بدت سورية، أمس الأربعاء، أمام مشهدين متناقضين، يكرّسان ما وصلت إليه البلاد جغرافياً وسياسياً واجتماعياً، إذ شهدت المناطق التي يُحكم النظام السيطرة عليها بالقبضة الأمنية مشاركة في الانتخابات الرئاسية التي أجراها لتثبيت بشار الأسد في السلطة لولاية رابعة، بعد أعوام 2000 و2007 و2014، تمتد سبع سنوات حتى عام 2028. في المقابل، شهدت المناطق الخارجة بالكامل أو جزئياً عن سيطرة النظام تظاهرات رافضة للانتخابات، افتتحتها درعا البلد، جنوبي البلاد، منذ يومين، مع تجمّع العشرات في ساحة المسجد العمري الذي انطلقت منه شرارة الثورة السورية في مارس/ آذار 2011، رفضاً للانتخابات الرئاسية، رافعين شعار “لا مستقبل للسوريين مع القاتل”.
وفي تحد واستفزاز واضحين للشارع المعارض له، أدلى الأسد بصوته في مدينة دوما، كبرى مدن الغوطة الشرقية للعاصمة السورية دمشق، التي استرد النظام السيطرة عليها في عام 2018، بعد ارتكاب مجزرة بالغازات السامّة، أجبرت فصائل المعارضة السورية على تسليمها. وادّعى الأسد عقب إدلائه بصوته برفقة زوجته أسماء بأن نظامه لا يولي أي اهتمام لتصريحات الغرب عن الانتخابات الحالية، مضيفاً: “قيمة آرائكم هي صفر”. وجاء موقفه بعدما أكدت الولايات المتحدة، مساء أول من أمس الثلاثاء، في بيانٍ مشترك مع أربع دول أوروبية، فرنسا وألمانيا وإيطاليا وبريطانيا، أن الانتخابات الرئاسية السورية “لن تكون حرة ولا نزيهة”، مستنكرة قرار نظام الأسد إجراء انتخابات “خارج الإطار الموصوف في قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254”.
اختيار دوما
ويأتي اختيار مدينة دوما من قبل الأسد للمشاركة في هذه الانتخابات التي دأب السوريون على وصفها بـ “المهزلة”، محاولة منه للظهور بمظهر “المنتصر”، بينما تشير الوقائع إلى أن النظام فاقد للسيطرة على نحو نصف مساحة سورية، وأن المناطق التي استردها من فصائل المعارضة باتت شبه خالية من السكان. كما تشهد اضطرابات بشكل دائم بسبب سوء الأحوال المعيشية، وتسلّط الأجهزة الأمنية على من لم يستطع الخروج منها إلى الشمال السوري. وكان النظام السوري ارتكب أكبر مجزرة بالغازات السامة في الغوطة الشرقية منتصف عام 2013، حيث قتل وأصيب آلاف المدنيين. ويرى الباحث في مركز “جسور” للدراسات وائل علوان، المتحدر من الغوطة الشرقية، في حديث لـ”العربي الجديد”، أن بشار الأسد “يريد إظهار وجود حالة من الاستقرار والسيطرة في مناطق خضعت له، ومن بينها الغوطة الشرقية، لذلك ذهب إلى مدينة دوما”. أما عن العاصمة دمشق، فتكشف مصادر محلية لـ “العربي الجديد” أن الأجهزة الأمنية التابعة للنظام “استنفرت جميع عناصرها، المقدّر عددهم بمئات الآلاف لإجبار المواطنين على الانتخاب”، مشيرة إلى أن “عناصر أمنية وشبيحة منعوا الناس من شراء الخبز من الفرن الآلي في حي الزاهرة، قبل التوجه الى صندوق انتخابي قريب من المكان”. وتشير المصادر إلى أن النظام وضع صناديق انتخابية في كل مؤسسات ودوائر الدولة وفي المستشفيات، مضيفة أن “كل من يدخل هذه الدوائر عليه الانتخاب”. من جهته، يصف كاتب مقيم في العاصمة في حديث لـ”العربي الجديد” ما يجري بـ “المهزلة السياسية”، معتبراً أن “النظام يكرّس الانقسام في عموم البلاد. انقسام جغرافي، واجتماعي، وسياسي ستكون له نتائج وخيمة على مستقبل سورية”.
ويرى أن النظام “لم يتعلم شيئاً من 10 سنوات من الحرب”، لافتاً إلى أنه “لا يزال يحكم بنفس الآليات ونفس العقلية، التي حكم بها البلاد منذ عام 1970، مع إدراكه أن ما يقوم به بات مكشوفاً لعموم السوريين”. ويشدّد الكاتب على أن ما تبثه وسائل الإعلام التابعة للنظام “مناف للواقع”، مضيفاً أن “المواطن في مناطق سيطرة النظام غير مكترث على الإطلاق بالانتخابات، وما ترونهم أمام صناديق الانتخاب هم جموع الشبيحة، وعناصر أمنية ترتدي لباساً مدنياً، والمجبورون، تحديداً الموظفين في دوائر الدولة، والمستفيدين من النظام والذين لا يريدون أن ينتهي ما يحدث من البلاد منذ عام 2011 كيلا تتضرر مصالحهم”. وذكرت مصادر محلية في مدينة اللاذقية على الساحل السوري أن قوات النظام أغلقت أبواب المدينة الجامعية، مضيفة: أجرى المسؤولون عن المدينة تفقداً اسمياً للطلاب وأجبروهم على الانتخاب لتصورهم كاميرات التلفزيون الرسمي وهم يدلون بأصواتهم. وفي محافظة دير الزور في شرقي البلاد، أكدت مصادر متقاطعة أن جهاز المخابرات الجوية نقل عناصر مليشيا “لواء القدس”، الذي يضم مسلحين فلسطينيين وسوريين من نقاطها على أطراف مدينة دير الزور، نحو المراكز الانتخابية من أجل انتخاب الأسد. وفي محافظة السويداء، جنوبي البلاد، أفادت مصادر محلية لـ”العربي الجديد” بأن المحافظة “لم تشهد إقبالاً على الانتخاب”، مشيرة إلى أن “من انتخب هم الموظفون، وأعضاء في حزب البعث”. وكشفت أن مجهولين ألقوا قنبلة على مقر الحزب في بلدة المزرعة، مساء أول من أمس الثلاثاء.
حراك رافض للانتخابات
وفي سياق موازٍ لما يجري في مناطق سيطرة النظام السوري، عبّر السوريون في العديد من المدن والبلدات عن رفضهم المطلق لانتخابات نظام بشار الأسد التي يعتبرها المجتمع الدولي “مزيّفة”، و”غير شرعية”، ولن تغيّر في واقع الحال السوري شيئاً. بالتالي لم يكن مستغرباً ما جرى في محافظة درعا، جنوبي البلاد، من رفض عارم للانتخابات لكونها كانت السبّاقة في الانتفاض على النظام، في ربيع عام 2011، وهو ما عرّضها لعمليات انتقامية واسعة النطاق. وشهدت معظم مدن وبلدات محافظة درعا، أمس الأربعاءـ إضراباً عاماً، وإغلاقاً لكل الطرق أمام السيارات العامة والخاصة التي تخرج لمناطق سيطرة النظام، التي يحكم فيها القبضة الأمنية ويضع فيها صناديق الاقتراع.
وأكد ناشطون محليون أن إضراباً عاماً شمل مناطق تل شهاب ونوى وتسيل وطفس والمزيريب واليادوده وجلين في ريف درعا الغربي، والحراك ونامر ومليحة العطش ومناطق أُخرى من ريف درعا الشرقي، احتجاجاً على الانتخابات. ونشر ناشطون صوراً ومقاطع فيديو تكشف أن هذه المدن والبلدات تشهد ما يرقى إلى العصيان المدني احتجاجاً على الانتخابات. وذكر “تجمّع أحرار حوران” أن حزب البعث الحاكم أجبر، يوم الإثنين الماضي، طلاب الجامعات على الخروج في مسيرة مؤيدة لرأس النظام بمدينة درعا، عقب صدور بيان من هيئات مجالس ولجان فاعلة في محافظة درعا، دعوا خلاله إلى مقاطعة الانتخابات الرئاسية. وأعلن المرصد السوري لحقوق الإنسان، أمس الأربعاء، عن انفجار عبوة ناسفة قرب منزل محافظ درعا مروان إبراهيم شربك، مشيراً إلى أن مجهولين استهدفوا أحد مراكز الاقتراع في الانتخابات الرئاسية بقنبلة يدوية في بلدية نمر، شمالي درعا، بعد منتصف ليل الثلاثاء – الأربعاء.
تحشيد الشمال
في موازاة ذلك، شهد الشمال الغربي من سورية حراكاً شعبياً واسع النطاق رفضاً لانتخابات بشار الأسد، فتقاطر أعداد كبيرة من المواطنين أمس، إلى ساحات وميادين مدينة إدلب، مرددين شعارات تدعو إلى وحدة سورية، رافضة هذه الانتخابات “المهزلة”. وشهدت مدينة إدلب التظاهرة الكبرى في عموم سورية، رفضاً للانتخابات. وتضم محافظة إدلب نحو 4 ملايين مدني، جلهم مهجرون من العديد من المحافظات السورية، نتيجة القصف الجوي من طيران النظام والطيران الروسي، ونتيجة العمليات الانتقامية واسعة النطاق التي ارتكبتها قوات النظام في المناطق التي انتزعت السيطرة عليها من فصائل المعارضة السورية. وفي السياق، شهد ريف حلب الشمالي، الواقع تحت سيطرة فصائل المعارضة، حراكاً كبيراً ضد الانتخابات، وفق ناشطين أشاروا إلى أن الشعارات الأولى للثورة السورية عادت من جديد، تحديداً تلك الداعية إلى إسقاط النظام. وخرج متظاهرون في منطقة شرقي نهر الفرات، الخاضعة لسيطرة “قوات سورية الديمقراطية” (قسد) رفضاً للانتخابات. ورفع العشرات منهم في مدينة الطبقة في ريف الرقة الغربي شعارات تدعو إلى وحدة البلاد من دون وجود لبشار الأسد في السلطة. وكانت “الإدارة الذاتية”، التي تدير المنطقة، قد أغلقت أول من أمس الثلاثاء كلّ المعابر التي تربط شرقي الفرات مع مناطق النظام السوري، بينما سمحت للأخير بإجراء عملية انتخابية محدودة في مربعين أمنيين يقعان تحت سيطرته في مدينتي القامشلي والحسكة، في أقصى الشمال الشرقي من سورية.
المصدر: العربي الجديد