سؤال ملح يفرض نفسه على مشهد الثورة السورية على أبواب عامها العاشر، فقد التف السوريون حول ثورة رفعت شعارات “الشعب السوري واحد” وطالبت بالحقوق التي يتطلع إليها كل السوريين، الحرية والكرامة والديمقراطية، فهل نجح النظام في استدراجنا شيئاً فشيئاً إلى الخطاب الضيق والعناوين المضللة أم حافظنا على البوصلة؟
راكم النظام عبر نصف قرن من الاستبداد والقمع خبرة كبيرة في تحويل التنوع الطبيعي الأيديولوجي والطائفي والعرقي والمناطقي إلى تناقضات ثم استثمارها، وكانت لعبة التناقضات ركيزة أساسية من ركائز حكمه، فهو يقدم نفسه للعرب راعي القومية، وللغرب حامي الأقليات، وللإسلاميين راع المقاومة، وللعلمانيين حصن العلمانية، بل إنه ابتدع نعرات حتى بين الأرياف والمدن، وداخل هذه الحلقات حلقات أصغر فأصغر وهكذا، فأصبح جزءاً أساسياً من عمل أجهزته هو إذكاء الخلافات واستثمارها وخلقها إن لم تكن موجودة والأمثلة كثيرة لا متسع لذكرها هنا.
بل إنه استخدم فائض خبرته هذه في سياسته الخارجية، وإدارته لملف لبنان خير مثال على هذه السياسة، لكن سنوات حكمه الأخيرة قبل الثورة وتطورات المنطقة بعد غزو العراق وأحداث لبنان واغتيال الرئيس الحريري؛
كانت كفيلة بتضييق مساحة قدرته على المناورة في هذا المجال وأرغمته على أن يوضح اصطفافه إلى جانب إيران ومشروعها الطائفي.
السوريون بكل شرائحهم كانوا رافضين لهذه السياسة داخلياً وخارجياً فكلنا نذكر تضامن اليسار السوري مع حماة في الثمانينيات ودفعَ ثمناً كبيراً وكذلك حراك النقابات نهاية السبعينيات وبقيت الأصوات الرافضة لهذه السياسة عالية وتصدر من كل الجهات، ومحطات ذلك وأمثلته كثيرة، وصولاً لحراك ربيع وإعلان دمشق، وأحداث العام 2004 وفي كل المحطات أكد السوريون وحدتهم في مواجهتها، ولأن طرق الأرض انسدت وأغلق النظام جميع الأبواب وأصر على مواصلة سياساته الهدامة بل إنه اعتقد أن الظروف مواتية ليعلن أن إيران ومشروعها الطائفي حليفه الأوحد، الأمر الذي كان له تبعاته الداخلية والخارجية الكبرى وهو الذي فتح لإيران باب اختراق الداخل السوري على مصراعيه في السنوات التي سبقت الثورة.
فجاءت الثورة السورية في إحدى صورها رداً على سياسة النظام هذه ورفضاً للأطر الضيقة التي أراد أن يحصر السوريين فيها على حساب الوطنية السورية الجامعة الجريحة بتسليمه للجولان والجريحة بوقوفه إلى جانب إيران في حربها على العراق والجريحة بوقوف النظام (القومي والاشتراكي) إلى جانب الولايات المتحدة في تدمير العراق في حرب الخليج الثانية ثم تغلغل إيران والممارسات الطائفية التي يمقتها الشعب السوري.
فكان شعار الشعب الواحد على رأس شعارات الثورة التي وعت جيداً أنها أمام نظام سيعمل كل ما يستطيع ليفرق الصفوف ويزرع الفتن وأن واجب الثورة هو طرح البديل الأخلاقي والوطني دائماً وأن نبقي البوصلة باتجاه الوطن والديمقراطية والحقوق والحريات والكرامة، وتجاوز الطروحات الضيقة العرقية والمناطقية والطائفية التي تدخلنا في متاهة وكأننا نمضي إلى غايات وأهداف مختلفة.
كما أن النظام أدرك أنه هذه المرة أمام ثورة شعبية عارمة وأن الشعب أيضاً راكم خبرة كبيرة ووعياً بأساليب النظام وأن وحدته ستكون هي الهدف.
وبالفعل استهدف النظام الشريحة الواعية المثقفة بالقتل أو الاعتقال أو الضغط عليها لمغادرة البلاد وفتح المجال كاملاً للأصوات والتوجهات التي رفعت شعارات تؤلب الخارج وتزرع الفرقة في الداخل فانسحب من بعض المناطق لصالح تنظيم داعش وتنظيم PYD الإرهابيين اللذين تربطه بتأسيسيهما ونشاطهما روابط متينة، واستدعى الميليشيات الطائفية ليس فقط لأغراض عسكرية بل ليعطي لمجرى صراعه من أجل البقاء أبعاداً طائفية، واستهدف الأقليات ليزرع الفتنة، وبذل كل جهده “للبننة” المشهد السوري إن صح التعبير، على أمل أن يستفيد من خبرته في إدارة الحرب الأهلية اللبنانية.
ومع توالي سنوات الثورة ومرارة الصراع وحجم الآلام وفظاعة الجرائم التي ارتكبها بحق السوريين وعمق التدخلات الخارجية في المشهد السوري، علينا أن نعترف أن جزءاً من السوريين وقعوا في فخ النظام هذا وأنه نجح في جر البعض للعمل على طروحات وتحت عناوين نختلف عليها على حساب الأهداف المشتركة والهوية الجامعة.
وفيما انكفأ جزء آخر واختار الصمت، بقي كثيرون في صفوف الثورة مصرين على أن البوصلة هي أهداف الثورة الجامعة واستمروا بالتحذير والتنوير ومقاومة هذه التوجهات التي أثخنت جراح الثورة إلى جانب العجز الدولي ودعم حلفاء النظام غير المحدود له.
الامتحان الحقيقي للثورة اليوم في عامها العاشر هو قدرتنا على إنتاج وطرح الخطاب الوطني الجامع الذي يعبّر عن السوريين جميعاً وقدرتنا على طرح البديل الذي يحفظ سورية ولا يجزئها وينقلها للمستقبل الحر الكريم لا إلى المجهول ويستعيد استقلالها الذي فرط به النظام.
للوصول إلى ذلك لا بد لنا من أن نتفق على أن كل طرح يثير الخلاف فإن مكان وزمان الاتفاق عليه هو سورية الحرة القادمة وآلياتها الديمقراطية وأن محاولة أي منا اليوم تثبيت أي شيء تحت اعتقاد أنه الظرف المناسب للاستفادة من توازنات أو تدخلات هي رؤية قصيرة المدى أثبتت الوقائع أنها تلحق أبلغ الضرر في وصول ثورة الشعب لغاياتها.
علينا أن نعيد ترتيب الأولويات فتوضع تلك الجامعة في المقدمة وتؤجل المختلف عليها، علينا إعادة الاعتبار للهوية والخطاب الوطني الجامع في وجه نظام فرط بهما.
وأخيراً علينا أن نعي أننا لا نملك رفاهية الوقت فشعبنا ووطننا وثورتنا اليوم تحيط بها التحديات الجسام ولا بد من المبادرة الشجاعة والتعالي فوق الأنانيات واستلهام الدروس والعبر.
يجب أن يكون للثورة ميثاق جامع لرؤيتها للهوية الوطنية نتفق عليه ثم لنختلف ما شئنا في كيفية تحقيقه حتى نصل إلى “سورية للجميع” نختلف فيها تحت قبة برلمان بوصلته المصلحة الوطنية العليا، اختلافات بلا اعتقال ولا رصاص ولا براميل ولا ميليشيا طائفية.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا