إلى روح تيسير حج حسين .. كان أخاً ورفيق درب
ارتبط النظام الدولي الذي نشأ بُعيد نهاية الحرب العالمية الثانية بدور غربي رئيس في تشكيله، ما رتّب هيمنة وسيطرة غربيتين على قيادته وتسييره، بوضع قواعده وضبط مساراته، حيث غدا التحالف الغربي بمثابة حكومةٍ عالميةٍ تشرف على هذا النظام. ولكن الصورة اهتزّت بحصول تطوّرات كثيرة في مجالات السياسة والاقتصاد العالميين، وظهور قوى إقليمية ودولية وازنة، عبّرت عن تطلعات وخيارات مغايرة ومخالفة لتلك الغربية، وعن رؤى بديلة للنظام الدولي والعلاقات الدولية السائدة، في تحدٍّ مباشر للهيمنة الأميركية ونظامها أحادي القطب الذي ترتب على انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991.
ومع احتدام الصراع والتنافس، أدركت القوى الجديدة الناهضة وزن الغرب الكبير، الأميركي تحديدا، وصعوبة كسر هيمنته عبر مواجهاتٍ فرديةٍ معزولة، فشكلت بينها أطرا سياسية وأمنية: منظمة شنغهاي للتعاون، التي تأسست عام 2001، من كل من الصين وكازاخستان وقيرغيزستان وروسيا وطاجيكستان وأوزبكستان. واقتصادية: مجموعة البريكس، من البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا. والاتحاد الجمركي الأوراسي، أسس عام 2000، من روسيا وبيلاروسيا وكازاخستان. وتأسيس البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية (أيه. آي. آي. بي)، أسّسته الصين عام 2014 بمشاركة حوالى مائة دولة وبرأس مال قدره مائة مليار دولار. وطرح الصين مبادرة مشروعها العملاق: “طريق واحد حزام واحد”، عام 2013 والبدء بخطواتٍ تنفيذية فيه عام 2017 تمتد حتى عام 2049، الذكرى المئوية لقيام جمهورية الصين الشعبية، لتأمين وصولٍ آمن إلى أسواق آسيا الوسطى وأوروبا بأقصر وقت ومن دون التعرّض لمضايقات الأساطيل الأميركية المتفوّقة التي تجوب البحار والمحيطات، وبدأت بعقد اتفاقات مع حوالي مائة دولة لمد خطوط سكك حديد فائقة السرعة، وتعبيد طرق وإقامة، أو تطوير موانئ ومد أنابيب للنفط والغاز؛ آخرها الاتفاق الاستراتيجي مع إيران لاستثمار 400 مليار دولار فيها خلال 25 عاما مقابل الحصول الثابت على النفط والغاز بسعر تفضيلي، لتشكيل ثقلٍ سياسيٍّ وأمني واقتصادي مواز على طريق كسر الهيمنة الغربية، والدفع نحو صياغة عالم جديد قائم على التعدّدية والندّية. وهذا، مع تراجع القوة الخشنة للولایات المتحدة عن ذروتھا في حقبة ما بعد الحرب الباردة، أطلق تنافسا محموما على تجميع أوراق قوة وزيادتها وزجّها في ساحات الصراع؛ ما قاد إلى توتّرٍ متصاعدٍ في ضوء سعي الدول الناهضة إلى تحدّي التفوق الغربي، والعمل على احتوائه، والحدّ من هيمنته وسيطرته، بمنافسته في مجالات التقنية والاختراعات والاقتصاد والتسلح، والاستحواذ على جزءٍ متزايد من حصته في هذه المجالات بشكل متواتر، وسعي الولايات المتحدة إلى الحفاظ على مكانتها الدولية، عبر إعادة ترتيب أولوياتها لتّتسق مع ما تعتبره مخاطر داهمة على نفوذها ودورها في قيادة النظام الدولي، حيث بات مصير النظام الدولي الغربي مرتبطا بنجاح الولايات المتحدة في وقف تدهوره، وفي السيطرة على التحوّلات والتطورات السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية في العالم.
