لم تكن المواجهة الشاملة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، قد أكملت يومها الخامس لحظة كتابة هذه السطور، لكنها كما تشير كافة الدلائل، ليست كسابقاتها، لا من حيث قسوتها وطول أمدها، أو حجم الخسائر المترتبة عليها، فقد سبقتها مواجهات أكثر تدميراً ودموية، وامتدت لأكثر من خمسين يوماً، ولكن من حيث التداعيات والنتائج المترتبة عليها، كما تشي بذلك إرهاصاتها الأولى، لكأنها “صاعقة” سقطت على المجتمعين الفلسطيني والإسرائيلي، وهما في لحظة تحوّل وانتقال، فكانت الشرارة التي ستشعل سهلاً.
“انتفاضة القدس”، نجحت في إعادة القضية الفلسطينية، إلى صدارة الاهتمام العالمي، بعد عقد من التهميش، توجته سنوات ترامب الأربع، بالكثير من الطمس والتنكر لحقوق الفلسطينيين الأساسية.. والانتفاضة، نجحت في البرهنة على أن مسار التطبيع بين بعض الدول العربية وإسرائيل لا يمكن أن يكون بديلاً عن حل القضية الفلسطينية، بل ويمكن القول إن هذه الانتفاضة قد أفقدت هذا المسار ما تبقى من زخمه الاستراتيجي الذي كان بدأ يخسره تدريجياً، منذ أن اتضحت نوايا إدارة بايدن، بالعودة إلى الاتفاق النووي مع إيران، والانفتاح عليها بـ”أقصى الدبلوماسية” بدل “أقصى العقوبات”.
تداعيات كثيرة ترتبت منذ الآن، وستترتب في المستقبل القريب على الجولة الأخيرة من المواجهة الأوسع والأشمل بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وستضرب الديناميات التي أطلقتها، المجتمعين الفلسطيني والإسرائيلي، سواء بسواء، ما بعد انتفاضة الأسبوع المنصرم، ليس كما قبلها.
حماس على خطى طالبان
فلسطينياً، ولأسباب عديدة، ليست الانتفاضة هذه المرة كغيرها من المرات: فهي شملت الفلسطينيين في مختلف أماكن تواجدهم: الضفة، القدس، غزة، فضلاً عن فلسطينيي المهاجر والشتات واللجوء، دفعة واحدة وعلى نطاق واسع، وبصورة غير مسبوقة منذ النكبة (1948).. ثمة إجماع بين المراقبين والمحللين، بأن “القدس نجحت في توحيد الفلسطينيين، كل الفلسطينيين”، ودفعت بهم للخروج عن بكرة أبيهم إلى الميادين والشوارع لمواجهة الجيش والمستوطنين الإسرائيليين، هي فعلت ذلك من قبل: “انتفاضة الأقصى 2000، هبّة النفق 1996، هبة البوابات والكاميرات 2017″، بيد أنها لم تفعله على نحو شامل للشعب الفلسطيني بمختلف أماكن تواجده.. هذه المرة، تحوّلت القدس إلى القطرة التي أفاضت الكأس الممتلئ، ولكل تجمع من تجمعات الشعب الفلسطيني، أسبابه وحيثياته للانتفاض، فانسداد أفق الحل السياسي، كان عاملاً مهماً في تشكيل مناخات الانتفاضة، والحصار المحكم والمديد على غزة، كان سبباً لثورة أهلها وغضبة فصائلها، والتوسع في عمليات الاستيطان ومصادرة الأراضي وطرد السكان من منازلهم، وبصورة وصفتها “هيومن رايتس ووتش” و”بيتسيلم” على أنها تطهير عرقي، كانت سبباً في انفجار القدس، وامتداده للضفة الغربية، أما مظاهر التمييز العنصري التي تحدثت عنها المنظمتان الحقوقيتان: الأميركية والإسرائيلية، فكانت محفزاً لانفجارات متلاحقة في مختلف المدن والبلدات العربية، داخل إسرائيل ذاتها، وبصورة لم تعهدها من قبل.
و”انتفاضة القدس”، فتحت، وستفتح الباب رحباً، لانقلابات كبرى في المشهد الداخلي الفلسطيني، فمركز ثقل هذه القيادة والقرار فلسطينياً، انتقل من رام الله إلى غزة، وحركة حماس، سجّلت فوزاً بالنقاط على حركة فتح والسلطة الوطنية، بعد أن امتلكت قرار الحرب والسلم، وهي وحدها عن الجانب الفلسطيني، من يدير عمليات التفاوض حول التهدئة ووقف إطلاق النار، وشروط الصفقة التي يجري العمل على بلورتها، في حين بدت فتح والسلطة والرئيس محمود عباس، في موقع المراقب، العاجز عن مواكبة التطورات من حوله، واتسعت الفجوة بين القيادة والرأي العام الفلسطيني، الواسعة أساساً، والتي زادها اتساعاً، قرار الرئيس عباس قبل أسبوعين، بتأجيل الانتخابات العامة، بالضد من رغبة الأغلبية الساحقة من الفلسطينيين.
لقد استخدمت حماس تكتيكاً ذكياً هذه المرة، فهي إذ بادرت بفتح “جبهة غزة” ضد إسرائيل، وانتصاراً للقدس والأقصى والشيخ جرّاح، فإنها تكون قد أعلنت خروجها من “قمقم” القطاع المحاصر، حيث ارتضت وارتضى العالم لها، أن تتولى شؤونه بحكم “الأمر الواقع”، من دون أن تكون السلطة والقرار في رسم وجهة التحرك وسقوف المواقف الفلسطينية.. اليوم، تدخل حماس إلى قلب النظام السياسي الفلسطيني من “باب العامود” و”الشيخ جرّاح”، و”صواريخ القسام”.
ولا شك أن الحركة باتت أكثر اقتناعاً، بقدرتها على تغيير نظرة المجتمع الدولي حيالها، وبالذات الولايات المتحدة، وهي تتابع عن كثب، ومن الدوحة، حيث مقر قياداتها في الخارج، كيف بدّلت واشنطن نظرتها لـ”طالبان”، وكيف فتحت حواراً معها، وكيف قررت تسليمها أفغانستان على طبق من فضة، حين قررت الانسحاب كلياً من هذه البلاد، بحلول سبتمبر القادم، وإلى أن يجري تكليف “زلماي زادة” خاصٍ بها، كما تأمل الحركة، فإنه لم يعد خافياً على أحد، أن حماس تنخرط مع أطرافٍ أوروبية وعالمية أخرى، في اتصالات مباشرة وغير مباشرة، في السر والعلن، وعلى المستوى الأمني، حين يتعذر المستوى السياسي.
وتجد حماس في تركيا وقطر، وغيرهما، حاضنة إقليمية، تدفعها للاندماج في النظام الفلسطيني، توطئة لقيادته في مرحلة لاحقة، فهي الجهة الأكثر قوة وتماسكاً على الساحة الفلسطينية، بعد أن ضرب الترهل والشيخوخة والتشقق، منافستها حركة فتح، وبعد أن أصاب الفساد وسوء الإدارة مؤسسات السلطة، وبعد أن وصل خيار “التسوية التفاوضية” و”حل الدولتين” إلى طريق مسدود.. حماس تلقت نصائح من الدوحة وأنقرة بالمشاركة في الانتخابات الفلسطينية، والانخراط في النظام الفلسطيني، ووفرت لها “انتفاضة القدس”، الفرصة للولوج إلى هذا النظام، من أوسع بواباته.
حصدت حماس شعبية واسعة في أوساط الفلسطينيين، وخسرت فتح الكثير من رصيدها، وستتعمق انشقاقاتها، العميقة أصلاً، والتي كانت سبباً رئيساً وراء قرار تأجيل الانتخابات، أما الرئيس عباس، فربما ينتظره مصير مماثل لمصير أشرف غني بعد أن تبسط طالبان سلطتها على أفغانستان، في حين أن نسبة الفلسطينيين الذين يطالبونه بعدم خوض غمار الانتخابات الرئاسية القادمة في تزايد، وقد بلغت ثلثي الفلسطينيين، وفق استطلاعات للرأي سابقة للأحداث الأخيرة ولقرار تأجيل الانتخابات.
ثمة ملامح انقلاب في المشهد الفلسطيني، ليس على المستوى الفصائلي فحسب، بل وعلى مستوى “الأجيال” كذلك، فالذين فجّروا “انتفاضة القدس”، هم من الشباب، من جيل ما بعد أوسلو، والذين خرجوا في المدن والبلدان داخل “الخط الأخضر”، هم أيضاً من الأجيال الشابة، وشباب الضفة الغربية الذين خرجوا انتصاراً لغزة بالضد من إرادة قيادة السلطة، هم من الجيل ذاته.. القيادة الشائخة والمترهلة لمنظمة التحرير والسلطة وفتح، لم تعد توفر النموذج الجاذب للجيلين الثالث والرابع للنكبة.
ربح نتانياهو وخسرت إسرائيل
إسرائيلياً، عمقت الأحداث الأخيرة حالة “الانفصال” التي يعيشها عرب 48 عن الدولة والمجتمع الإسرائيليين، وهي الحالة التي كانت تزداد تفاقماً، مع تنامي دور وحضور اليمين الديني والقومي المتطرف في الحياة السياسية والحزبية الإسرائيلية، وتفشي مظاهر العنصرية في أداء الطبقة السياسية والأجهزة الأمنية والقضائية الإسرائيلية، وفقاً لتقارير منظمات حقوقية دولية مرموقة مثل “هيومن رايتس ووتش”، وصحف إسرائيل اليسارية وأوساط الصهيونية الليبرالية.
ولا شك أن الانفجار الذي رددت صداه معظم، إن لم نقل جميع، المدن والبلدات العربية في إسرائيل، لم يكن مدفوعاً بالتضامن مع القدس أو نصرة لغزة فحسب، بل كان نابعاً كذلك، من إحساس عميق بالتهميش والتمييز، سيما بعد أن تحول إلى “سياسة رسمية” و”نظام قانوني” بإقرار “قانون القومية”، أو “يهودية إسرائيل”، ولا شك أن حملات التحريض ضد العرب وممثليهم في الكنيست، والنظرة الفوقية الاستعلائية التي طبعت مواقف أحزاب اليمين الإسرائيلي، حتى ضد القوائم العربية التي أعلنت استعدادها لدعمها في تشكيل الحكومة.. كل ذلك، وغيره من الممارسات والسياسات والتشريعات، كان لها إسهامها في وقوع “الانفجار الكبير”.
إسرائيل “تتمشرق”، قلنا ذلك وكتبنا عنه في هذه الزاوية من قبل، وهي تتمشرق إذ تحتل أحزابها الدينية والقومية المتطرفة مساحات متزايدة من الخريطة الحزبية، وتسن تشريعات لا يمكن وصفها إلا بالتمييزية، وهي “تتمشرق” إذ تتخلى الدولة عن بعض صلاحياتها لصالح منظمات متطرفة، قومية ودينية، مدججة بالسلاح والكراهية، وتعمل خارج القانون، ولكن تحت نظر وسمع الأجهزة الأمنية والقضائية، وبتواطؤ وتشجيع من المستوى السياسي.. وهي “تتمشرق” إذ تخفق في معالجة مشكلة الأقليات، والأقلية العربية بخاصة.. وهي “تتمشرق” إذ تشهد على تفاقم الهويات الفرعية وتشظي الحياة الحزبية والسياسية، وتفاقم أزمات الحكم والحكومة بفعل المصالح الشخصية والانتهازية لكبار أركان الطبقة السياسية، في السلطة والمعارضة سواء بسواء.
وتعيش حكومة نتانياهو “حالة إنكار” لا تخفى على المراقب، فهي تبحث عن “مشاجب” تعلق عليها أخطاءها وخطاياها، وهي تسعى في “التعمية” على الأسباب الحقيقية للمأزق الذي تعانيه إسرائيل، وبرغم من أن كثير من الكتاب والصحفيين الإسرائيليين، لم يترددوا في اتهام نتانياهو شخصياً بتشجيع الذهاب إلى حرب على غزة، لقطع الطريق على خصومه بتشكيل ائتلاف وحكومة جديدين، إلا أن أوساطاً سياسية يمينية تواطأت مع رئيس الوزراء الإسرائيلي، أو انطلت عليها “أحابيله”، وفي الحالتين، فإن النتيجة واحدة، وهي أن نتانياهو سيكون ربح معركته لتشكيل الحكومة في حين أن إسرائيل ستكون قد خسرت الجولة الأخيرة من صراعها مع الفلسطينيين، بل وخسرت كثيراً.
المصدر: الحرة. نت