قراءة في رواية: بيت النخيل

أحمد العربي

طارق الطيب روائي مصري من أصل سوداني، مستقر منذ عقود في النمسا، له عدد من الروايات والكتابات الادبية. بيت النخيل رواية تعتمد أسلوب السرد من خلال حوار داخلي نفسي للشخصية المحورية في الرواية حمزة، حيث يعيد سرد حكايته، غير ملتزم بزمان ومكان معينين، فقط التداعيات الذاتية، يعيش بين السودان ومصر والنمسا، ما مرّ على حياته عبر عقود، تكتمل الرواية مع نهاية صفحاتها، وللدّقة تتفتح احتمالات جديدة في نهاية الرواية.

حمزة الشاب السوداني من قرية نائية اسمها “ود النار” من محافظة ام درمان السودانية، كان قد ترك قريته وامّه واختيّه في رحلة بحث عن فرص حياة أفضل،غادر إلى أوروبا، لا نعلم عن رحلته الاولى الكثير، لكنه يبدأ قصته من محاولة العودة مجددا لزيارة والدته واختيّه، والده غير حاضر ميت أو متخلي عن العائلة، القرية ود النار اندثرت فقد هاجم التصحر المنطقة وما حولها، أدرك حمزة ان امه واختيّه قد ماتوا مع غيرهم في القرية المنسية من المجاعة وهجوم الصحراء، وصل الى قرية ود الاكباش المجاورة لقريته ومنها توجه للقرية باحثا عن أثر ما لامه واختيّه، يصل الى مكان القرية لا يوجد إلا أطلال وبقايا عظام متناثر في كل مكان، أدرك أنه خسر امه واختيّه الى الابد، حمل معه بعض الأحجار من المكان وغادر. حمزة الان في النمسا التي وصلها بعد رحلة مضنية جدا، النمسا البلد الأوروبي البارد الذي يفتقد للشمس، حمزة يعيش غربة قاتلة وأجواء عمل مضني جدا، فقد عمل موزع جرائد بأجر لا يكاد يكفيه لحياة الكفاف، يسكن في بيت صغير بارد، يفكر كثيرا كيف اتى الى هنا وأن حياته لم تتغير كثيرا عمّا سبق. التقط قطّة صغيرة من الشارع كانت مبتلة ومريضة اهتم بها وحولها لبقية اهله في غربته. تعرفت عليه فتاة نمساوية اسمها “ساندرا”، كانت القطة سبب التعارف، تتطور علاقة ساندرا وحمزة، تأخذه الى “بيت النخيل”، المكان الوحيد الذي يحاكي أجواء أفريقيا والسودان وخط الاستواء، هناك عادت روح حمزة له نسبيا، توطدت علاقة حمزة وساندرا، اخذت تطالبه بسرد حكايته لها كاملة. حمزة عندما عاد الى السودان لزيارة عائلته واكتشافه اندثار قريته ووفاة أمه واخواته، عاد خائبا وقرر السفر ثانية فلم يعد لديه عائلة وهذه البلاد لا تهتم لحياة اهلها. في طريق العودة في أم درمان تقبض عليه الشرطة العسكرية، وتسوقه الى معسكرات التدريب لأجل المشاركة في الحرب على المتمردين في جنوب السودان، كان الصراع بين السلطة المركزية في الشمال السوداني والمتمردين في الجنوب قد بدأ منذ وقت سابق، وراح ضحيته كثي

ر من الشباب السوداني من الطرفين، وتأذّى أهل المناطق الواقعة في قلب الصراع، هم ضحايا الطرفين والكل يخوّن الناس هناك، يقتلوهم ويسرقوا أرزاقهم على قلّتها، ويدمروا مساكنهم على تواضعها. بعد تدريب شكلي من ضبّاط مسكونين بالعنجهية، يحوّل حمزة وكثيرين آخرين إلى أرض المعركة، وهناك يتوه مع الآخرين، ويجد نفسه أسيرا عند احدى القبائل الجنوبية، لغتهم مختلفة وهو ينتظر القتل على أنه محارب جاءهم بالقتل، استسلامه لهم جعلهم يفكروا في وضعه، يهتم بأمره الشريف كبير القرية هناك، لقد كان يتكلم العربية، حكيم حليم عالم، حدثه عن مصيبتهم مع جيش الحكومة والمتمردين ايضا وكيف راحوا ضحية الطرفين، حدثه عن معتقداتهم وعبادتهم لقوى الطبيعة، وكيف كانوا ضحية حملات متواصلة للهيمنة عليهم، اهل الشمال يريدون ارغامهم على الإسلام، والمبشرين جاءوا محملين الأناجيل والصلبان والمساعدات لأجل دفعهم لاعتناق المسيحية، والاسوأ من كل ذلك هم “الجلابة” الذين كانوا يهاجمونهم و يأخذونهم عبيدا يباعون كرقيق، كانت حياتهم فيما بينهم جيدة، يتفقون على كبير بينهم وحوله مستشاروه يسيّروا أمور القرية. عاش حمزة بينهم لفترة ومن ثم تركوه ليعود إلى بلده، بعد أن تأكدوا أنه لم يضرهم وهو ضحية الدولة مثلهم. غادر حمزة الى الشمال ووصل بصعوبة الى الخرطوم ومنها توجه الى القاهرة لعله يجد طريقا إلى أوروبا مجددا. في كل محطة على طريق غربة حمزة يلتقي بمن يمد له يد المساعدة، الناس كلهم في حال فقيرة لكنها مستورة. في القاهرة يصل حمزة الى منزل الجالية السودانية، ويلتقي بالعم ركابي الذي احتضنه وساعده كثيرا، ركابي كان له رحلة الهجرة أيضا، وكان قد وصل الى فيينا عن طريق فنّانة جاءت لتقيم معرض رسوم في القاهرة، وهو ايضا كان يرسم لكنه يخفي موهبته ورسومه، لكن الرسامة بعد التعارف وتعمق العلاقة واطلاعها على رسومات ركابي، تساعده للذهاب إلى فيينا مع لوحاته، وهناك لاقى اهتماما وباع لوحاته، لكن حبيبته توفيت وعاد الى القاهرة وعاش على ذكرى حبيبته، واستمر بالرسم من وقت لآخر. حمزة سمع حكاية ركابي ومعها سمع اغنية اسمهان عن فيينا وعشقها وقرر الذهاب إليها في النمسا، في القاهرة أيضا التقى حمزة بالاستاذ هاشم واكتشف انه من قرية قريبة من قريته، تغرّب بالخليج، الكل يحبه ويحترمه، وهو يقدم للكلّ يد المساعدة، تعرف على حمزة وأهله ، جده وامه واخوتها، سرد له حكاية العائلة وكيف كان قد احب ام حمزة لكنها زوّجت من غيره، ومن يومها غادر المنطقة وحبه في قلبه لم يمت، علم بموت ام حمزة وبناتها، تضامن مع حمزة وساعده في الاقامة والمال ودعمه مع ركابي حتى يصل الى فيينا. في فيينا كما ذكرنا عمل في توزيع الجرائد، حياة قاسية ومردود قليل، تعب في البداية في تعلم اللغة الالمانية، اكتشف انه بلا اهل هنا ويتيم، القطة اصبحت صديقته و ونيسه، ومن ثم تعرفت عليه ساندرا النمساوية واصبحا بمثابة أصدقاء، اخذته الى بيت النخيل وأعادت إليه جزء من روحه. تتوطد العلاقة بين ساندرا وحمزة ويحبان بعضهما، ساندرا فتاة نمساوية تزوج والدها ووالدتها من بعضهم عن حب وهما موسيقيان، بعد خمس سنوات تترك امها ابوها وتغادر مع ممثل الى امريكا، تعيش ساندرا مع ابوها وجدتها، تعمل وتعيش وتتواصل مع ابوها وجدتها، احبت قبل حمزة لكن حبها فشل، حمزة عندما وصل الى فيينا تعرف على الجالية السودانية هناك، ومنهم “أبو درش” الذي اصبح صديقه، شاب جاء قبل حمزة بزمن سابق يعيش حياته بحرية مطلقة، ممتلئ حكمة وفلسفة ساعد حمزة كثيرا، بالبحث عن فرص عمل. سرعان ما توطدت العلاقة بين حمزة وساندرا، وانتقلا للعيش سوية في بيت ساندرا، يعملان و يزوران بيت النخيل وثالثهم القطّة، وسرعان ما تزوجا بعد فترة من التعايش المشترك. في هذه الفترة تواصل حمزة مع ركابي في القاهرة وفكر أن يعود لزيارته، وزيارة الشريف في جنوب السودان لكن مرضا أصاب ساندرا، سرعان ما تبين انه السرطان، وان الاصابة مستشرية، وان العلاج ممكن لكن نجاتها من الموت صعب، وفعلا تموت ساندرا وقبلها تموت القطة، هكذا بعد أكثر من سنتين لحياة هانئة، ويكتشف حمزة انه عاد يتيما وحيدا في هذه الدنيا، وقرر ان يعود من حيث اتى، السفر الى القاهرة، يحاول ثنيه  صديقة ابو درش لكنه لا يفلح، عند باب المطار وتحت الشتاء القاسي والجو البارد يسمع مواء قطة صغيرة يلتقطها متذكرا قطّته، وتلتقي به فتاة لم تتمكن من السفر لتأخرها وتداعب القطة التي يحملها حمزة، وتقلع طائرته ولا يتمكن من السفر.

هنا تنتهي الرواية.

في تحليلها نقول:

نحن أمام رواية متميزة جدا غزيرة وممتلئة حكايا ومعاني، الرواية كالقطعة الموسيقية تتحرك على ثلاث مستويات، الواقع المعاش اليومي لحمزة، والاسترجاع الدائم لماضيه مغطية كل النواقص لمعرفة حياته بكل تفاصيلها، والاحلام التي يراها بشكل دائم انها حياة موازية مليئة بغرائبيتها وعبرها، سنتعرف على الخاص النفسي لحمزة الانسان السوداني، على الواقع السوداني بفقره وتضامن ناسه، بسلطته المتعالية على الناس، على اهل الجنوب ومشاكلهم مع السلطة والمتمردين، على واقع الفقر والتصحر والجفاف والتخلف وترك الناس ضحايا حياتهم القاسية، نتعرف على النمسا حياة الناس وبعض العنصرية والحياة القاسية لمن يصل إليها من العرب والافارقة، حياة قاع المجتمع، جنّة بطعم الجحيم اوربا تلك، لكن الجانب الانساني بصفته ارادة وتحدي وتضامن بين الناس ينتصر اخيرا، ويجعل الناس قادرين على التكيف وصناعة حياة أفضل رغم كل ظروف الحياة القاسية.

السودان الان يتحرك لصناعة ربيعه وثورته وحياة شعبه الافضل.

ما زالت الحرية والعدالة والكرامة الانسانية والتشاركية السياسية والديمقراطية تحرك أهلنا في البلاد العربية. انه قانون الحياة يتجسد الآن في السودان.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى