قراءة في كتاب: أثقل من رضوى     (مقاطع من سيرة ذاتية)

أحمد العربي

 رضوى عاشور: روائية مصرية حاصلة على درجة الدكتوراه في الأدب الانكليزي، ناشطة في المجال العام عبر عقود، زوجة الشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي، والدة الشاعر الفلسطيني المتميز تميم البرغوثي. لها الكثير من الروايات، قرأنا اغلبها، وكتبنا عن بعضها.
أثقل من رضوى: ليست رواية؛ هي أجزاء من سيرة ذاتية للمؤلفة كتبتها بدءاً من ٢٠١١ حتى ٢٠١٣، عندما اكتشفت انها مصابة بمرض السرطان. والكتابة هنا ليست منضبطة بالتواتر زمنيا، ولا بموضوع بعينه خاص او عام. الكتاب كله حوار داخلي في ذات الكاتبة، تحاول من خلاله توصيل بعض من رؤيتها للحياة، وما عاشته، وإيصال لرسالتها عن وجودها لنا ودورها الحياتي العام والخاص. ونحن في قراءتنا لعملها هذا سنعتمد طريقتها بالوقوف عند بعض المحطات، واستخراج الاستنتاجات، والرسائل التي ارادت توصيلها لنا كقراء.
رضوى عاشور ابنة أسرة متميزة من الأجداد حتى الأحفاد، ابناء القاهرة؛ الجد المحامي المثقف وكذلك والدها ووالدتها، اسمها رضوى المشتق من اسم جبل على ساحل البحر الأحمر، هي واحدة من اخوة واخوات، تربطهم علاقات وطيدة حيث يلتقون في بيت العائلة كل الوقت. رضوى ستتزوج الشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي وتنجب ابنهما تميم البرغوثي، لن تفصل عن حياتها العائلية، وكأنه من البديهيات ان ندركه كقراء، او لعدم اهميته للمعنى العام المراد له ان يصلنا، أو هي لا تسعى لتأريخ حياتها الخاصة. سنعيش معها اغلب معاناة مرضها، وتطور حالته وعلاجه، بدءاً من بروز حبة بجانب الاذن تستأصل عدة مرات، وتكون حميدة، إلى أن يظهر أن لديها ورم في رأسها يحتاج لمتابعة طبية عاجلة، سيكون ذلك متزامنا مع بدايات الربيع العربي في تونس، وبدايات ارهاصاته في مصر. رضوى ناشطة في الشأن العام منذ عقود، كل ما يمت لقضايا حقوق المواطن داخلا، وكل ما يمت لحقوق الوطن خارجا تعيشه وتشارك فيه، هي دائما واحدة من الناشطين السلميين، بقدر ما يتيح النظام للناشطين، من اعتصامات أو تظاهر أو كتابة عرائض أو اجتماعات ومهرجانات عامة، القضية الفلسطينية في صلب اهتمامها، وفي اهتمام أغلب الفئة المثقفة في مصر وعبر عقود. ستتابع رضوى إرهاصات ثورة مصر ٢٠١١،  وتعيشها وجدانيا وأنها ستكون ثورتها وثورة أمثالها من الناشطين المخضرمين خاصة، كما أنها ثورة الجيل الجديد الشباب، الذي جاء إلى الدنيا ووجد أمامه الاستبداد والفساد وما ينتج عنهما، وجاء الربيع العربي والمصري خشبة خلاص.
تتابع رضوى الورم وتشخيصه وكيفية علاجه، سنصحبها في تفاصيل ما عاشته في رحلتها العلاجية مع زوجها مريد وابنها تميم، بتفاصيل حميمية كأننا (كقراء) جزء من العائلة، ستذهب إلى أمريكا لإجراء العلاج، سنتوقف عند العقبات التي تضعها أمامها الإدارة في الجامعة حيث تدرس منذ عقود، وسنرى كيف يحاربونها لموقفها السياسي ضد النظام، وكيف ستعالج على نفقتها رغم حقها أن تعالج على حساب الدولة، وتكلفة علاجها المرتفع، ستعاني رضوى والعائلة انهم سيكونون في أمريكا لإجراء عمل جراحي لها، وهم بأمسّ الحاجة انسانيا ووجدانيا ان يكونوا في مصر في أهم لحظاتها التاريخية، ايام الثورة وتطور المواجهات يوماً بيوم.
ستذهب رضوى والعائلة إلى أمريكا لإجراء العلاج، ويتابعون لحظة بلحظة تطورات الثورة، عبر شبكة الاصدقاء والاهل، لرضوى شبكة كبيرة من الأصدقاء ومن كل الفئات، المشترك بينهم الاهتمام بالشأن العام والعمل لنهضة مصر، يتابعون تطورات الأحداث أولاً بأول، حيث يتم مواجهة الشعب المندفع لإسقاط نظام مبارك بجميع أنواع البطش والتنكيل، وكان أهمها وأسوؤها القتل؛ حيث إطلاق النار وإصابة الناشطين الثوار وبداية سقوط الشهداء، كان اندفاع الشباب إلى الشارع والتظاهر مثيراً للعزيمة ومفرحاً لرضوى ومن مثلها ممن أصبحوا كهولا وهم ينتظرون لحظة انتفاضة الشعب على حكامه المستبدين الفاسدين، والعمل لبناء مجتمع حرية الإنسان وكرامته وحياته الافضل، لذلك كانت شعارات المتظاهرين في ميدان التحرير وفي مصر كلها: عيش حرية كرامة عدالة. تعبيرا مختصرا عن حاجات أغلب الناس الغلابة في مصر، وكانت السلطة الحاكمة تستعمل كل إمكانياتها القمعية لاسقاط اندفاع الناس والثورة، العنف المطلق السلاح الأبيض والخرطوش والقناصات والبلطجية والخيول والجمال، استنفار كل إمكانياتها ولم تفلح.
