افتقار السوريين إلى دورٍ مُقرّرٍ في مستقبل بلادهم أصبح الواقعة التاريخية المؤلمة منذ عدّة سنوات. الخارج الإقليمي والدولي هو الذي يقرّر ذلك. الأسوأ هو غياب التوافق على تسوية بين هذه “الخوارج”، وهذا يعني أن أزمة السوريين مفتوحة إلى أمدٍ غير محدّد. عديدٌ من المثقفين السوريين يتمنّون العودة إلى ذلك الدور، بما يتجاوز انقسامات النظام والمعارضة، وكل أشكال الانقسام، وينطلق من إرادة وطنية متعالية عن هذا كله، ويؤسّس لمستقبلٍ لكل السوريين.
المثقفون والأسئلة
بدأ ذلك العديد من المثقفين يطرح أسئلة فكرية عن الأزمة الراهنة؛ فيجدها تتجاوز خندقات النظام والمعارضة، وتعود، برأيه، إلى بداية تأسيس الدولة السورية، حيث ليس من إقرارٍ نهائيٍّ بأنّ سورية الحالية، والواقعة تحت خمسة احتلالات، هي المبتدأ والمنتهى للسوريين، وبالتالي تتطلع كتل من السوريين إلى ما بعدها، كما الرؤية القومية أو الشيوعية أو الإسلامية. ومشكلتنا الآن لم تعد فقط في الرؤى الثلاث السابقة، بل في الاحتلالات الخمسة، والتي لا تكتفي برسم نفوذها وتوظيف سوريين أدواتٍ رخيصة في خدمتها، بل في أن سياسات تلك الاحتلالات تقسّم السوريين إلى خمسة شعوب، أو تحاول ذلك. على الرغم من كل كارثية هذا الوضع، فالعديد أعلاه يؤكد ضرورة انبثاق الإرادة الوطنية، وتوحيد سورية من جديد، دولةً ديمقراطيةً وعلمانيةً ومواطنية.
واقعياً، ما تراكم من ملفاتٍ على الساحة السورية منذ 2011 يؤكد أن طيّها غير ممكن من دون تسويةٍ سياسية شاملة، تأخذ بالاعتبار القرارات الدولية، ولا تتجاهل كتلة الموالين الرافضين كلّ ما يتعلق بالثورة أو المعارضة. الانقسام هذا، والذي يمكن توصيفه بانقساماتٍ طائفيةٍ ودينيةٍ وقوميةٍ وعشائريةٍ وجهوية، يتطلب بالضرورة مشروعاً يتجاوز مشاريعهم الانعزالية والتقسيمية، ولكن هذه الانقسامات ليست متخيَّلة أو مسائل فكرية، بل أصبحت قضايا واقعية، وتلوَّثت الثورة وتطوراتها اللاحقة بها، وارتُكبت مجازر ومعارك وحروب، وهناك “تبعيات” لقطاعات مجتمعية لدولٍ خارجية باسمها. لا تعبر الانقسامات عن كل الأفراد المنضوين في “الدول” السورية العديدة، ولكنها أصبحت قضية مفتوحة، وغير ممكن إغلاقُها من دون تجاوز سبب الانقسامات. يقتضي التجاوز تغيير النظام أو تغييراً كبيراً فيه، وكذلك ضرورة تغيير كل الرؤى الفكرية والسياسية للمعارضة المكرّسة. ما زالت المعارضة غير المكرسة لم تنجز برؤاها أو برامجها أو أطروحاتها الفكرة الأخيرة.
لا يفيد التفكير الرغبوي في طيّ الانقسامات، أو إخراج الاحتلالات، أو إنهاء النظام أو المعارضة المكرسة التابعة. التعقيدات هذه يجب مواجهتُها، فكيف يتحقق ذلك، وقد مات أكثر من نصف مليون، وعُطِبَ الملايين، وشُرِدَ في المنافي أكثر من نصف سكان سورية، والنصف الآخر يقبع تحت أنظمةٍ تمنع عنه أية حريات أو حقوق، ويعيشون في ظلِّها كالعبيد، وبالكاد يؤمِّنون قوت يومهم وتجديد البنية الفيزيولوجية؛ التي أصبحت مبتلاة بكل أصناف الضعف والمرض والتعب.
الثورة وهوية سورية
لم تواجه الثورة نظاماً بمفرده، بل واجهت إيران ومليشياتها ومنذ اليوم الأول. والآن، لا يجد الشعب السوري مشروعاً وطنياً يُلتفُّ حوله، لا من المعارضات ولا النظام. هذا واقع تراجيدي؛ فالسوريون يُقتلون ويُظلمون منذ عشر سنوات على الأقل وليس من أفقٍ لنهاية كارثتهم. لا أعتقد بجدوى القول إن مشكلات سورية الراهنة تعود إلى لحظة تأسيس سورية 1920، على الرغم من أن الاحتلال الفرنسي هو من اقتطعها من عالمها العربي، ومارس سياسات تمييزية ضد الأكثرية ولصالح الأقليات، وكذلك تأسست سورية بوصفها دولةً لصالح الطبقة الثرية في أثناء الاحتلال وبعده، ولاحقاً باعتبارها دولة لصالح الطبقة الوسطى التي توسَّلت أفكاراً اشتراكيةً كثيرة. أخضع الجنرال حافظ الأسد الأفكار الاشتراكية لسلطته، فكانت أيديولوجيته في قيادة الدولة، وتشكيل نظامٍ سياسي شمولي، اكتملت شموليته بعد 1982.
سيطر الفساد بعد السبعينيات على بنية الدولة، وكذلك النهب، وهذا دَمّرَ القطاع العام، وأعطى دفعة قوية للقطاع الخاص، وترافق ذلك مع استقرارٍ مديد، عاشته سورية؛ وإن كانت تعرّضت لحربٍ طائفية في الثمانينات، ولكنها تجاوزت ذلك بتشدٍّد شمولي إضافي من ناحية، والتأسيس للانقسام الطائفي من ناحية أخرى، والذي انفجر ما بعد اندلاع الثورة بعدة أعوام بشكلٍ واسع، حيث أعيد إنتاج الثورة بعيداً عن شعبيّتها ووطنيتها ونحو التطييف، وكان ذلك بفعلٍ واعٍ من النظام والإخوان المسلمين؛ حينها انفتحت سورية نحو مشكلةٍ طائفيةٍ جديدةٍ بإرث قديم، وكذلك نحو الخضوع للخارج، الإقليمي والعالمي.
“دويلات” سورية الفاشلة
يتجه الوضع السوري نحو أكثر من خيار، وأقواها راهناً تعزيز مناطق النفوذ، مع استنقاع كل مناطق “الدويلات”، حيث لا إعمار في مناطق قوات سورية الديمقراطية (قسد) أو هيئة تحرير الشام أو الجيوش “الوطنية” التابعة لتركيا أو النظام كذلك، وعكس ذلك نراقب انفجارات اجتماعية مستمرة في كافة هذه المناطق. الانفجارات لا تتَّسم ببعدٍ وطني جامع، على الرغم من أن مصلحتها الحقيقية تكمن في ذلك، ومسؤولية ذلك بسبب غياب البعد الوطني لدى النظام، والمعارضة، حيث لا يطرحان تأطيراً لاستيعاب هذه الانفجارات في مشروع وطني. النظام ما زال يمارس القمع، كما كان من قبل، والمعارضة ما زالت خاضعة لتركيا ودول أخرى، وبالتالي، تتكرّر الاحتجاجات وتندثر تباعاً. حصيلة الأمر هي مأسسة مناطق النفوذ، ولكن من دون إعمار أو عودة السكان الأصليين.
تؤكد التقارير الاقتصادية انهيار الوضع المعيشي لأكثر من 90% من السوريين، ودمار قطاعات واسعة من البنية التحتية للاقتصاد، وأن كلفة إعادة الإعمار تتجاوز الـ 500 مليار دولار، وهناك تقارير تتكلم عن ألف مليار. والأسوأ الهجرة الواسعة للصناعات الوطنية إلى الخارج وتوطُّنُها هناك. يتطلب هذا الوضع رؤيته بعمقٍ شديد. يجب التدقيق في مقارنة الوضع السوري مع أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية؛ فهناك كان مشروع مارشال، وقام الاتحاد السوفييتي بتنمية أوروبا الشرقية. أمّا سورية فليس هناك من مشاريع دولية تنتظرها في زمن العولمة ووباء كورونا والأزمة الرأسمالية العالمية الراهنة، هذا في حال بدأ الحل السياسي. المعارضة والنظام ينتهجان التبعية للخارج وعقلية الاستدانة منه للتنمية المحدودة الموظفة في اقتصاد ريعي، ولا يراكم عملاً تنموياً يعوّل عليه، وتعد الممارسات التي تعاملا فيها مع الشعب، الموالي والمعارض، مثالاً نموذجياً عمّا ينتظر الشعب مستقبلاً.
المعارضة الوطنية، وأية فعاليات سياسية، من غير المعارضة المكرسة، معنية بالوقوف طويلاً حول كيفية النهوض بسورية، المحتلة حالياً. لا يمكن لنظامٍ سياسيٍّ ديمقراطي أن يتأسّس في سورية من دون رؤية اقتصادية دقيقة لوضع الاقتصاد ولفقر الأكثرية المهمّشة، وأية رؤى لا تنطلق من إعادة الاعتبار للصناعة والزراعة أولاً، وتنمية الاقتصاد الوطني، ستذهب نحو تحويل الاقتصاد إلى التجارة والبنوك والعقارات ولصالح الخارج، ومرتبط به. وبالتالي، ستُدفع سورية نحو مزيدٍ من التبعية والتهتك الاجتماعي لبنيتها الاجتماعية التي هي أصلاً في حالة انقسامٍ كبرى من جرّاء السنوات العشر السابقة. لم تكن خطورة الانقسامات واضحة في 2011، ولكنها الآن جليّة الملامح، وتتطلب كثيرا من الشغل السياسي والحقوقي، وإنصاف الضحايا والمظلومين، ليكون ممكناً تجاوز الثارات والانقسامات وغرائز القطيع. إذاً، تعاني سورية من وضعٍ اقتصادي منهار وبنية اجتماعية متهتّكة ومخربة ومفقرة. السؤال أية قوى سياسية واجتماعية وثقافية قادرة على انتشال الوضع الاجتماعي مما هو فيه، والارتقاء به، إلى وعي حقوقي، يعطي القضاء والمحاكم دوراً مركزياً في المحاكمة وقبول الأحكام، وإعادة “تخييط” المجتمع السوري، ونسج هوية مجتمعية، تتعالى على تلك الانقسامات “المعزَّزة بالقتل والنهب وكل أشكال الانتهاك والسيطرة الأيديولوجية لعقلية الانقسام؟ تبسيط الوضع السوري ليس صحيحاً، ولكن تركه يغرق في الانقسامات والتعفّن أكثر مما تمَّ هو جريمة يُدان فيها النظام والمعارضة، وكل من تدخل بالشأن السوري، وأولهم إيران ومليشياتها، وروسيا، وتقع مسؤولية الفاعلين “المهمشين في آخر القائمة.
المعارضة الجديدة
ينتظر الوضع السوري تسوية إقليمية ودولية، وهذا بمثابة مفتاح الحل، ولكن أليس هناك مسؤولية على الطرف الأضعف في المعادلة؟ وأقصد المعارضة السورية، سيما أن النظام لم يعد يتحكّم بأمره، وهو لا يرى مستقبله إلا ضمن المنظارين، الإيراني والروسي، حيث ليس من إمكانية لاستمراريته من دون حماية حلفائه. يقع على عاتق المعارضة التصدّي للأمر. هذه مشكلة كبرى تقف أمام السوريين في هذه اللحظة، وسترافقهم في حال بُدِئَ العمل بتسوية “صفقة” وبحلٍّ سياسي. ما دام الأمر كذلك، فما العمل إذاً، وهل هذا يعني أننا لن نغادر حالة التبعية للخارج أو الدمار الذي أصبحت سورية عليه؟ من المفيد تأمل، ليس فقط مشروعي إعادة الإعمار المشار إليهما أعلاه مارشال وتنمية أوروبا الشرقية، فهناك كذلك تنميات تمّت إثر الثورات الاجتماعية، أبرز أمثلتها الصين وفيتنام، وكذلك كوبا بدرجة أضعف. هناك كذلك دول نشأت وتطوّرت ضمن حالة التبعية لأميركا، وفي إطار الحرب الباردة. الهند شقَّت طريقها الخاص في التطور، ولكنها تعاني من مشكلاتٍ كبرى في تطور مجتمعها، وهناك انقسامات دينية وسواها. الآن، كيف ستنهض سورية وكذلك اليمن وليبيا، وهناك العراق ولبنان؟ أليست حالة العراق الفاشلة جديرة بالتأمل العميق، وهو الذي احتلته عام 2003 أميركا التي أتت بنظامٍ سياسيٍّ لصالح إيران! والأخيرة ما زالت تَنهب موارده وتخرب بنيته الاجتماعية من خلال النظام السياسي الذي شكلته الولايات المتحدة. إضافة إلى ذلك كله، العراق مقسَّم بين عربٍ وكرد، وهناك محاولات لتقسيمه بين الشيعة والسنة، وهناك الوجود التركي.
حالة سورية أسوأ بكثير من العراق ولبنان، بل ومن اليمن وليبيا، فإذا كانت الأخيرات مطروحاتٍ دولياً للتسويات السياسية، وإجلاء الجيوش الأجنبية عنها، فإن حالة سورية ليست كذلك؛ فإسرائيل لن تترك الجولان، وأميركا تجد شرق الفرات أرضاً وشعباً بلا سلطةٍ، وهناك التدخل التركي، والذي لن ينتهي من دون دورٍ سياسيٍّ مقرّر في العاصمة، أي في كل سورية المستقبلية، أو وصول فئاتٍ، وتحديداً من الإسلاميين، للمشاركة في الحكم، ولخدمة مصالحها. وطبعاً لن نناقش احتمال تغيير النظام السياسي في تركيا في المرحلة الحالية، وهذا سيفتح باتجاه سياساتٍ جديدة، غير سياسات الرئيس أردوغان.
إذاً تقع على القوى الوطنية، وأيا كانت اتجاهاتها الفكرية والسياسية، مهامٌ مركبة، تتناول كافة أوجه الحياة في سورية، سيما أن العالم يشهد نظاماً دولياً متأزماً بشدّةٍ، والدول الأساسية فيه تحتل مناطق من سورية، وكذلك تفعلُ دول إقليمية. وبالتالي من الخفّة بمكان أن يتمحور السوريون في نقاشٍ طرفاه وسردياته النظام أو المعارضة. لم يعد ممكناً الاكتفاء بذلك، على الرغم من أن هذين الطرفين، وأولهما النظام، وثانيهما المعارضة المكرّسة، ورَّطا سورية بما آلت إليها أوضاعها حالياً، أي الاحتلالات الخارجية والدمار والمنافي والأزمة الاقتصادية العنيفة في الأعوام الأخيرة.
تشير حصيلة التحليل أعلاه إلى أنَّ الإرادة الوطنية المستقلة عن الخارج، وعن طرفي الصراع الداخلي، ستعبِّر عنها قوىً وشخصيات ومجموعات من داخل سورية ومن خارجها، وليست مصنّفة على المعارضة المكرسة أو النظام. الأزمة الاقتصادية، وعَقدٌ من الحرب والثورة، وغياب التسوية الخارجية، يشير هذا كله إلى ضرورة ذلك.
