفاخر في قراءتها على مسامع زملائه الطلاب المبهورين به.
المناخ السياسي حول توفيق الحلاق:
كانت طفولة توفيق الحلاق وبداية مراهقته، في وقت تمر به سورية في ظروف حساسة، حيث سطوع نجم جمال عبد الناصر في خمسينات وستينات القرن الماضي، دوره في جلاء المستعمر الانكليزي عن مصر، وبعدها تأميم قناة السويس، ومن ثم اندفاع القوى السياسية السورية، وقبلها الشعب السوري للوحدة مع مصر في عام ١٩٥٨م، كان توفيق حلاق من جيل تربى على صورة عبد الناصر البطل القومي، والوحدة العربية حلمه، كان يتابع في طفولته وبداية مراهقته ونضجه، التحرك الشعبي ومن السلطة السورية للوحدة مع مصر، وكان مع الوحدة، وأصبح مسكونا بحب عبد الناصر البطل القومي، الذي ملأ عقله وقلبه، وحصلت الوحدة، وكان مع زملائه التلاميذ يخرجون من المدارس ليذهبوا الى القصر الجمهوري في قلب دمشق، ليشاهدوا عبد الناصر ويمتلئوا بهجة برؤيته ويتشبعوا حماسة وقوة لما يقول. لقد كان لوجود عبد الناصر والوحدة مع مصر دورا في نفسية وعقل توفيق حلاق، بحيث أصبح مسكونا بالهاجس السياسي، مما ادى لأن يكون منتميا لحركة القوميين العرب لاحقا، وخاصة بعد أن حصل الانفصال عام ١٩٦١م. وما ادى عند توفيق الحلاق وبقية الشعب السوري من إحباط، وما دفع الحلاق وغيره، للنشاط السياسي لإعادة الوحدة المصرية السورية. يتحدث الحلاق كيف استطاع بعض الضباط الناصريين والبعثيين أن يسقطوا الانقلاب وأن يطالبوا بعودة الوحدة، وكيف راوغ البعثيين في موضوع الوحدة ولم يكونوا جديين، وكيف انقلبوا على رفاق الأمس واقصوا الناصريين من الحكم، خاصة بعد محاولة انقلاب الضابط الناصري جاسم علوان وبعض الضباط، وفشل المحاولة، وهربه، وإعدام بعض الضباط الآخرين، وكيف تصرف البعثيين في الحكم، بشكل استبدادي مطلق، وهذا دفع توفيق حلاق لأن ينضوي تحت مظلة القوميين العرب وأن يقوم بنشاطات أظهر بها اندفاعه وتهوره أحيانا، فقد صنع مظاهرة ضيقة في مدرسته تحيّي عبد الناصر، مما ادى لمهاجمتها من قبل البعثيين، وضُربوا بالسلاح الأبيض من قبلهم، وكيف أُنقذ من إمكان طعنه من أحدهم، وكيف عوقب على فعله بالطرد من جميع مدارس سورية، وكيف توسط له قريبه ليطرد من الدراسة لمدة خمسة عشر يوما، تحدث عن نشاطه الثوري؛ توزيع المناشير او غيرها من المهام الحزبية. كان والد توفيق قاسيا جدا معه، لم ينظر لكون إبنه قد كبر واصبح شابا، كان يستسهل ضربه والاساءة اليه، وهذا خلق في نفسية توفيق شرخا، بين المناضل لأجل قضايا عادلة، وبين ضحية أب جاهل قاسي وقمعي. لذلك استقبل والده خبر طرده من المدرسة بالضرب والتنكيل، مما حدى بتوفيق للقرار ان يهرب الى لبنان ويبتعد عن هذا الوالد القاسي، رغم كونه سيفتقد لوالدته، التي كانت مركز توازنه النفسي والاجتماعي، خاصة أن والده لم يقبل مساعدته من اجل ان يكمل دراسته الجامعية داخل سورية أو خارجها بعد حصوله على البكالوريا الصناعية. كان والد توفيق وأخاه يرون أن الأفضل لتوفيق أن ينخرط في الحياة العملية. هرب توفيق الى لبنان باحثا عن فرصة أفضل لمستقبله.
توفيق حلاق في لبنان:
أخبر توفيق مسؤوله التنظيمي في حركة القوميين العرب ان يذهب الى لبنان ان كان هناك من يتواصل معه من التنظيم، وبالفعل أعطاه رقم هاتف أحد الشباب من التنظيم يتواصل معه. وبالنسبة للتنظيم فقد كان قد تلقى الكثير من الضربات الامنية من النظام البعثي السوري، خاصة بعد القيام بتصفية الناصريين في سورية، المندفعين لاعادة الوحدة مع مصر عبد الناصر. وصل توفيق الى بيروت واتصل بالشاب من التنظيم واستقبله أحسن استقبال، لقد ضاع توفيق بين فقره وقلة إمكانياته، فقد اعطته امه وخاله القليل من المال بينما يؤمن له عملا يعيش به، كانت اصوله الريفية وفقره، وعدم قدرته على مجاراة الشاب رفيقه في التنظيم في العيش وفي المسلك الاجتماعي بالمأكل والمشرب، دفعه ليخطط للابتعاد عنه وعن بقية شباب التنظيم، ليخط له حياة اخرى. وبالفعل غادر بيت صديقه في التنظيم، وبحث عن فندقا رخيصا يعيش به، وبحث عن عمل، كان الفندق موغل في السوء، وكلما رخصت أجرة الغرفة اصبح اسوأ، ومع ذلك سكن في أحدها، وأخذ يبحث عن عمل، وعمل بورشة للاعمال الكهربائية، وبدأ يشق طريقه بين مطعم للفقراء وفندق متواضع وعمل مضني لكنه يقدم ما يسد الرمق ويحافظ على الكرامة، كل ذلك وتوفيق يقارن بين بيته واهله وامه واكلاتها واهتمامها به وأخوته وأين أصبح. حضر الى الفندق المتواضع الذي تواجد فيه شاب دمشقي سكن في غرفته وتقرب منه، وصاحبه الى الكباريه، ودعاه ليوصل بعض الدولارات الى دمشق، يعني ان يعمل معه بالتهريب ويحصل على المال الكثير، خاف توفيق من أن يتورط مع هذا الشاب، قد يكون تهريب مخدرات وقد يكون ضحية عصابات للاجرام. لذلك وفي لحظة وعي-عاد له- قرر ان يعود الى دمشق والى امه واهله، خاصة أن والده سيكون مغادرا الى الكويت في سفرة جديدة. وبالفعل عاد توفيق الى دمشق وبيته ووجد امه واهله متلهفين إليه. وقبل الختام نوضح أن للمرأة حضور في حياة توفيق، بدء بالنموذج أمه التي صنعت عائلة واسعة ونجحت في تسيير امورها. كان توفيق نموذج للشاب المثالي الذي التزم بتوصيات والدته، لكنه مع ذلك كان يهرب بعض الوقت الى سينما غازي في دمشق، كان ذلك أيام عمل مع قريبه في ورشة أحذية. شاهد في السينما الكثير من المشاهد المثيرة. وكان التصرف الأخطر في حياته، حين اقنعه زميله في الورشة بالذهاب معه الى المركز العمومي للدعارة في احدى احياء دمشق -وقتها-، وكيف دخل رغم صغر سنه بواسطة من قريب زميله، وكيف ارتبك من اندفاع العاهرة اتجاهه، وكيف هرب منها دون أن يقربها، وكان كذلك موقفه في بيروت حيث بقي هذا الحيز في حياته نظيفا.
ينتهي هذا الجزء من السيرة الذاتية لتوفيق حلاق بعودته من بيروت الى بيتهم في دمشق وتوزيع الهدايا المتواضعة على امه واخوته.
في تحليل السيرة الذاتية نقول:
نحن أمام نص يريد توفيق الحلاق من خلاله أن يؤرخ لسيرته الذاتية،على طريقة الكثير ممن وجدوا أن لديهم ما يقولونه للأجيال القادمة، على طريقة الأيام لطه حسين وغيره، وانه بالجزء الذي شمل جزئين بكتابين، توقفنا عند طفولته، وعند بداية نضجه ووعيه السياسي وموقفه العام.
٠ حول طفولته هناك تسليط الضوء على دور المرأة وخاصة الأم في الأسرة السورية وضمن أي نموذج اجتماعي القرية أو المدينة، للام حضور قوي ومؤثر في حياة اولادها، خاصة ان الوالد شبه غائب دوما. وحضوره سلبي عندما يحضر.
٠ أما المناخ العام السياسي في طفولة ومراهقة توفيق حلاق، فنحن أمام مرحلة الخمسينات والستينات، وتيقظ الاحلام العظيمة في الأمة العربية. حلم الوحدة المتحقق، ومواجهة المستعمر، عبد الناصر الذي ملأ فضاء الوعي والحضور السياسي في ذلك الوقت. كل ذلك لا يلغي أي عملية مراجعة نقدية حصلت ذاك الوقت او الان او في اي وقت لعبد الناصر وعصره. لقد كان عبد الناصر وزمنه وحضوره حلما وأملا، صحيح أنه لم يستطع أن ينجح ويتمثل كما يجب وكما تأمل الناس في سورية ومصر وفي الامة العربية، خاصة في مآلاتها فيما بعد. كل ذلك يجب أن يعاد فهمه ضمن معادلة السياسة والمصالح المحلية والاقليمية والدولية الفاعلة في بلادنا منذ أكثر من قرن للآن. لا يمكن فهم أي حالة خارج معادلة الغرب ومصالحه، والكيان الصهيوني الذي زرعه في فلسطين، والانظمة المستبدة التابعة له منذ عقود للآن… وما محاولة الربيع العربي الا استمرارا لما حلم به عبد الناصر يوما أن تسترد كرامة الإنسان العربي وأن يحصل على حقه بالحرية والعدالة والديمقراطية والحياة الأفضل.
إنها الرسالة التي مازالت ملحّة وصالحة دوما.