اتفق أطراف النزاع في جزيرة قبرص مرة أخرى على أن لا يتفقوا. لم تكن مفاجأة لأحد لأن الجميع كان يردد قبل التوجه إلى طاولة الحوار في جنيف قبل أيام أن لا جديد تحت الشمس ولا احتمال لتسجيل أي اختراق قي المواقف والمطالب المعروفة والمكررة من قبل القبارصة اليونان والأتراك.
يتمسك القبارصة اليونان بأوراق “الابتزاز الأوروبي” ومحاولات شَرذَمة المواقف في قبرص التركية عبر اللجوء إلى محاولات “تخويف” سكان الجزء الشمالي من احتمال فقدان الدعم المالي وخسارة فرص المواطنة الأوروبية، باتجاه انتزاع تنازلات في موضوع الحل الفدرالي للأزمة ودفع القبارصة الأتراك للتراجع عن قرار إعادة فتح منطقة مراش السياحية والتفاوض على وضع مطار أرجان وميناء ماغوسا تحت الإشراف الأممي.
بينما يسعى القبارصة الأتراك إلى اعتراف دولي بأن المفاوضات لا بد أن تدور بين دولتين وليس بين كيانين في الجزيرة، وأن حصيلة التفاهمات لا بد أن تكرس السيادة الدستورية والسياسية لقبرص الشمالية في أية تسوية محتملة. كان الهدف في العاصمة السويسرية الانتقال بالمحادثات من مرحلة إلى أخرى لكن نقاط التباعد بين الطرفين لم تسمح بذلك.
توجه الرئيس القبرصي التركي أرسين تاتار بصحبة وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو إلى طاولة الحوار في جنيف، وهما يعرفان أن فوز تاتار في انتخابات الرئاسة قبل 6 أشهر في مواجهة مصطفى أقنجي المنفتح على المشروع الفدرالي والعروض الأوروبية؛ منحهما قوة التفاوض اللازمة في مواجهة مخطط إنهاء حلم الدولة المعلنة عام 1983 وإفشال ما بذلته أنقرة من جهود في استقلالية القرار القبرصي التركي وإسقاط مشروع إلحاق قبرص الجزيرة بالهيمنة الأوروبية على مياه شرق المتوسط وإخراجها من معادلة الغاز والطاقة في المنطقة.
من ناحيته أوجز الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيرش حصيلة محادثات مجموعة 5+1 حول ملف الأزمة القبرصية بعد ثلاثة أيام من التفاوض في جنيف بأنها لم تصل إلى نتيجة أو تؤدي إلى أرضية حوار مشترك لانطلاق المباحثات بشكل رسمي. لكنه لم يوصد الباب نهائيا تاركا فسحة من الأمل للقاء جديد يعقد بعد أشهر على أمل حدوث تحول أو انفراجة في المواقف.
قال وزير الخارجية البريطاني دومينيك راب وهو في طريقه إلى العاصمة السويسرية إن المحادثات تتيح فرصة استئناف الحوار الهادف إلى تقديم حل عادل ودائم لقضية قبرص، آملا أن تتعامل جميع الأطراف “بإبداع ومرونة” مع هذه الفرصة.
هناك قناعة بريطانية ظهرت إلى العلن مؤخرا حول أن لا مصلحة للقبارصة اليونان في قبول الطرح التركي أو مواصلة المفاوضات لأنهم داخل المجموعة الأوروبية التي تعطيهم ما يريدون من دعم وثقل سياسي واقتصادي لرفض أي مشروع يضعف نفوذ الاتحاد في الجزيرة. وأوجز الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي تعتبر بلاده إحدى الدول الضامنة الثلاث في الملف القبرصي، نتائج ما جرى بقوله “أنا لا أثق بجنوب قبرص. لا أعتقد أنه يمكننا التوصل إلى نتيجة لأنهم ليسوا صادقين في مواقفهم”.
قناعة أنقرة هي أن القبارصة اليونان يريدون إلهاء الجميع بالتفرعات وتجنب الدخول في النقاش الحقيقي للأزمة نتيجة التشجيع الأوروبي لهم لمواصلة هذه السياسات.
أزمة تتفاعل منذ 6 عقود إلى أن أصبحت تحت تأثير التفاعلات الإقليمية ومسار العلاقات التركية اليونانية والتوازنات القائمة في شرق المتوسط. فما الذي قد يغير في الجمود والتشدد الحاصل في مواقف الطرفين القبرصيين ويقود إلى نقاش حقيقي جديد؟ تغير الذهنية أم السلطة السياسية الحاكمة أم حدوث تطورات إقليمية مفاجئة في العلاقات التركية اليونانية أو ساحة شرق المتوسط.
ما جرى في جنيف هو محاولة اختبار الفرص الجديدة الممكنة في تسجيل نقلة حقيقية في التفاوض، لكن دون نتيجة. كل طرف يعول الآن على داعميه لتسجيل الاختراق الذي قد يقود إلى تحول في مسار الأزمة والمحادثات. العرقلة هي أوروبية قبل أن تكون قبرصية يونانية أو تركية كون أوروبا هي التي تتحمل مسؤولية فشل خطط التسوية عامي 2004 و2017 مع كوفي عنان ومبادرة مونتانا الأممية في سويسرا.
يعتبر قبارصة شمال الجزيرة أن الاتحاد الأوروبي سيعمل على إرضائهم في نهاية الأمر في إطار أية تسوية مقبولة لأنه يحتاج إليهم لإكمال مشروعه الاستراتيجي في الجزيرة. وهذا ما يعكس حقيقة أن التفاهمات القبرصية القبرصية ستكون تحت تأثير التقارب أو التباعد التركي اليوناني في شرق المتوسط ومدى قدرة الاتحاد الأوروبي على فرض استراتيجيته عبر توسيع رقعة تمدده في بوابة عبوره الجديد نحو الشرق الأوسط. لكن هناك تقديرات أوروبية أخرى تقول إنه بقدر ما يتطلع البعض صوب التغير السياسي داخل قسمي الجزيرة أو إلى مفاجئات تقود إلى مواقف تركية ويونانية جديدة تكسر حاجز ترسيخ الوضع القائم الذي لم يعد يرضي كثيرين؛ فهناك من يعول على الرئيس الأميركي الجديد بايدن والعودة الأميركية إلى شرق المتوسط لتبديد “العقبة” القبرصية التي تعترض طريق انطلاق مشاريع التنقيب عن الغاز وخطط تمديد أنابيب الغاز ونقله إلى أوروبا.
حقيقة أولى: لم تعمر جمهورية قبرص المعلنة عام 1960 سوى 3 سنوات فقط لأن القبارصة اليونان رفضوا التسوية المتفق عليها في التقاسم والتحاصص للسلطة وأرادوا تعديل البنود الأساسية في حصة القبارصة الأتراك وتوزيع مقاعد البرلمان وحقوق الرئاسة وتقاسم السلطات داخل المجلس الوزاري وفشلوا في ذلك عام 1963. وهم عادوا وكرروا المحاولة عندما أرسلوا ضباطهم لإسقاط الرئيس مكاريوس عام 1973 وبسط نفوذهم على الجزيرة مما دفع تركيا للتدخل العسكري الفوري لحماية تفاهمات لندن وزيورخ بين الدول الضامنة. واستفادوا من قبول الاتحاد الأوروبي لطلب العضوية عام 1991 ثم ضمهم إلى المجموعة عام 2004 بسرعة البرق بالمقارنة مع طلبات دول أخرى كانت تنتظر قبل الطلب القبرصي اليوناني وما زالت تنتظر حتى اليوم مثل تركيا. وهم من أفشل خطة كوفي عنان التي تم الاتفاق عليها بين أطراف النزاع في الجزيرة وقبول الدول الضامنة عام 2004. ثم عادوا وأسقطوا تفاهمات مونتانا السويسرية عام 2017 رافضين الحل الفدرالي الذي يدافعون عنه اليوم.
حقيقة ثانية: الاتحاد الأوروبي هو المسؤول الأول والأخير على إيصال الأمور إلى هذه الدرجة من التعقيد عند قبوله في العام 2004 أخذ القبارصة اليونان إلى دائرة المجموعة الأوروبية قبل إنهاء النزاع في الجزيرة وتجاهل حقيقة أن قبارصة الجنوب هم من أخلّوا بوعد تنفيذ اتفاقية كوفي عنان في قبرص بعد قبول الغالبية الشمالية في الجزيرة للمقترح.
حقيقة ثالثة: ملف قبرص لا يمكن فصله عن بقية الملفات المحيطة سواء أكان في شرق المتوسط أو ملفات الخلاف التركي اليوناني أو المشروع الأوروبي في المنطقة. والتفاهمات الإقليمية لا بد أن تسبق ملف التسوية في الجزيرة.
ما الذي سيجري الآن؟
إما أن تصعد أوروبا أكثر فأكثر ضد تركيا وتحاول محاصرتها وإضعاف موقفها في ملفات إقليمية يتقدمها شرق المتوسط وليبيا وسوريا، وإما أن تحرّض الرئيس بايدن ليحسم الموضوع على طريقته مستفيدة من التوتر التركي الأميركي، أو قبول الخيار الثالث وحقيقة تبني التوازنات القائمة وأنه لا حل على حساب أنقرة في قبرص وشرق المتوسط.
يقول غوتيرش إن الأمم المتحدة ستواصل جهودها وستكون هناك مبادرة جديدة خلال أشهر. لكن القبارصة الأتراك يؤكدون أنهم لن يدخلوا في أية مفاوضات أو مساومات على حساب ضرورة احترام حقوقهم السيادية والسياسية في الجزيرة وأن محاولات التأثير عليهم أميركياً وأوروبياً للتخلي عن حل الدولتين وقبول التسوية الفدرالية سبق اختبارها أكثر من مرة وانتهت بالفشل نتيجة تمسك القبارصة اليونان بفدرالية عددية تسهل لهم الهيمنة على الجزيرة.
الرهان هذه المرة على اختراق تسجله بريطانيا الدولة الضامنة الثالثة في قبرص واللاعب الأساسي الذي قرر الانسحاب من الجزيرة وتسليمها إلى أصحابها في أواخر الخمسينيات، مع الاحتفاظ بنفوذه العسكري هناك. فوزير الخارجية البريطاني المشارك في المحادثات أغضب اليونانيين المتمسكين بالحل الفدرالي عندما ألمح إلى حل يحترم حقوق القبارصة الأتراك السيادية والسياسية والاقتصادية خصوصا وأن كلامه يأتي وسط تسريبات إعلامية تتحدث عن استعداد لندن لتغيير مواقفها حيال الجزء الشمالي من الجزيرة والذهاب نحو الاعتراف به كدولة مستقلة.
هناك من يردد من وراء الستار أن شكل التسوية الأقرب سيكون عبر إنشاء كونفدرالية على الطريقة السويسرية في إطار عقود واتفاقيات تحمي الخصوصية السيادية والسياسية لكل طرف بضمانة الدول الثلاث المعنية بالملف والرعاية الأممية لهذه التسوية. لكن هناك من يقول بالمقابل باستحالة إقناع أوروبا بهذه الصيغة لأنها ستبقي أنقرة ولندن كدولتين ضامنتين أمام أية طاولة حوار وتفاهمات في رسم وتحديد مستقبل الجزيرة.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا