قراءة في رواية: كريسماس

أحمد العربي

أحمد خيري العمري مفكر إسلامي متنور، من العراق، له العديد من الكتب، رواية كريسماس أول عمل أقرؤه له.
تعتمد رواية كريسماس على أسلوب الكتابة بلغة المتكلم، على لسان شخصيات الرواية، وبشكل متسلسل يتناوبون على منصة التحدث والبوح.
شخصيات الرواية عراقيون يرتبطون عائليا ببعضهم موزعون بين بغداد في العراق والسويد وبريطانيا. والزمن هو نهاية عام ٢٠١٧م او الذي يليه. انهم جميعا متعطشين للّقاء والتواصل. انقطعت السبل بينهم منذ احتلال الامريكان للعراق عام ٢٠٠٣م، وما تلاها من صراعات طائفية، أدت لكثير من الضحايا ودفعت الكثير الى الهجرة والهروب الى خارج العراق. واستقرارهم في أوروبا وغيرها من دول العالم.
ميادة عراقية هاجرت وابنتها مريم الى بريطانيا منذ عام ٢٠٠٥م بعد أن تم قتل زوجها عمر الطبيب بعد خطفه في بغداد والمطالبة بفدية دفعوها، ومع ذلك قتل ومثّل به. كذلك كان مصير اخيها ميثم الذي خطف وقتل ايضا. كانت حرب مجنونة وقتلٌ على الهوية الطائفية. هي شيعية وزوجها عمر سني، كان صديقا لاخيها حيدر منذ أيام الدراسة الجامعية في كلية الطب، حصل بينهما تجاذب وبدايات عواطف وتوجت في الزواج. أنجبت ابنتهما مريم التي أصبحت الآن في سن المراهقة خرجت مع امها من بغداد وهي طفلة صغيرة متوجهين الى بريطانيا حيث كان قد سبقها الى هناك اخاها حيدر الذي استقر فيها طبيبا يعمل في إحدى مستشفياتها. كما استمر يعيش في بغداد اخا زوجها سعد ووالده، الذين لم يخرجوا من بغداد. فكرت ميادة أن تجد وسيلة لتعيد لم شمل العائلة وتجد فرصة للقاء الكل مع بعضهم. لقد كانت نهاية عام ٢٠١٧م. واعياد الميلاد قريبة واجازتها مناسبة ليلتقي الجميع، فكرت أن تستدعي من بغداد سعد اخا زوجها ووالده المسنّ المصاب بالزهايمر، واخاها حيدر وهي وابنتها مريم حيث تلتقي بأهل ابيها التي انفصلت عنهم منذ طفولتها. فكرت أن يلتقوا جميعا في مكة المكرمة لأداء العمرة . تواصلت مع سعد الذي كان سعيدا بذلك ووافق على مجيئه مع والده في احدى حملات العمرة من بغداد الى مكة المكرمة. وكذلك اخبرت اخاها حيدر الذي استجاب هو ايضا. كان الموضوع عند مريم مثيرا قليلا في لا تذكر إلا بعض صور من طفولتها في بغداد، وغير ذلك كانت قد باشرت في دراستها في كلية الهندسة المعمارية. وارادت ان تطل على الجانب المعماري لمكة والكعبة والحرم عموما.
مريم: نشأت في السويد مع والدتها تعيش في عالم منفصل عن ماضيها في العراق. فهي حيادية تجاه الأديان. و نباتية لا تأكل اللحوم، لم تنظر للذهاب الى مكة والعمرة من جانب روحي ابدا. بل لغرابته وما فيه من معلومات جديدة لها تفيدها في دراستها المعمارية. كانت شخصيتها قوية. وحضور امها طاغ في حياتها، وخاصة ان الانفتاح في الحياة الغربية بين الشباب يجعلهم يتعاملون مع الجنس بعادية. وهذا متناقض مع الخلفيات الدينية الإسلامية عند امها والحلال والحرام. وربط الجنس بالزواج وتبعاته. كانت منبهرة بفكرة انها ستلتقي بعمها وجدها الذين تبقوا لها من ارث والدها التي لا تكاد تذكره. وصلوا إلى مكة كانت مقابلتها مع مكة وعمرانها بالحرم والكعبة بإطلالتها عليها من احدى العمارات الشاهقة المواجهة لها. حصل انبهار نفسي وروحي. بدأ يتعمق من خلال ممارسة شعائر العمرة من طواف حول الكعبة والسعي بين الصفا والمروة. مع مرويات لها حول ذلك. كانت مفاجأتها الأكبر بلقائها بجدها الذي شمّت به رائحة عطر كان يستعمله والدها. وحنين عميق، اما هو فقد تقبلها بحب واحتضان واكتشف فيها عيني ابنه عمر والدها الذي افتقده منذ زمن بعيد. كان ينوس بين عيش اللحظة والتوهان في عوالم الزهايمر حيث ينتقل في الزمان ومع الاشخاص كيفما يأخذه عقله الغير منضبط. كان عم مريم سعد المفاجأة الأهم لمريم. لقد وجدت به الاب الذي فقدته باكرا ووجد فيها الابنة التي لم يلدها. احتضنها كثيرا ورعاها والعائلة كلها. مريم اكتشفت جوانب نفسية وروحية فيها لم تكن تعهدها في ذاتها سابقا…
سعد: الذي استمر بالعيش في بغداد مع والده الذي كبر في السن انه في العقد التاسع من عمره، أصيب بالزهايمر. لم يغادر سعد ووالده بغداد رغم خطورة العيش هناك. استمر مع والده ووالدته. بعد أن قتل أخاه وهاجرت عائلته ميادة ومريم. توفيت والدته اولا وبقي يرعى والده. كان متزوجا منذ سنوات بعيدة. تابع موضوع الإنجاب هو وزوجته، اكتشف أنه عقيم لا قدرة عنده على إنتاج الحيوانات المنوية المسؤولة عن الإنجاب عند الرجال. عالج نفسه كثيرا. لكن لا أمل، طلّق زوجته بعد زواج استمر لأكثر من عشر سنين، حتى يعطيها فرصة زواج آخر تنجب به وتعيش أمومتها. وهكذا حصل تزوجت وأنجبت، انها تعيش في بلد أوروبي مع عائلتها الآن. لذلك كانت رحلة العمرة بالنسبة لسعد خيار رائع يحصل به على الوئام الروحي ويلتقي بما تبقى له من عائلته. خاصة مريم التي يراها ابنته، لذلك قرر ان يتحمل المسؤولية المالية كاملة للرحلة، كما حمل معه الهدايا الكثيرة لمريم. كان اهمها عقدا من الماس ورثته أمه عن أمها حصلوا عليه من دوقة روسية هاربة من بلادها بعد الثورة الروسية بدايات القرن الماضي. كان للقاء سعد بميادة زوجة أخيه وكذلك بمريم الكثير من البهجة. لقد تغير سعد كثيرا كان عدوانيا و متسلطا و مزعجا خاصة بالنسبة لميادة، لكنه تغير لقد اصبح الاخ الحنون المعطاء المتفاني لهم. كما اصبح الاب لمريم. كانت رحلة العمرة بالنسبة له تطهر روحي ونفسي ولحظة لقاء فريد مع بقايا عائلته. لقد قام بمناسك العمرة وهو يناجي الله تعالى أن يجعله يتحمل حياته على نقصها وأن يكون الابن البار لوالده وان يقدم كل العون لزوجة اخيه وابنتها مريم الغالية عليه…
حيدر: الطبيب الذي غادر العراق الى بريطانيا منذ أكثر من عقدين، أراد ان يصنع بحياته الجديدة قطيعة بينها وبين ماضيه. فقد قرر ان يتجاوز كل ما يربطه بالعراق بعد أن حل به ما حل من احتلال ودمار وصراع طائفي ومجتمعي. تزوج من امرأة انجليزية وأنجب منها سارة التي كبرت في أجواء من الانفتاح والتحرر. كانت قد دخلت بعلاقات مفتوحة جسديا مع كثير من اصدقائها. كان الجنس عندها حاجة تلبيها كيفما تشاء. لم تكن تؤمن بالأديان ولا بالزواج. لقد كبرت وأصبحت محامية. تعيش كما تهوى ولا ضابط لها. وكانت وطدت علاقتها مع صديق لها اسود البشرة وغير مسلم وحملت منه. كان ذلك فوق قدرة حيدر على التحمل. لذلك عندما تم دعوته للعمرة تجاوب بسرعة للهروب من واقعه الذي يعيش، ابنته لا تستجيب لأي مطلب منه. كأن يُسلم صديقها وان يتزوجا. لقد كان يخاف من السمعة الاجتماعية بين العراقيين أكثر من حرصه الديني. خاصة أن زوجته الانكليزية كانت متفهمة لواقع ابنتها. وتسعى لأن توفق بين زوجها وابنتها. حيدر يعيش أزمة نفسية كبيرة. كانت العمرة علاجا مؤقتا قدمت له فرصة للتطهر النفسي، لكن لم تقدم له الحل. وخاصة ان خبرا جاءه ان ابنته قد انجبت طفلا. كان يتمنى لو اسقطته ولم تلده ومنعت احساس العار عنه تجاه من حوله من العراقيين. فكر أن ينتحر لكن وجود اخته مياده بجانبه ساعده على الخروج من محنته بحيث جعلته يتفهم ويتقبل ما حصل معه. فهو اصلا قطع مع ماضيه ودينه. وتزوج انجليزية ولم يزرع في ابنته أيّا من قيم الإسلام. وهو يدرك ان من يعش في الغرب يتشرب قيمه عن الحرية الشخصية والانفتاح الجنسي واحتمالية العلاقة الجنسية دون زواج. وان تنجب المرأة دون زواج وان يستمروا بالعيش سوية دون أي ارتباط رسمي. وان ينسب الطفل للأم أو الاب او لهما معا دون وثائق زواج. كل ذلك يعرفه. لكن أن يكون هو ضحيته فلم يستوعب. لكنه وبمساعدة اخته ميادة تفهم وتقبل وبارك لابنته بولدها حفيده. وظل يأمل ان يقنع ابنته ان تتزوج من صديقها وأن تجعله يعلن اسلامه. أدى العمرة وتعايش مع الاخرين وهو يأمل أن يتحقق هذا الطموح.
قام الجميع بمناسك العمرة وكل يعيش عوالمه الداخلية ويحاول تفريغ همومه الذاتية. بعد أداء العمرة قرروا الذهاب الى المدينة المنورة والصلاة في مسجد النبي ص وقراءة الفاتحة على قبره. حصلت مستجدات أخرى في حياة الكل ونفسياتهم. فقد تعمقت الروحانيات داخل نفس مريم. ووجدت ان ترابطها مع جدّها وعمها قد تغلغل الى عمق نفسها واشبعها عاطفيا. لكن وفاة جدّها وهم في طريق السفر الى المدينة شكل جرحا نفسيا للكل. حيث دفن في البقيع مع الصحابة والتابعين. وكذلك سعد الذي وجد أن حياته قد عادت متألقه بمجيء مريم و محبتهما لبعضهما وأنها ابنته التي لم يلدها. وأنها ستكون مبررا لعيشه خاصة بعد وفاة والده. وانه سيعمل دائما على ان يلتقوا كل عام بالعمرة او أن يصفي اعمالهم واملاكهم في بغداد ويلتحق بهم في بريطانيا. لقد غمزت مريم لامها انها وعمها سعد يصلحوا أن يكونوا زوجين متساعدين على متابعة الحياة سوية… هكذا تأملت مريم واسرّت لامها. أما حيدر فقد عاد الى السويد لعله يصلح ما خرّب الدهر واهماله ما حصل في عائلته ومع ابنته…
هنا تنتهي الرواية في حدثها المركزي…
لكن هناك في الرواية مسار آخر منفصل يتحدث فيه أحمد عم الخليفة المستعصم بالله وذلك عام ٦٥٦هجرية متابعا لهجوم هولاكو على بغداد وإسقاط الخلافة العباسية وقتل الخليفة وحاشيته. والمذابح التي صاحبت اجتياح بغداد، حيث لم يسلم أحد من ناسها من النساء والرجال والاطفال. كان احمد عم الخليفة محبوسا في سجن تحت الأرض منذ عشر سنين. تحسبا من الخليفة خوفا من عمه أن ينقلب عليه. لقد حضر أحد تابعيه وأعوانه وأخرجه من سجنه، وهربوا من بغداد التي فتك بها المغول وحولوها لدار خراب وموت وجثث واحتمال انتشار الوباء. لجأ أحمد وتابعه الى مطران مسيحي في بغداد كان حصل على الأمان لرعيته المسيحية. لان زوجة هولاكو كانت مسيحية منعت القتل عن مسيحيي بغداد. ومن هناك هرب الى جنوب العراق ومنه بمساعدة قبائل عربية تم اصطحابه الى مصر حيث استقبله قطز المملوكي سلطان مصر. وأعاد تنصيب أحمد المستنصر بالله الثاني ليكون خليفة عباسي ودعمه بالمال والجنود. وقرر ان يعود الى بغداد و ينتزعها من المغول وأن تستمر الخلافة العباسية من خلاله. لكن المغول لاقوه في الطريق عبر كمين وقتلوه وانقطع اثره.
هنا تنتهي الرواية.
في التعقيب عليها اقول:
لقد نجحت الرواية في السرد والتنقل بين الشخصيات والموضوعات بحيث جعلتها أقرب للنفس ومتابعة قراءتها بشغف واهتمام.
كما تتناول الرواية مستويات متشابكة في حياة اشخاصها بالعمق متابعتهم في العراق وبلاد الغربة. حيث تمر دون تعمق حول ماذا حصل في العراق حتى تصل الى ما وصلت اليه. لم تتحدث الرواية عن عصر صدام الاستبدادي الذي استمر لعقود وما عاشه العراق من حروب عبثية خارجيا أدت لموت الملايين في الحروب والحصار والمرض والجوع والسجون المعتقلات. كان أسوأها الاحتلال الأمريكي للعراق عام ٢٠٠٣م. وما تبعه من تأجيج للصراع الطائفي المدعوم من قوى إقليمية اهمها ايران وصمت امريكي عن المذابح الطائفية وولادة داعش وظهور الميليشيا الطائفية الشيعية التي تعمل تحت إمرة ايران، تعيث خرابا في العراق حتى الآن ونحن في عام ٢٠٢١م. هذا ما كان يجب أن يُذكر في الرواية خلفية للحدث الروائي الذي تابعناه بشغف.
كما كان من المهم الغوص قليلا في الموضوع الشيعي السني حيث الصراع المفتعل. فليس كل اختلاف عقائدي ديني او مذهبي او طائفي مبررا لصراع مجتمعي. وإن حصل ذلك فلا امل بحياة آمنة لأي مجتمع. القبول المجتمعي للتنوع الديني والطائفي والمذهبي شرط لأن تعاش الحياة المشتركة. غير ذلك سيكون الصراع والضياع والفساد. تستفيد من ذلك دول الاستبداد والقوى الاقليمية والدولية التي ترعى مصالحها عبر خلق الصراع المجتمعي البيني وتعميقه. هذا مع العلم ان التعايش المجتمعي لهذا التنوع كان سائدا عبر مئات السنين. وكان يستثمر لخلق الصراع من حاكم مستبد او مستعمر طامح مستغل للبلاد والعباد.
كان لافتا التحدث عن اجتياح المغول لبغداد والمشرق العربي قبل مئات السنين وإسقاط الخلافة العثمانية كرمز لوحدة الدولة. للربط بين واقع بلادنا والأطماع فيها منذ الفرس والروم والمغول والتتار والاستعمار المعاصر في القرن الماضي وفي فلسطين وآخرها احتلال العراق.
كما أن الرواية تدق ناقوس الخطر عن تكرار حصول التغريبات العربية منذ قرن تقريبا. بدء من التغريبة الفلسطينية منذ غزو الانكليز فلسطين وإعلان الكيان الصهيوني فيها عام ١٩٤٨م وتشريد مئات الآلاف من شعبها الى كل بلاد العالم. وبعدها التغريبة العراقية الممتدة لعقود منذ عصر صدام حسين وبعدها الاحتلال الأمريكي وحتى الآن. وتلاها التغريبة السورية بعد الثورة عام ٢٠١١م و رد فعل النظام المستبد المجرم وحلفائه الذين قتلوا الناس و اعتقلوهم وهجروهم بالملايين ودمروا المدن فوق اهلها… وكذلك في بقية بلدان الربيع العربي.
هناك قرار دولي أن من يرفض الانظمة الاستبدادية التابعة للغرب ويطالب بدولة الحق والحرية والعدالة والكرامة الانسانية، مصيره كما حصل في فلسطين والعراق وسورية و…الخ.
انهم يريدون منعنا من ان نعيش انسانيتنا الحقة ونعمل لبناء الحياة الافضل ونحصل على حقوقنا كأفراد وشعوب كاملة اسوة ببقية بلدان العالم.
لن يستطيعوا ذلك… الشعوب مستمرة بتقديم التضحيات لتحقيق مطالبها المشروعة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى