مرحلة جديدة من التغيير الديموغرافي تتم في شرق الفرات إنطلاقاً من مدينة القامشلي التي تتخذها قيادات الــ PYD مركزاً لحراكها السياسي، ولايخفى على الكثيرين أن هذه المدينة التي تعتبرها معظم الأحزاب الكردية مركزاً إدارياً لما تتداوله في أدبياتها بــ(روج آفا) أو كردستان الغربية. فهذه المدينة التي كانت تدعى نصيبين الجديدة بدأت الحياة فيها عام 1922م حيث كان الوجود فيها تجاري فقط والذي قارب العشرين دكان مبنية من التراب والتنك، وفي آب-عام 1926 بدأت قوافل الهاربين من الفرمان والسفر برلك العثمانية، تصل إليها ليصل عدد سكانها، ثلاثة الاف نسمة، وفي عام 1936م كان عدد سكانها قد وصل إلى عشرين الف نسمة وهم من العرب والآشوريين والكلدان والمسيحيين ولاحقاً اليهود، وبدأ التواجد الكردي في هذه المدينة متأخراً مع منتصف الخمسينيات.
وإن كان ظهور قوات الــ PYD قد بدأ في شرق الفرات عامة وفي مدينة القامشلي خاصة، بدعم من عصابات الأسد وأجهزته الأمنية، في محاولة لتجنيد الفرع السوري من حزب العمال الكردستاني للحيلولة دون تمكين أبناء المنطقة من إنهاء سيطرته على المنطقة الغنية بالثروات الطبيعية، والتي تعتبر أحد أهم مصادر الموارد الطبيعية في سورية. إلا أن تطورات الأحداث اللاحقة ودخول الطرف الأمريكي كجهة داعمة رئيسة لهذه القوات وخاصة في المعارك ضد قوات داعش، بعد فشل مشروع المخابرات الأميركية في تجنيد الفصائل السورية لهذا المشروع إثر رفضها الخضوع للشروط الأميركية المتضمنة مقاتلة داعش فقط وإعتبار عصابات الأسد ليست أولوية.
فبعد سيطرت قوات الـ PYDعلى معظم مرافق المدينة ماعدا المربع الأمني الذي تتواجد فيه الأفرع الأمنية مع سكن ضباط من قوات عصابات الأسد المتواجدة في أطراف المدينة والمجمع الإداري والمشفى الوطني، إضافة لأحياء طي وحلكو والزهور والتي كانت محور الصراع في الأيام الماضية تمهيداً للسيطرة الكاملة على المدينة وممارسة التطهير العرقي فيها من خلال عمليات تكريد التعليم وفرض الأتاوات على جميع مرافق الحياة بدعوى الضرائب والرسوم دون تقديم أية خدمات تذكر وإنتهاءاً بفرض الخدمة العسكرية ضمن تشكيلاتها المتعددة على جميع شبان المدينة. حيث مارست قوات الــ PYDمنذ بداية دعمها من عصابات الأسد عملية التطهير العرقي في ريف الجزيرة السورية، وهو ماوثقته التقارير الدولية، نظراً لتوافق ذلك مع سياسات عصابات الأسد في تصفية المناطق التي كانت تعتبر الحاضنة الشعبية للثورة في ريف الجزيرة السورية.
فقد قامت قوات «أسايش» التابعة للإدارة الذاتية الكردية بعد معارك دامت ستة أيام، بفرض سيطرتها على أحياء طي والزهور والخليج وحلكو من مدينة القامشلي والتي تقطنها عائلات عربية، وحاولت القوى المشكلة من أبناء هذه الأحياء الدفاع عنها بعتادها المتواضع، ليُفرض عليها الانسحاب إلى خارج المدينة، حيث كانت المفاوضات التي تولتها القيادة العسكرية في مطار القامشلي، قد نقلت إلى المقاتلين العرب المدافعين عن هذه الأحياء، التوصل إلى إتفاق ينص على خروجهم بأسلحتهم لخارج المدنية، وإنسحاب قوات الــ PYDودخول قوات تمثل الشرطة المدنية للحكومة السورية لتأمين عودة المدنيين المهجرين إلى بيوتهم. إلا أنه، وبعد أن تأكدت الشرطة العسكرية الروسية من عملية انسحاب المسلحين العرب المدافعين عن هذه الأحياء، أدخلت عناصر الـ«أسايش» وسلمتهم الأحياء. في الوقت الذي حافظت فيه مخابرات عصابات الأسد على مبنيين يشكلان مربع أمني صغير في وسط هذه الأحياء.
وتعتبر المعارك التي تمت في المنطقة القريبة من تمركز الفوج 54- قوات خاصة العائد لعصابات الأسد، المتمركز في تل طرطب جنوب القامشلي والذي قامت عصابات الأسايش بتصفية أحد ضباطه بأكثر من 15 طلقة وكسر رجله وتعذيبه، بعد أن وصل لأحد حواجزهم، وعدم تفاعل هذه القوات ولجمها لعصابات الــPYD، هي دليل على تسليم السيطرة على المنطقة للقوات الكردية تمهيداً لعملية تهجير سكانها كما فعلت مع القرى الكثيرة في منطقة الجزيرة السورية، وبالتالي التخلي عن العشائر العربية الصلبة المتبقية في الجزيرة السورية وإعطاء الضوء الأخضر لعصابات الــ PYD بالتعدي عليها في محاولة لتهجيرها من مناطقها تنفيذاً لمشروعها الإنفصالي. وأبرز دليل على ذلك عدم تقديم عصابات الأسد أي دعم عسكري للمدافعين عن الأحياء العربية وتركهم لمصيرهم، كما أن ممثلي عصابات الأسد لم تفاوض أو توقع نيابة عن سكان الأحياء العرب، وبدا وكأنها طرف ثالث لا علاقة له بالموضوع،
إن ما حدث شكل صدمة في أوساط عشائر قبيلة طي المنتشرة جنوب وشرق القامشلي، وساد الغضب في منطاق تجمعهم المحيطة بمدينة القامشلي والتي تبلغ قرابة 20 قرية. واتهم أبناء هذه القرى عصابات الأسد بالتخلى عنهم وبيعهم لـ«الأكراد» بعد وعود قدمت لهم بتقديم الدعم الكامل لهم لمساعدتهم في الوقوف في وجه قوات الــ PYDوالمحتل الأميركي. والتصدي لمحاولات التغيير الديموغرافي وتكريد منطقة الجزيرة السورية. وما عملية إستخدام قوات الــ PYD الأسلحة الثقيلة مثل قناصة “زاغروس” في عمليات الاشتباكات داخل حي طي ضد المدافعين عنه، إضافة إلى رشاشات متوسطة نوع (بي كي سي) وعدة أنواع من القنابل الهجومية، في محاولة لإيقاع أكبر عدد من القتلى وفرض عملية التهجير على سكان هذه الأحياء، مما يعد مؤشراً على بدء عملية التغيير الديموغرافي في هذه المدينة التي تعتبر سورية مصغرة.
في هذه المنطقة التي يتهم فيها العنصر العربي بالانتماء إلى تنظيم داعش، ومن قبلها الفصائل الإسلامية والجيش الحرّ، فإن أسئلةٌ كثيرة تطفو على السطح ليس لها أجوبة حالياً، منها ما يتعلق بحقيقة الاشتباكات فيما إذا كانت عفوية أم مفتعلة، ومن الذي افتعلها. ويبقى السؤال الأهم مرتبطاً بقدرة جميع الأطراف على تحمل تبعات ذلك، أو استعدادهم لتلافيها ودفع الضريبة اللازمة. علماً بأن الأحداث الأخيرة تسببت في نفور عام لدى أهالي وأبناء الجزيرة عامة، وتوقع إشعال فتنة مفتعلة، وضرب حالة الأمان والسلم الأهلي التي كانت سائدة بين أبناء مكونات المنطقة إلى غير رجعة.
المصدر: اشراق