مات أبو إبراهيم، وحيداً ويائساً، من دون أن يكحّل عينيه، كما كان يأمل، برؤية القدس محرَّرة… كان يتقصد دعوة شباب الحي إلى شرفة منزله في منتصف شهر مايو (أيار) من كل عام، ليذكّرهم، وهم الصغار، بيوم النكبة عام 1948… يحدّثهم بحماسة، عن لحظة تطوعه بجيش الإنقاذ وكيف تسابق مع الآلاف من الشباب العربي لإسناد الإخوة في فلسطين… كانت تأسره المرارة حين يعرض ما يراه من أسباب الهزيمة… يقول جازماً: لم نكن قلة بل كنا أكثر عدداً من عصابات الهاجاناه والأرغون والشتيرن الصهيونية، لكن ضعف التنظيم وبساطة أسلحتنا وتقصير المسؤولين… كل ذلك سهّل للإسرائيليين فرض دولتهم الاستيطانية على أرضنا. ثم يصمت للحظات قبل أن يتساءل بحرقة: هل سمعتم بصفقة الأسلحة الفاسدة؟ يهز رأسه متحسراً، ويضيف: لقد فشلنا، والأمانة الآن بين أياديكم.
ربما من حُسن حظ أبو إبراهيم، أنه رحل قبل نكسة يونيو (حزيران) عام 1967… وقبل أن يرى كيف هجّرت إسرائيل المزيد من العرب واستولت على أراضيهم، وأيضاً قبل حروب عديدة، خوضت في مصر وسوريا ولبنان وغزة، وأُعطيت أسماء فضفاضة كحروب التحرير أو الثأر أو التحدي، ولم تبدل، من حيث الجوهر، مشهد احتلال فلسطين القاتم بل زادته قتامة، لكنّ ثمة مياهاً غزيرة جرت ومتغيرات كثيرة حدثت، وبات ما نعيشه اليوم مختلفاً عن معطيات الماضي وظروفه.
لم يعد ثمة جيش إنقاذ يُنتظر منه أن يضع حداً لمآرب العصابات الصهيونية، ونقلت المقاومة الفلسطينية، التي استقطبت لعشرين عاماً، الشباب العربي، مركز الصراع مع إسرائيل إلى الداخل الفلسطيني بعد إبرام اتفاقات أوسلو، وقيام سلطة وطنية على جزء من الأرض المحتلة، لكنها سلطة تنخرها، وللأسف، الخلافات والانقسامات، بين قطاع غزة الذي تديره «حماس» بعقلية الجاهلية، وبين حكومة الضفة الغربية بما يتيحه الحصار الصهيوني من هامش ضيق لها، هي خلافات لم تهدأ أمام قوة المصالح الضيقة العمياء، رغم تعدد المبادرات لرأب الصدع، وهي انقسامات تترسخ من دون اعتبار لما تخلّفه من تدمير وتخريب لحيوات الفلسطينيين ولمقومات استمرار قضيتهم حية، وكأنه ليس ثمة احتلال بغيض لا يزال ينكّل يومياً بالشعب الفلسطيني، وأحد وجوهه تسعير بناء المستوطنات وما يجري اليوم في مدينة القدس مع الاستباحة الإسرائيلية للمسجد الأقصى ولأحيائها القديمة.
زاد الطين بلة تحوُّل قضية فلسطين عنواناً للمزايدات وسلعة مكفولة تاجر بها أصحاب السلطة والنفوذ لتعزيز تسلطهم وفسادهم وتحكمهم في رقاب البشر، ونظرة سريعة إلى الحصاد الهزيل المثير للشفقة الذي ورّثتنا إياه شعارات تحرير فلسطين طيلة عقود من الزمن، تكفي لتثبت عياناً أن هذه الشعارات الطنانة لم تكن أكثر من رايات خادعة استخدمتها الأنظمة «الوطنية جداً» لقهر شعوبها وحماية امتيازاتها والتنعم بما سلبته من ثروات، وتالياً لتبرير فشلها وإخفاقها في قيادة المجتمع وإنجاز مهامه التنموية، فلم يكن مِن همٍّ لدى هذه الأنظمة سوى الحفاظ على مواقعها وامتيازاتها بحجة مواجهة الصهيونية وتحرير الأرض المحتلة، وتالياً خداع الناس عبر اللهاث، على حساب حاجات المجتمع وشروط تطوره، لاقتناء التكنولوجيا العسكرية والأسلحة المتطورة، التي استُعملت في معارك الداخل ضد الشعب وقواه الوطنية أكثر مما في خنادق وساحات القتال الخارجي، الأمر الذي أفضى إلى تخريب البنية الوطنية وتدمير خلايا النمو والتجدد في المجتمع وتحويله إلى مجتمع ضعيف وخائف ومنهك تتآكله أزمة عميقة جراء عسكرة الحياة وامتصاص طاقة البلاد وثرواتها، وأفضى أيضاً إلى انحسار الاهتمام الشعبي بالقضية الفلسطينية، فلم يعد حلم التحرير حاضراً وحياً، ولم تعد المجتمعات العربية تنام وتصحو على وقع أخبار فلسطين ومعاناة أهلها، أمام تفاقم ما تعانيه هي وشدة ما تكابده.
والأنكى، أن مأساتنا لم تعد تقتصر على مطامع إسرائيل، فثمة دولة إقليمية صارت تشاركها نهش الجسد العربي، وهي وللأسف تتوسل القضية الفلسطينية أداة للمزايدة والمتاجرة…
لم تفارق حكام طهران منذ انتصار ما سمّوها ثورتهم الإسلاموية، شعار تحرير فلسطين والموت للصهيونية، الذي وظّفوه خير توظيف ليس فقط لقمع الإيرانيين وإخضاعهم، بل لخلق أدوات وميليشيا تخريبية، تعيث قهراً وفساداً في غير بلد عربي، تغذّي الانقسام الفلسطيني وتسعّره متى شاءت، وتتقصد، تحت راية الوصاية على فلسطين والمزايدة باسمها، محاصرة أو تصفية أهم القوى والشخصيات الوطنية التي كانت في الصفوف الأولى دعماً للنضال الفلسطيني، وتؤكد هذه الحقيقة الاغتيالات المدروسة التي طالت أهم الناشطين والمثقفين الوطنيين في لبنان والعراق، كما الحروب التي خاضها «حزب الله» بالوكالة في مواجهة إسرائيل والتي لم يكن همها نصرة القضية الفلسطينية بل نصرة الحزب نفسه، وتمكينه من الإمعان في قهر الإنسان العربي، وتثبيت سيطرته، ومن ورائه طهران، على مقدرات لبنان وعلى مصائر سوريا والعراق واليمن.
في ظل هول ما حدث ويحدث في فلسطين، تثقل على أرواحنا الأمانة التي وضعها أبو إبراهيم بين أيادينا، هل نستمر في البحث عن إجابات عن الأسئلة التي أثارها حول أسباب عجزنا وهزيمتنا، ونضيف إليها أسباب ما وصلنا إليه من بؤس وتخلف وقهر؟ أم نعلن بدورنا الفشل وننقل الأمانة إلى أيادي أطفالنا وشبابنا، لعلهم الأقدر على حملها وقد عركتهم معاناة ومظالم من الاستبداد والاحتلالات، تضاهي، وربما أشد وطأة من، معاناة الفلسطينيين ومظالمهم.
المصدر: الشرق الأوسط