قاد التدافع الكبير بين الولايات المتحدة والقوى الصاعدة إلى تحوّل في الاستراتيجية الأميركية، حيث برزت مهام أساسية وذات أولوية: احتواء الصين وروسيا. استدعت المهمة الأولى، احتواء الصين، تنشيط علاقاتها مع حلفائها شرق آسيا، وتشكيل تحالف يمتد من اليابان إلى إندونيسيا وسنغافورة، مرورا بكوريا الجنوبية والفيليبين وفيتنام وكمبوديا، وإقامة طوق عسكري وأمني أميركي ياباني أسترالي هندي. واستدعى احتواء روسيا التركيز على سهل شمال أوروبا والبحر الأسود مع دور رئيس لبولندا في الشمال، ورومانيا في الجنوب، مع التفكير بإدراج تركيا في هذا المحور؛ لتعزيز التوجّه المعادي لروسيا. كما سيوفر، بالإضافة إلى ذلك، مركز ثقل مهم في وجه التوسّع الإيراني. واستدعى احتواء إيران التي تحدّت الوجود الأميركي في دول الخليج العربي والعراق، وتحالفت مع روسيا والصين لتحقيق هدفها، طرح فكرة ناتو عربي، أو ناتو إقليمي يجمع الدول العربية وإسرائيل في تحالف واحد.
وهذا دفع الصين وروسيا إلى التقارب، وتنسيق جهودهما السياسية والعسكرية لاحتواء التحرّك الأميركي ضدهما، واستخدام تكتيك العصا والجزرة مع الدول المتحالفة مع الولايات المتحدة لثنيها عن الانسياق وراء التوجه الأميركي، وتوظيف الصين الروابط الاقتصادية المتزايدة مع الفيليبين، والحرب التجارية العميقة بين كوريا الجنوبية واليابان، لتقويض شبكة حلفاء الولايات المتحدة في منطقة المحيط الهادئ، وتحرّك روسيا في دول آسيوية وأفريقية وأميركية لاتينية والقطب الشمالي، لتطويق التحرّك الأميركي وتشتيت قواه.
ارتبط التعاون الصيني الروسي باحتواء التحرّك الأميركي ضدهما، اعتبرتهما استراتيجية الأمن القومي الأميركي، عامي 2015 و2018، عدوتين للولايات المتحدة، وتقييده؛ وتحقيق اختراق في مناطق نفوذها وترويج بديل سياسي لفكرة الليبرالية الغربية، والدعوة إلى إقامة نظام عالمي جديد بدل النظام الحالي، الذي تعتبرانه غربيا، والذي تجاوزته الظروف، وفق دعوة وزير الخارجية، سيرغي لافروف، في مؤتمر الأمن في ميونخ يوم 18/2/2017، وترويج مقولة الدولة – الحضارة في مواجهة المقولة الغربية الدولة – الأمة. نظام دولي قائم على قواعد بديلة أساسها عدم التدخل في شؤون الدول، عبر ترويج الديمقراطية وحقوق الإنسان، وندّية في العلاقات بين الدول، مع إعطاء أولوية للاستقرار والازدهار عبر تبنّي بديل لنموذج التنمية الغربي، “يصلح للدول التي ترغب في تحقيق التنمية مع الحفاظ، في الوقت نفسه، على استقلالها السياسي”، وفق مدير معهد دراسات الإعلام في الأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية، تشانغ شوهوا.
كشف تصاعد الصراع بين الولايات المتحدة وكل من روسيا والصين عن تباين في المصالح وتعقيد في المواقف، فالسعي الأميركي للاحتفاظ بدور القوة الأولى وبنظام دولي وحيدة القطبية جعلها ترى أن من مصلحتها الفصل بين روسيا والصين والعمل على إبعاد الأولى عن الثانية، للحد من فرص تقدّمها لاحتلال الموقع الأول في النظام الدولي، في ضوء المعطيات الواقعية التي تجعل من الصين أكثر خطورة على تفوقها وموقعها الدولي: ثاني اقتصاد في العالم بناتج قومي حوالي 15 تريليون دولار؛ احتياطي نقدي ضخم حوالي ثلاثة تريليونات دولار؛ تطور تقني صاعق؛ خصوصا في مجال الذكاء الاصطناعي؛ موقع جيواستراتيجي وجيوسياسي مؤثر؛ جيش كبير ومتطوّر؛ موازنة دفاع كبيرة؛ 141 مليار دولار؛ سوق هائلة، مليار ونصف المليار من البشر؛ نفوذ واسع في دول كثيرة، حققته بالقروض والاستثمارات؛ رغبة متصاعدة للتنافس على المركز الدولي الأول. وهذا وضعها في موقفٍ دقيقٍ بين احتواء التحدّي الروسي وأساليبه المتعدّدة والمتطورة: أسلحة دقيقة ومتفوقة؛ حروب هجينة؛ حروب سيبرانية؛ وشهوة مفتوحة للتمدّد وبسط السيطرة والنفوذ وتهديد حلفائها في شرق أوروبا، خصوصا دول البلطيق، وبين استثمار نقاط ضعفها: اقتصاد ريعي هش مرتبط بتصدير النفط والغاز، تخلف تقني وإداري؛ تراجع في عدد السكان حوالى 144 مليون نسمة، ومساحات واسعة خالية من السكان؛ 8.3 نسمات في الكيلومتر المربع، أكبر دول العالم بالمساحة 17.575.400 كيلومترا مربعا، ودفعها إلى التراجع، والكفّ عن تحدي الهيمنة الأميركية. وبين العمل على إبعادها عن الصين عبر التفاهم معها والقبول بنظامها التسلطي وانتهاكاتها الواسعة لحقوق الإنسان والفساد المالي واسع الانتشار في نخبتها السياسية ومؤسّساتها المدنية والعسكرية، وغض النظر عن تنمّرها، ما يضرب صدقية سرديتها عن تبنّيها نشر الديمقراطية والدفاع عن حقوق الإنسان، ويحد من وجاهة ضغطها على الصين في هذين الملفين.
في المقابل، تواجه روسيا في تقاربها مع الصين وتنسيق المواقف السياسية والعسكرية معها تعارضا مع توجهها لاسترجاع موقعها في النظام الدولي، واحتلال موقع القطب الثاني مع الولايات المتحدة؛ بين عرقلة التفاهم مع الأخيرة التي تريدها بعيدة عن الصين، وتعميق التناقض معها، وإغلاق باب المساومة والمقايضة حول النفوذ والأدوار، وبين خدمة الصين عبر المساهمة في محاصرة الولايات المتحدة ومواجهتها وتعزيز فرصها لاحتلال موقع القوة الأولى في النظام الدولي الجديد، في ضوء امتلاكها أوراقا أكثر وأوزن، تسمح لها في التقدّم نحو هذا الهدف، فالصين تتقدّم عليها في معظم المجالات، باستثناء الصناعات العسكرية.
وليست الصين بعيدة عن مواجهة تباينات وتعارضات وازنة، في سعيها إلى لعب دور متقدم في النظام الدولي، يوازي قدرتها الاقتصادية والمالية والتقنية، عبر تعديل القواعد الناظمة للنظام الدولي الراهن، أو تغييرها عبر تنافسها وصراعها مع الولايات المتحدة، وتنسيقها وتعاونها مع روسيا، فهي مع عدم استفزاز الولايات المتحدة خدمة لتوجهات روسية، ومع العمل على محاصرتها وتقييد حركتها عبر التعاون والتنسيق، ليس مع روسيا فقط، بل ومع كل الدول الرافضة استمرار الهيمنة والسيطرة الأميركية، وهي ضد صعود روسيا واحتلالها الموقع الثاني في نظام ثنائي القطبية، إلى جانب الولايات المتحدة؛ فتاريخ العلاقات بين الدولتين ليس مريحا أو مطمئنا. وهذا تجلّى في تحاشيها المرور عبر أراضي روسيا ضمن خطط مشروع “طريق واحد حزام واحد”، كما في تعزيز سلاحها البرّي، وحشده قرب الحدود المشتركة بينهما، وتجميدها اتفاقا بـ 400 مليار دولار لشراء نفط وغاز روسي ثلاثين عاما بمد خط أنابيب من سيبيريا إلى شمال الصين.
يثير الصراع على قمة العالم مخاطر كبيرة، خصوصا مع تصاعد احترار الأرض، وأثر ذلك على البيئة والتصحر وبدء ذوبان الجليد في القطبين، الشمالي والجنوبي، وغرق المدن الساحلية، وأوبئة، مثل مرض كورونا الذي تشير التقديرات إلى بقائه سنوات، تهدّد مستقبل البشرية على الأرض، ما يستدعي تعزيز التعاون الدولي لمواجهتها، والحد من تأثيرها المدمر، وما يتطلبه ذلك من الدول الكبرى بالكفّ عن هدر الوقت والطاقات في صراعات عبثية، وإقامة نظام دولي عادل، أساسه القبول بتعدّدية الرؤى والخيارات والتعايش بينها.
المصدر: العربي الجديد