القوى الوطنية الجديدة، وهي لم تتبلور بعد، معنية بتلمس الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. المدخل السليم نحو ذلك إعلان إفلاسٍ كامل للنظام وللمعارضة، ومهما تفاوتت المسؤوليات. سيعني هذا الإعلان أن السوريين سيبحثون عن رؤى جديدة، وسياسات وبرامج جديدة، ترفض الانقسامات وسياسات النظام والمعارضة. هذا شرط أوّلي للقوى المأمولة، ومن دونها لا يمكن السير خطوة واحدة نحو طيّ الانقسامات، أو تجاوز هيمنة النظام والمعارضة المكرّسة. يقع على عاتق القوى سابقة الذكر، الوعي الدقيق لحالة الانقسام، والسعي نحو توحيد سورية من جديد، وهذا يقتضي الانطلاق من جملة مسائل، هنا محاولة لتكثيفها قدر الإمكان:
أوّلاً، كلفة آثار الحرب والدمار الاقتصادي عالية، ولن تتطوع دولةٌ أو دولٌ متعدّدة لتقديم خمسمائة مليار دولار للنهوض بها، وستكون المليارات المقدّمة هزيلة ومشروطة، ولن توظّف في قطاعات صناعية أو زراعية أو تعليمية، لتساهم بالنهوض العام. أيضاً، لا يمكن النهوض من الدمار بغير رؤيةٍ وطنيةٍ للاقتصاد وللأغلبية المفقرة، ورفض كل الشروط الدولية والإقليمية التي ستَرهن سورية لسياساتٍ ناهبة لثروات سورية، وهو ما بدأت به روسيا وإيران في ظل هذا النظام. طبعاً كل الاتفاقات مع روسيا وإيران يجب تعطيلها في أيّة تسويةٍ، أو إعادة النظر بها بشكلٍ كامل، لتكون عائداتها لصالح الدولة السورية المستقبلية. النهوض بالوضع الاقتصادي والاجتماعي، إضافة إلى الأخذ بالتباين بين المدن التي دُمرت والتي لم تدمر أو هُجِرَ سكانها أو ظلّوا فيها، فهذه الحيثية أساسية، ليكون بالإمكان إعادة التوازن إلى كل مدن سورية وبلداتها، وبما يعيد إعمار ما تدمَّر منها، وترميم ما أهمل منها، وهذا يشمل كل أوجه الحياة الاقتصادية والخدمية. إذاً لا بد من شفافية واضحة إزاء الواقع، وبغض النظر عن المسبب، وهو أولاً النظام وثانيهما الفصائل المسلحة سيما السلفية والجهادية منها، ولاحقاً الدول التي تدخلت بالشأن السوري. هذه قضايا تتطلب متابعة حقوقية دقيقة، ولقاءات بحثية كبيرة من أجل تحديد المسؤولية، ورفع القضايا أمام المحاكم.
ثانياً، الشكل السياسي الوحيد، والقادر على استيعاب الانقسامات المشار إليها أعلاه، وإيجاد علاقات اجتماعية وسياسية وطنية وعابرة لكل تلك الانقسامات، هو النظام الديمقراطي، المبني على مبدأ المواطنة وحقوق الإنسان، ورفض كل أشكال التمييز في المستوى السياسي للدولة، وبدءاً بالدستور وليس انتهاءً بقانون للأحوال الشخصية، يكون مدنياً. هذا يجب أن توافق عليه كل القوى السياسية على اختلاف إيديولوجياتها، ومهما ادّعت قدسية ما لمرجعياتها أو سياساتها؛ كأن يقول الليبرالي إن الليبرالية هي مستقبل سورية ومستند خلاصها من كل استبداد، وأن الدستور وكل العملية السياسية يجب أن تخضع لمبادئها، وكذلك قول الإسلامي أو الاشتراكي. هذا التوجه الفكري يعيد إنتاج الاستبداد عبر قدسية مرجعيته وواحدية رؤاه، وهو يطيح كل نضالات السوريين عبر ثورتهم أو عبر تاريخ نضالاتهم من أجل نظام سياسي جديد، ومجتمع جديد، ونهوض عام، وتحرّر من الاحتلالات وسواه كثير.
ثالثاً، تشكيل محاكم وفقاً لدستورٍ وقوانين جديدة، مهمَّتها متابعة كل القضايا التي تراكمت منذ خمسة عقود على أقل تقدير، وكذلك ما تمّ من مآس في السنوات العشر الأخيرة. يكون لهذه المحاكم الحق بمتابعة أيّة شخصياتٍ، كان لها دورٌ في مآسي سورية. إذاً لا بد من استقلال القضاء بشكل كامل، ومحاسبة أي شخصيات أمنية أو سياسية أو اقتصادية أو عشائرية أو نافذة، تريد شطب قضايا مرفوعة تجرّم تلك الشخصيات أو أفرادا تابعين لها؛ هذا يجب أن ينتهي، وهذا بالطبع ليس بسيطاً، فحجم الجرائم المرتكبة كارثيٌ، ولكن لا يمكن للسوريين أن يبنوا دولة خارج هذا الإطار.
رابعاً، النهوض بالتعليم، وإعادة إعمار البنية التحتية للعملية التعليمية برمتها، وترميم القابل للإعمار. وهنا يجب إجراء ورش فكرية وثقافية بقيادة شخصياتٍ مشهود لها بسعة المعرفة والأخلاق والوطنية. الهدف من ذلك إعادة كتابة المناهج الدراسية وتغيير أساليب التعليم، وإعادة التعليم إلى مجانيته وإلزاميته، ورفض السياسات التي تكرّس التعليم الخاص بديلا عن العام. الهدف من ذلك هو الإسراع بتشكيل ثقافة نقدية ووطنية وفي شؤون الحياة كافة، فما تراكم من أُميّة تعليمية أو ثقافية وسواها يجب طيّه نهائياً، والتخلص من أية أدلجة في العملية التعليمية. هنا يجب إبعاد التعليم الديني عن مؤسسات الدولة، وأن تكون تابعةً للمؤسسات الدينية، ومناهجها التعليمية تخضع لوزارة التربية والتعليم، بما فيها المواد الدينية التي يجب أن تتضمّن رؤىً وأفكاراً إصلاحية، وتتماشى مع عصرنا الحديث، ورفض كل رؤى تقليدية أو سلفية أو جهادية أو تمييزية بين البشر أو الأديان.
خامساً، إعادة تشكيل أجهزة الدولة القمعية والجيش، وأن تخضع بشكل حاسم لوزير الدفاع، أو وزيرٍ مختصٍّ بالشؤون الأمنية. أمّا الشرطة فيفترض أن تتبع لوزارة الداخلية، وألا يكون لها أية صلة بالأجهزة الأمنية. يُراد من الأجهزة الأمنية حماية الدولة والأفراد من الخارج أو من قوى إرهابية، رافضة دستور الدولة وقوانينها أو لمؤسساتها. وضمناً، يجب إبعاد كل من ولغ من قيادات تلك الأجهزة أو عناصرها بدماء السوريين، في العقود المنصرمة. المقصد ألّا يكون لهذه الأجهزة أية اعتبارات فوق حقوق كل أفراد المجتمع وواجباتهم، والأمر ذاته يسري على كل المسؤولين في الدولة، وبدءاً برئيس الجمهورية.
الأفكار الخمس أعلاه تتقصَّد إنهاء كل أشكال التمايز بين السوريين، جديدِها وقديمِها؛ طبعاً ستظل قضية التمايز الطبقي الأخطر، والتي تتطلب نضالاتٍ مستقبليةً واسعة من الأكثرية المفقرة، ليتم إعادة توزيع الثروة عبر سياسات عادلة. في هذا، لا تُستبعد أيّة سياسات اقتصادية جذرية، وإعلاء دور النقابات في مختلف الشركات الخاصة وبالتأكيد العامة. تجاوز الانقسامات يفترض بالضرورة علاقة متكاملة بين مركز الدولة، أي العاصمة، وبقية المدن، وهو ما يشار إليه باللامركزية الإدارية، ومركزية دور العاصمة في مختلف الشؤون السياسية في الدولة، كاحتكار تمثيل العلاقات الخارجية أو المسائل الأمنية والعسكرية، والاقتصاد والثروات والعملة وسعر صرفها.
نهوض سورية
يتطلب نهوض سورية ما حاولت السطور أعلاه تلمُّسه، وهذا سيُواجَه بمختلف التعقيدات من “الدويلات التابعة”، وهذه تمتلك كل أدوات القمع والظلم والحرمان للمجموعات السورية المنضوية تحت سلطتها. حاول هذا النص إعطاء دورٍ كبير للقوى المأمولة ولإرادتها الوطنية، ولكن الدقيق أن القوى تلك يفترض أن تمتلك برنامجاً، حدّدْتُ بعض نقاطه، بما يمثل الأكثرية المفقرة والمهمشة. إن أية سياسات وبرامج نهضوية يجب أن تستقي أفكارها ورؤاها من الأفكار الاشتراكية والماركسية، وكذلك من الرؤى والسياسات التي أنصفت الطبقات المفقرة في أوروبا أو الدول الإسكندنافية، وكذلك من الدول التي ترسّخت فيها منظومة حقوق الإنسان ومبادئ المواطنة والعدالة الاجتماعية بعامة. هنا إشكالٌ كبيرٌ، ووجّه له نقد كثير، ويتعلق بأن الأنظمة القومية العربية تبنت الأيديولوجيا الاشتراكية، وكذلك الدول الاشتراكية، ولم تكن حصيلة تجربتها ديمقراطيةً، أو تطوّراً متواكباً في كل قطاعات المجتمع.
هذا صحيح، ولكن تجربة الصين تقول بحدوث تطورٍ نوعيٍّ في تاريخ هذا البلد والعالم، وحتى دول الاتحاد السوفييتي، وأوروبا الشرقية خطت خطوات كبيرة في إطار التصنيع والتقدّم الزراعي والعلمي بعامة. لا يوجد عاقل يريد تكرار التجارب تلك، والعيش تحت أنظمة استبدادية وشمولية، ولكن لا يمكن تغييب رؤية التطوّر في الجانب الاقتصادي والعلمي هناك. إذاً، هناك ضرورة لمشروع وطني، لا يكون رهينة للخارج ولا لاقتصاد السوق، أو أن يكون تابعاً للنظام العولمي الذي ينهب خيرات العالم، وقد أدخله في أزماتٍ كبرى، لم تخرج منها بعد، وتعدّ الثورات العربية في وجهها الأساسي موجّهة ضد السياسات الليبرالية المرتبطة بالعولمة المسيطرة على العالم.
القوى المأمولة معنية بسياسات وبرنامج وطني، ينهض بسورية في المجالات كافة، وينهي كل أشكال الانقسام، وكذلك ما تراكم تاريخياً ولم تجد له حلاً حتى الساعة، أي الانقسامات الدينية والخوف من الآخر والكراهية، وسواه. تساهم النقاط الخمس أعلاه في ذلك، ولكن لا يمكن التحرّك من خلالها من المعارضة أو النظام، فالاثنتان لا تعيرانها اهتماماً. تأخر إجراء تسوية للوضع السوري يفترض النقاط السابقة، وكذلك إن بُدئَ بالتسوية السياسية، حيث لن تكون لصالح السوريين.
إذاً ليس من إمكانية إلى توحيد سورية من دون مشروع وطني يقطع بشكل حاسم مع أصل الانقسامات ويعلن عنها، ويحدّد سياساته الوطنية الجامعة إزاء السوريين كافة. مشروعنا هنا يتناقض من مصالح كبرى أصبح النظام والمعارضة يعملان وفقها، أي التبعية لهذه الدولة أو تلك، وهذا هَمّش أيّة رؤىً وطنية. تتناقض فكرة النص مع السائد المحلي والإقليمي والدولي؛ وهو مشروعٌ يمكن أن يوازي مشاريع وطنية في أكثر من بلد عربي، كليبيا واليمن، ووفقاً لمشكلات تلك الدول.
نهوض العرب في الدول الفاشلة، أو التي لم تفشل بعد، ينطلق من تعزيز ما ذكر أعلاه، وهذا سيكون الأساس للدول وللحركات السياسية والاجتماعية الجديدة.
المصدر: العربي الجديد