كانت الفئة الحاكمة من قيادات الأمن والجيش والشرطة وكبار الرأسماليين وارتباطاتها الإقليمية والدولية خاصة أمريكا و(اسرائيل)، تراقب ما يحصل بحذر وخوف، وكانت اندفاعة الناس وصلت لمرحلة اللا عودة، فما كان من صناع القرار (الذين ذكرناهم) الا اعتماد طرق مختلفة لإسقاط الثورة، فكان أولها التضحية بمبارك ومن ثم تنحيه، ثم بدأ العمل على شق الثورة عبر شق الثوار وخلق صراع بيني، اسلامي- علماني، وتم تحويل مرحلة مرسي لوسيلة إعلامية وسياسية وأمنية، استخدمت اساليب عهد مبارك القمعية باسم فصيل من الثورة، الذي أدى لصراع بيني، انتهى بإسقاط مرسي وعودة الفئة المتحكمة بالدولة والمجتمع متمثلة بقيادة الجيش المصري، وتم إسقاط الثورة عمليا تحت ادعاء شعاراتها ومسمياتها، وضاع الشعب المصري مجددا، لكن إلى حين.
ستذهب رضوى مع عائلتها للعلاج في أمريكا في بدايات الثورة، تستأصل ورماً في دماغها، يستمر علاجها ستة اشهر، ستعيش واقع الثورة يوماً بيوم من هناك، وتعود لتكون جزءاً من نشاطات الثوار اولا بأول، وتكون معهم، بين الشباب ومع الطبقة العلمية المنتمية للثورة، تتحسس واقع سرقة الثورة واسقاطها، وكيفية عودة النظام القديم للعنف الدموي بأسوأ اشكاله، لا يمر يوم دون شهداء ودون إصابات ودون اعتصامات، الشباب مستهدفون وهم الضحايا، زرع الشقاق بينهم لكنهم ما زالوا يحملون الشعلة والامل. ستسرد رضوى عن  بعض الشباب المنتمين للثورة، لترسم صورة للمصري الذي عمل ليعيش إنسانيته المهدورة من قبل النظام المستبد المجرم، رغم تغير ظهوره في كل مرحلة. تراقب الوضع رضوى وتشارك في الاعتصامات، وترصد الشهداء والمصابين وتدون  ما ترى. وتتابع حالتها الصحية بالمرض الذي لم يغادرها تماما، و احتاجت عملية أخرى لاستئصال امتداد للورم مجددا، وتذهب للعلاج، وفي كل مرة تعود لتكون جزءاً من النشاط العام في الثورة، هي مرتبطة بالعمل العام ومنذ عقود، فقد التقت بعبد الناصر عندما كرمها لتفوقها في المرحلة الثانوية، تعرف أبو عمار ياسر عرفات والتقت به كثيرا في مناسبات عامة وخاصة، تعرف وصادقت وجوه الفكر والسياسة والأدب المصريين والعرب، منهم محمود درويش الذي تنبأ لابنها تميم بمستقبل شعري متميز، هي ابنة الهم العام لا نراها الا منهمكة به، ويسكنها وتسكنه، إلى درجة احساسنا كمتابعين لكتابها؛ ان مرضها على خطورته هامشي بحياتها، كانت تدرك لعبة الحياة والموت، وأنها تعيش مصاحبة رسالة عليها أن تؤديها، كانت ترى أن أعظم ما تقوم به هو ما تكتبه، وما كتبته، تعود لأعمالها الروائية وتدوين إنتاجها الأدبي بصفته أهم ما تعيشه، ومع ذلك هي تعيش في عائلة تعتز بها على قلتها زوجها مريد وابنها تميم، وتعزز امتدادها العائلي وتداوم على لقاءات عائلية دورية، الأجداد المؤسسين للعائلة وأصبحوا بامتدادهم بالعشرات، الأجداد يرحلون والاحفاد  يعوضون، الجميع يعيشون في وسط إنساني سوي، تعيش رضوى علاقات صداقة متميزة ورائعة، فيها طعم التميز، والانتماء للقضايا العظيمة، بعضهم شاعر أو مطرب او رسام أو موسيقي، والكل يعيش موهبته بصفته صاحب قضية، لها شبكة اصدقاء من أجواء جامعتها، طلابها أجيال، بعضهم مستجد والبعض اصبح زميلاً لها في الجامعة.
تعطينا رضوى انطباعا قويا انها انسان قام بواجبه في الدنيا على أكمل وجه، فهي راضية عن نفسها دوما، على مستواها الشخصي متقبلة مرضها وتداعياته، على المستوى العام تخاف على الثورة كخوفها على أعز ما عندها في الوجود.
.تنتهي الرواية وهي مدركة أن الثورة سرقت من قبل أعداء الشعب، وعادت الفئة الحاكمة بزي جديد، بمزيد من البطش ووحشية أكبر، أما جانبها الصحي فقد أدركت أن مرضها لم يغادرها وما زالت تحتاج لجولة جديدة معه.
ستعالج لمدة سنة أخرى وتموت متأثرة بمرضها في ٢٠١٤ ، تاركة وراءها صورة نموذجية عن انسانة قامت بدورها بالحياة على أحسن وجه.
.أن رضوى عاشور انسان الرسالة المعاشة ، والنموذج المضيء الذي يجب أن يحتذى به.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى