لورنس والثورة العربية الكبرى

معقل زهور عدي

ولد توماس ادوارد لورنس في ويلز ببريطانيا عام 1888 والده السير توماس شابمان وهوابن لأحد ملاكي الأراضي من عائلة شابمان أما والدته فقد كانت تعمل مديرة منزل العائلة حيث ارتبط بها والده بعلاقة غير شرعية أنجب منها خمسة أبناء وقد اضطر والده بسبب ذلك للهجرة من بلدته الأصلية إلى اوكسفورد بعد أن رفضت زوجته الشرعية  ايديث تسجيل أبنائه الخمسة باسمها مما خلق مشكلة كبيرة للعائلة حسب قوانين تلك الفترة الزمنية .

و أضفت بنيته الهزيلة سببا آخر لانطوائيته التي عرف بها في طفولته ومراهقته . رغم أن سجل حياته اللاحق يدل أن خلف هزال جسمه بنية قوية استطاعت تحمل أعباء مغامراته القاسية .

ظهر ولع لورنس بالتاريخ والآثار مبكرا فكان يقضي وقتا طويلا في قراءة التاريخ خصوصا تاريخ الحروب الصليبية والعصور الوسطى ويبدو أنه تأثر عاطفيا بعمق بعلاقة أوربة بالشرق العربي – الاسلامي في العصور الوسطى وظهر ذلك لاحقا في الرحلات التي قام بها إلى سورية وهو في أوائل العشرينات , حيث تنقل بين الحصون التي تركها الصليبيون في ساحل بلاد الشام مذهولا بها ووصف قلعة الحصن بأنها أجمل وأكمل قلعة يمكن تصورها

لا أدري تماما فيما إذا كان ذلك الاهتمام وما رافقه من مشاعر قوية قد قاده للتفكير في ” كيف يمكن استعادة تلك المنطقة ؟ ” فلورنس كان دائما حريصا على إخفاء مشاعره الدفينة لكن لنتأمل قليلا فيما كتبه لورنس بنفسه في ” أعمدة الحكمة السبعة ” صفحة 453 حين دخل القدس مع الجنرال البريطاني اللنبي في 11 كانون أول عام 1917 في الاحتفال باحتلال القدس بعد أن طغت عليه مشاعره الكامنة : ” لقد كانت تلك قمة لحظات الحرب “. ولايوجد أي معنى لوصفها كذلك من وجهة النظر العسكرية والاستراتيجية فأهم لحظات الحرب التي خاضها لورنس كانت احتلال العقبة ثم دخول دمشق ولايبقى لتفسير كلامه سوى المدلول العاطفي التاريخي , وقد عبر عنه بصراحة أكبر الجنرال اللنبي بعد دخوله القدس حين قال ” اليوم انتهت الحروب الصليبية ” .

شكل رفض الجيش البريطاني قبول لورنس في صفوفه كونه غير لائق جسديا حافزا إضافيا عميقا في البنية النفسية للورنس دفعه لإثبات جدارته بتقديم إنجازات كبيرة لبريطانيا مما أجبر القيادة العسكرية بالفعل على منحه رتبة عسكرية عليا بعد أن خطط وقاد معركة كان لها أثر بالغ في الحرب ضد الدولة العثمانية والألمان في المشرق وهي معركة العقبة.

في عام 1916 وأثناء الحرب العالمية الأولى وانشغال الدولة العثمانية بالحرب التي دخلتها متحالفة مع الألمان قام الشريف حسين وأولاده فيصل وعبد الله وزيد وعلي بجمع بعض القبائل واعلان العصيان والثورة ضد الحكم العثماني وطرد الجيش العثماني من مكة والمدينة ويبدو أن الوجود العسكري العثماني في المدينتين لم يكن كبيرا فتمت السيطرة عليهما دون عناء كبير وأصدر الشريف حسين بيانه الموجه إلى كافة المسلمين من حيث الشكل وإلى العرب من حيث المضمون يشرح فيه أسباب الثورة وأهم ماجاء فيه :

