توفي حسن حفار الفنان الحلبي السوري صاحب الحنجرة القويّة الشجيّة، وكأنّه أوتي مزماراً من مزامير داوود، رحل وقد قارب الثمانين من العمر يعرفه الصغير قبل الكبير، ذاع صيته ليس في سورية وحسب بل في الأقطار العربية، فأحيا حفلات كثيرة في غير سورية، كمثل بيروت وتونس والخليج العربي وحتى في باريس، برفقة معلِّمه وصديقه صبري مدلل 1975 و1995 و1999/ وكثيراً ما كان صبري مدلل وحسن حفار بفرقة واحدة فتكون قمة الأداء والتناغم. أذكر حفلته البيروتية ضمن مهرجان موسيقي في نيسان أبريل 2006. يومها أطرب الحضور بالموشحات الأندلسية الرائعة.
دَرَسَ الحفَّار أصول الإنشاد والتجويد والمقامات الموسيقى الشرقية، إضافة إلى إلمامه بالتراث الغنائي العربي الأندلسي بروائعه الغزلية والتراث الحلبي فأندلس وحلب حاضرة في التراث الغنائي العربي من الغزليات إلى الروحانيات من الإنشاد الديني الذي يدور حول الروح وارتقائها وصفائها، وحول البطولات العربية الإسلامية كمعاني تتجسد في الإنشاد الديني، فبرع رحمه الله بالقدود والموشحات الأندلسية والقصائد، وقد جمّلها وأظهر البدائع الطربية المنمّقة، غير المبالغ فيها بحنجرته وعُرَبِه الصوتية وأدائه فكان كرواناً يشدو.
أسّس فرقته الخاصة من منشدين وعازفي آلات موسيقيَّة وإيقاعية، وكان الإيقاع هو الغالب في الإنشاد الدّيني، وراح يُحيي الأمسيات الطربية في حلب ثم انتشر في العواصم العربية وغيرها.
مع رحيل كل رمز وعالم وكل فنان تتكرر المأساة دون أن نستيقظ من غفلتنا فعند الفقد فقط نستشعر قيمة الإنسان الذي كان بيننا، ويبدأ مسلسل التبجيل والرياء عبر الملايين الذين يظهرون حبه، وكان لهم لقطات معه أو تفاخروا بأنه قد أحيا لهم أفراحهم.
لكن في الحقيقة ولا أتكلم هنا عن الفنان حسن حفار، ولكن بالعموم فإن جُلّ من نرثيهم عند الفقدان لو نظرنا إلى حياة هؤلاء تجدهم يعاركون قسوة الحياة المادية وضنكها وسرقة منتجاتهم والتكسّب بها، وهذا يجعل ذوي المواهب تزهد بهذا الطريق، وقسم كبير من الذين يرثوه تجده كان يتجه لحفلات تكلف الواحد مئات الدولات وليس فيها سوى الصخب وبعض المفردات الرخيصة، وهذا تدمير للنفس والمجتمع ولأن يكون الفن رسالة سامية تهذب النفس وتسمو بالروح وتزرع قيم الشجاعة والبطولة مع الصفاء والطرب.
أحيا الحفار الكثير من الحفلات بنشاطه الذاتي وجهوده الذاتية وبدون دعم واحتضان رسمي ولا حتى من المتخمين الأثرياء الذين يطربون بصوته، ويتفاخرون بأنه أحيا حفلاتهم.!
رحل الحفار كمبدع ومازال بيننا مبدعين وفنانين يحتاجون لالتفاتة ودعم، هذا اللون الفني العربي الشرقي التراثي الذي تربّت عليه أجيال وكان نتاج ذروة حضارة اندثرت وبقي إرثها، ذهب الحفار وفي آخر لقاء تلفزيوني له وقد سألوه عن حلب التي تدمرت فقال وفي الحلق غصة: حلب لا يبنيها إلا أبناءها الذين غادروا.
عاش الحفار ثم غادرنا بعيداً عن النفاق للسلطة والتبجيل، ذهب الحفار وبقيت رسالته ونظافته وسمعته الرائعة النقية ليترك تراثاً عظيماً نحتاج من يحمله وينقله للأجيال ويبدع فيه وعليه.
عندما يتشوه تذوق الإنسان السمعي والبصري والروحي يتشوه الإنسان ذاته، والفن رسالة عظيمة تصعد بالإنسان أو تهبط به. غادر الحفار ومازالت بينا نماذج تحتاج منا كل الاهتمام والدعم والدفع، فالدول والشعوب الناهضة تدعم كل الصور التي تميزها وتلفت لها الانتباه وتعبّر عن هويتها دائمًا وأبدًا.