  • أن أمراء مكة كانوا أول من اعترف بالدولة العثمانية حين نشأت ووحدت المسلمين بدولة واحدة .
  • وأنه وأولاده قادوا حملة عسكرية دعما للدولة العثمانية للقضاء على التمرد الذي حصل بمنطقة عسير .
  • أن الدولة العثمانية لم تعد دولة الخلافة بعد كف يد السلاطين العثمانيين فيها حتى لم يعد لهم من السلطة شيء , وأصبحت السلطة كلها بيد جماعة الاتحاد  والترقي التي تنتهج نهجا مغايرا تماما لنهج الدولة العثمانية في فرض التتريك وعدم احترام القرآن والسنة واضطهاد العرب .
  • ذكر البيان أن سلطة الاتحاد والترقي يمثلها اليوم الثلاثي ( جمال باشا وأنور باشا وطلعت باشا ) أما السلطان فلايستطيع حتى تعيين كاتب في ديوانه .
  • لم يعلن البيان الحرب على الدولة العثمانية ولا عزم تحرير بلاد الشام والعراق واكتفى بشرح أسباب الثورة والتأكيد أن بلاد الحجاز قد تحررت وأنها الآن مستقلة تماما تحت خكم الهاشميين برضى الشعب وممثليه وعلمائه وشيوخ القبائل .

من الواضح أن الهاشميين كانوا حذرين تماما من الدخول في صراع مفتوح مع الدولة العثمانية , وربما كان ما يهدفون اليه هو دولة في الحجاز مستقلة عن العثمانيين ومن هنا بدأ تدخل السياسة البريطانية التي ساندتهم في ” الثورة” ووضعتهم بعد السيطرة على الحجاز أمام خيارات صعبة فإما أن يتعمق تحالفهم مع بريطانيا وبالتالي يدخلوا الحرب مع الحلفاء أو أن  تتخلى بريطانيا عنهم ليصبحوا هدفا لانتقام الجيش العثماني وهم يعلمون تماما محدودية قدرتهم على مواجهته .

مقابل التصور الهاشمي لمستقبل الثورة على العثمانيين والذي لم يكن تصورا مكتملا بل يتصف بشيء من البساطة والمغامرة , كان هناك مخطط بريطاني مدروس بعناية ودقة لتمرد في الحديقة الخلفية للدولة العثمانية وضعت عناصره العسكرية – الاستراتيجية بعد دراسة معمقة للمنطقة قدمتها المستشرقة وعالمة الآثار غوترود بل خريجة جامعة اوكسفورد حصيلة 17 عاما من التنقل والارتحال  في المشرق العربي من جنوب بلاد الشام وشبه الجزيرة العربية إلى شمال بلاد الشام والعراق لم تترك في رحلاتها مدينة أو بلدة أو قبيلة أو طائفة ولا زعيما أوشيخا مشهورا وذا نفوذ الا وشملتهم بدراستها وبحثها المثير للإعجاب .

أما الاستراتيجية التي تبنتها الإدارة العسكرية البريطانية في القاهرة  للتمرد المخطط له فقد ضمت عناصر كثيرة منها:

  • أن التمرد ينبغي أن يؤمن قاعدة محصنة ليس فقط لتأمين التمرد من هجوم معاكس بل من المخاوف من ذلك الهجوم
  • مثل تلك القاعدة يمكن تأسيسها في الصحراء وفي عقول الناس الذين ننجح في جذبهم لطرفنا .
  • يجب أن يكون لتلك القاعدة للتمرد رأي عام متعاطف معها . ليس من الضرورة أن يكون فعالا ولكن فقط متعاطف بحيث لايفشي تحركات التمرد للأعداء .
  • يمكن صنع التمرد بعناصر لاتزيد عن 2 بالمئة من السكان الفاعلين المستعدين للقتال و98 بالمئة من المتعاطفين السلبيين .
  • عناصر التمرد ينبغي أن تتمتع بسرعة الحركة والتحمل والانتشار السريع وتأمين التغذية والتموين وعليها امتلاك التجهيزات لتدمير أو إعاقة نظام المواصلات والاتصالات للعدو .

هكذا رسمت الادارة البريطانية في القاهرة والتي كان يعمل فيها لورنس الهدف الرئيسي للثورة العربية الكبرى , تمرد في منطقة صحراوية بعيدة عن مركز الدولة العثمانية مهمتها العمل في الخطوط الخلفية للجيش العثماني لتشتيت جهده وقطع طرق مواصلاته وبالتالي تسهيل عمل جيوش الحلفاء خاصة الجيش البريطاني في طرد العثمانيين من بلاد الشام والعراق تمهيدا لاقتسام تلك المنطقة مع فرنسا وفقا للمحادثات السرية التي توجها اتفاق سايكس بيكو وفضحتها الثورة البلشفية الروسية .

بيان الثورة العربية الكبرى – المصدر : مكتبة الكونغرس

في 5 حزيران عام 1916 بدأ الشريف حسين ثورته ضد العثمانيين عندما هاجم بقوات يقودها أبناؤه الحامية التركية في المدينة المنورة ليسيطر على محطة القطار هناك ثم أعلن رسميا الثورة على الدولة العثمانية في 10 حزيران حيث قاد قواته للسيطرة على مكة بنجاح .

وقد سبق ذلك تنسيق مع الادارة البريطانية في القاهرة حيث كانوا يرسلون له المعدات العسكرية سرا خلال عام 1915 .

خلال ذلك جرى تبادل رسائل عديدة بين الشريف حسين ووزارة الدولة البريطانية للحرب وقد طلب خلالها اللورد هيربرت كيتشنر شخصيا من حسين مساندة التحالف في الحرب واشترط حسين شرطا واحدا هو الاعتراف باستقلال العرب وحسب الوثائق البريطانية فقد اختلف الطرفان حول معنى ” استقلال العرب ” وكيف يمكن تطبيقه وفي النهاية وافق كيتشنر على فكرة ” الأمة العربية” وعرض الاعتراف السياسي بوجود تلك الأمة مقابل المساعدة في المجهود الحربي ضد الأتراك .

والحقيقة أن ادعاء الاختلاف حول تحديد ماهية ” استقلال العرب ” وكيفية تطبيقه ليس سوى محاولة بائسة للتغطية على عملية الخديعة الكبرى للشريف حسين والتي ظهرت فيما بعد بصورة واضحة تماما .

ومن المعروف أن الادارة العسكرية البريطانية في الهند والتي كانت تشارك الادارة العسكرية البريطانية في القاهرة الاشراف على دراسة الاستراتيجيات ووضع الخطط لتأمين المستعمرات البريطانية في الشرق والطرق الموصلة لها والخطط الحربية المرتبطة بالحرب العالمية الأولى كانت تعترض على خطة إثارة تمرد عربي ضد الأتراك من وجهة نظر أن مثل ذلك التمرد قد يقود مستقبلا لنشوء دولة عربية قابلة للتوسع , لكن الرأي الذي استقر لدى وزارة الحرب البريطانية كان متسقا مع رأي مكتبها في القاهرة والذي ساهم في وضعه كل من غيرترود بل ولورنس .

وكان لورنس يعلم أن الوعد البريطاني بتأييد تشكيل دولة عربية لايساوي الورق الذي كتب عليه وأن بريطانيا العظمى لايمكن أن تتنازل بشيء لمجموعة من مئات العرب المتمردين الخارجين من الصحراء لايملكون شيئا سوى جمالهم وخيامهم وما تقدمه بريطانيا لهم من سلاح ومعدات وأموال .

مع ذلك فقد راهن لورنس وغيرترود بل وغيرهم في الادارة العسكرية البريطانية على استخدام تلك المجموعات من المقاتلين العرب في حرب عصابات لإنهاك مؤخرة الجيش العثماني وقطع مواصلاته واستخدامهم كطليعة في الهجوم لاحقا على الشام والعراق ولكسب قلوب العرب والظهور بمظهر الحليف لطموحاتهم في الاستقلال بدل الظهور بمظهر المحتل الأجنبي على الأقل ريثما يتم إحكام السيطرة على المشرق العربي .

وقد عزز كثيرا من اقتناع وزارة الحرب البريطانية بخطة الخديعة الكبرى وصنع التمرد ” الثورة العربية الكبرى” ما مني به الجهد العسكري البريطاني في العراق.

ففي 9 نيسان عام 1915 وبعد أن قامت القوات البريطانية والتي كان المجندون الهنود يشكلون قسما هاما منها باحتلال البصرة تقدمت نحو بغداد بقيادة الجنرال السير جون نيكسون في حملة عسكرية كبرى سميت ب ” حملة مابين النهرين ” حتى وصلت إلى منطقة ” سلمان باك ” جنوب بغداد بحوالي 35 كم حيث المستنقعات وهناك تعرضت لهجوم عثماني مفاجىء معزز بالقبائل العربية التي ظلت موالية للدولة العثمانية فهزمت الحملة البريطانية شر هزيمة وتراجعت نحو الجنوب إلى بلدة تدعى الكوت التابعة لمحافظة واسط حيث تحصنت وأغلقت المدينة , لكن الجيش العثماني مع حلفائه العرب حاصروا الكوت مدة 146 يوما , ولم تتمكن القوات البريطانية التي جاءت من البصرة من فك الحصار وعرضت الحكومة البريطانية مبلغا كبيرا من المال على الدولة العثمانية مقابل فك الحصار والانسحاب بسلام  لكن الدولة العثمانية لم تقبل وفي النهاية استسلمت القوات البريطانية في واقعة تعد من أكبر الهزائم التي مني بها الجيش البريطاني في تاريخه فأُخذ قائد الجيش اللواء تشارلز تاونسند أسيرا إلى إسطنبول، وسيق الجنود البريطانيون إلى بغداد ومنها إلى الأناضول حيث عملوا في السخرة وفي بناء خط سكة حديد (برلين – بغداد)، وهناك قضى الكثيرون منهم نحبهم بسبب المرض والأعمال الشاقة.

وحول تلك الهزيمة يقول المؤرخ الأميركي ديفيد فرومكين في “سلام ما بعده سلام” :

“سيق الجنود (البريطانيون المأسورون) إلى مسيرة موت قطعوا خلالها مئة ميل إلى بغداد وخمسمئة ميل أخرى إلى الأناضول، وهناك أُرغموا على العمل في بناء السكك الحديدية وهم مقيدون بالسلاسل، ولم يبقَ منهم على قيد الحياة سوى عدد قليل، لقد مُنيت قوات تاونسند بأكثر من 10 آلاف إصابة منذ بدء زحفها نحو بغداد وحتى استسلامها، ومُنيت القوات البريطانية التي جاءت لإنقاذها في كوت العمارة بثلاثة وعشرين ألف إصابة… كانت هذه مذلة قومية أخرى حلَّت ببريطانيا على يد عدوّ عثماني كان المسؤولون البريطانيون يعتبرونه دائما عديم الفاعلية “

حدثت هذه الهزيمة الكبيرة بين عام 1915و1916  ولاشك أن وزارة الحرب البريطانية قد توقفت طويلا عند دروس تلك الهزيمة  التي ساهمت إلى حد كبير في قناعتها بالخطة التي وضعها كل من غيرترود بل ولورنس بإنشاء تحالف بين قيادات عربية ذات سمعة ونفوذ بين القبائل وبين الحكومة البريطانية بحيث لايظهر العمل العسكري لبريطانيا والحلفاء كغزو أجنبي أو صليبي جديد وإنما كجهد مشترك لطرف عربي تحت راية قومية وطرف بريطاني متحالف معه , وقد أثبت التاريخ أن تلك الخطة كانت ناجحة إلى أبعد مما كان يأمل من وضعها وشارك في تنفيذها من البريطانيين أنفسهم .

يقول لورنس : ” لو أننا أعطينا للقبائل العربية في العراق الوعود التي  بذلناها لشريف مكة لأقدمت هذه القبائل على توجيه الضربات القاصمة لخطوط إمداد الجيوش التركية بين بغداد والكوت ولتوجب على العدو ( الأتراك) بعد عدة أسابيع من اشتراك القبائل معنا في الحرب أن يرفعوا الحصار المضروب على قواتنا ” ( أعمدة الحكمة السبعة ص 28)

من المفارقات أن لورنس بينما يحاول في مكان إنتاج صورة رومانسية حالمة لتلك الثورة وقيادته لها , وكأنها أسطورة بطل غربي نزل وسط البدو ليلهمهم الكفاح من أجل تكوين أمة جديدة ويقود تطلعاتهم في الحرية والاستقلال عن تركيا , فهو يتحدث بوضوح في مكان آخر كالتالي : ” لقد كان واضحا من البداية أننا إذا ربحنا الحرب فإن تلك الوعود ( يقصد وعد بريطانيا باستقلال العرب بدولة والذي تم تقديمه في مراسلات بين الشريف حسين ووزارة الحرب البريطانية ) يمكن أن يكون مجرد ورقة ميتة , ولو كنت ناصحا أمينا للعرب لنصحتهم بالعودة لبيوتهم وأن لايخاطروا بحياتهم في الحرب من أجل أمر كهذا ” ( من كتاب أعمدة الحكمة السبعة للورنس )

فلورنس إذن كان على علم تام بأنه ينفذ عملية خداع كبرى للعرب وحتى بعد أن تم فضح تلك العملية بنشر اتفاقية سايكس بيكو في الصحافة الروسية أولا ثم البريطانية فقد بذل جهدا كبيرا في إقناع الأمير فيصل بن الشريف حسين بالاستمرار في التمرد ضد العثمانيين ودافع عن رأيه بأن الانجازات العسكرية في مساعدة الحلفاء هي التي ستكون حجر الأساس في إقناع بريطانيا بتحقيق وعودها للعرب .

فإذا رغبنا في البحث عن سبب هذا التناقض في السردية التي يقدمها لورنس فلابد من الأخذ بالاعتبار أن الجمهور المستهدف في كتابه ” أعمدة الحكمة السبعة ” ليس العرب وإنما هو البريطانيين خصوصا والغرب عموما فهو غير معني بثورتهم هنا بقدر ماهو معني بدوره الذي لعبه هو في تنفيذ عملية استخبارية كبرى وفرت على بريطانيا الكثير من الجهد والأرواح . ومن أجل ذلك كان صريحا في كونه من البداية للنهاية مجرد جندي بذل كل مالديه من جهد في التفكير والعمل لخدمة بريطانيا العظمى , ورغم كونه يعرف تماما حجم انجازه الكبير الذي دفع ونستون تشرشل إلى مدحه والثناء عليه بطريقة لافتة فهو يريد أن يكرس نفسه في ذاكرة الشعب البريطاني بكتابه كبطل تاريخي .

وهو لايرغب في الظهور باعتباره مجرد رجل استخبارات مغامر وجريء , ولا يرغب بعرض مهمته التي نفذها دون رسم لوحة كاملة تترك الانطباع بأن مهمته كانت تحمل الكثير من المعاني النبيلة , فقد ساعد  شعبا بدائيا مظلوما في كفاحه من أجل  الحرية والاستقلال , شعبا أستطاع أن يفهمه ويتأقلم مع عاداته وحياته المختلفة وأن يكسب ثقته واحترامه , وبنى علاقات صداقة قوية وعميقة مع قادة تاريخيين مكنته من توجيههم وفق المصالح البريطانية العليا والتي كانت تبدو لهم متطابقة مع مصلحة ثورتهم ومستقبلهم .

ولورنس ليس فقط ضابط استخبارات معنيا بوضع الخطط العسكرية وتنفيذها بل كان يدير عملية متكاملة تتضمن تعبئة الرأي العام لصالح الثورة ضد الأتراك , ” بينما كنت ضابط استخبارات في الدائرة العسكرية التابعة للجنرال موري مكلفا بجمع المعلومات المتعلقة بتوازن القوى فقد أضفت لعملي دون تكليف من أحد مهمة إصدار نشرة عربية سرية تعالج سياسة الشرق الأوسط ” وتلك حجة إضافية ضد محاولات تخفيف مسؤوليته عن ” الخديعة الكبرى ” للسياسة البريطانية في إعطاء الشريف حسين وعودا مكتوبة ثم التنكر التام لها , فلورنس كان في قلب مصنع الخطط والسياسات للمنطقة العربية وليس في طرفها كجندي  يقاتل في وحدة معزولة لايعرف سوى تنفيذ الأوامر من رئيسه المباشر .

لم يكن المخطط السياسي البريطاني في المشرق العربي يقبل أبدا دولة عربية كبرى تضم شبه الجزيرة العربية والشام والعراق بحال من الأحوال , وعلى النقيض من ذلك  فقد كانت التجزئة ركنا أساسيا في ذلك المخطط , وقد قبلت بريطانيا بإعطاء سورية ولبنان لفرنسا في اتفاقية سايكس بيكو لأسباب متعددة منها أن وجود احتلالين مختلفين لسورية والعراق أحدهما بريطاني والآخر فرنسي سوف يؤدي إلى خلق دولتين بنظامين مختلفين أحدهما  يمثل النظام والثقافة البريطانية والآخر مشبع بالثقافة الفرنسية مما يعمق الانفصال بين الدولتين .

أما الجزء  الآخر الأخطر من المخطط السياسي البريطاني فكان خلق كيان غريب في فلسطين , ففي الثاني من تشرين الأول عام 1917 وقبل انتهاء الحرب العالمية الأولى وبينما كانت الثورة العربية الكبرى في انطلاقتها وبعد شهر واحد من دخول الجنرال اللنبي للقدس  كانت السياسة البريطانية تضع حجر الأساس لدولة اسرائيل عبر وعد بلفور .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى