“حرب على النيل”… مصر وإثيوبيا و”الحريق القادم”!

محمد حسين أبو الحسن

تتكثف سحب الدخان فوق صفحة النيل، منذرة بحريق هائل في الأفق. كل الطرق تقود إلى الحرب، إذ تقترب أزمة سد النهضة الإثيوبي من الانفجار. الأسبوع الماضي، أطلق الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، إنذاراً شديد اللهجة باللجوء إلى الخيار العسكري، لو تعرضت نقطة واحدة من حصة بلاده في النيل لأي تهديد، مؤكداً أن ذراع مصر الطويلة قادرة على الوصول إلى أي طرف يتعدى على حصتها، باعتباره تهديداً وجودياً وخطأ أحمرَ. السيسي لم يوجه رسالة لإثيوبيا وحدها، بل للعالم، قائلاً إن المنطقة بالكامل ستتعرض لعدم استقرار. وكان لافتاً أنه أطلق هذا الإنذار من قناة السويس التي لم يتحمل العالم تعطل الملاحة فيها 150 ساعة، بسبب جنوح سفينة. إثيوبيا قابلت الإنذار المصري بتحدٍ، وأكدت استعدادها لكل الاحتمالات، وأنها ستقوم بالملء الثاني في تموز (يوليو) المقبل، حتى من دون اتفاق مع مصر والسودان… هكذا تدخل الأزمة مرحلة الحسم، فالجمر مستعر تحت الرماد، وإن كانت نافذة الأمل لم تغلق بعد، قرب حافة الهاوية!.

غضب الآلهة!

تعكس الإشارات الصادرة عن مصر والسودان عمق القلق من تأثيرات السد الإثيوبي الخطيرة على وجود الدولتين، في ظل التعنت الإثيوبي، على امتداد عشر سنوات من المفاوضات العبثية. هكذا أصبحت الدولتان أمام واقع لا يمكن الرضوخ له، ولا مفر من استبداله بواقع مغاير. نهر النيل بالنسبة إلى المصريين مسألة وجود، هو السر الأعظم في حياتهم، سكنوا ضفافه منذ الأزل، تناغمت معه أحلامهم وأقدارهم، ومعه صنعوا أرقى الحضارات. يصف المؤرخ الإغريقي هيرودوت مصر أنها “هبة النيل”؛ فقد أوجد النهر مجتمعاً زراعياً مستقراً ومبدعاً، وألهم طرائق التفكير لدرء أهوال فيضانه، وأطلق العنان لثورة إبداعية في عقل المصري القديم… فحتى نقاء النهر كان أمراً وصفاءه كان واجباً. تقول إحدى البرديات: “من يلوّث ماء النيل، سيصيبه غضب الآلهة”. تُرى لو عرفت تلك الآلهة المفترضة أن أحدهم سيضعف جريانه ويبقيه ضحلاً، ماذا كانت ستفعل؟!.

خط أحمر

يتعرض صانع القرار المصري لضغوط شعبية تطالبه بوضع حد للتمادي الإثيوبي، والدخول في حرب لإغلاق هذا الملف، وفي هذا السياق، يمكن فهم تصريحات السيسي. وبالنظر إلى الإدراك المصري لعمق أزمة شح المياه، كأزمة وجودية، إذا ما أفلتت بفضل مخزون بحيرة السد العالي من أخطارها عند الملء الثاني للسد، فإنها ستجد نفسها تحت الابتزاز المائي المستمر، لا يمكن استبعاد سيناريو واحد بالقرب من براميل البارود، لذلك يعمل القرار السياسي المصري على مسارات متوازية ويتوقع سيناريو نجاح المفاوضات أو فشلها، مثلما حدث في مفاوضات كينشاسا في الكونغو الديموقراطية، هذا الأسبوع، وقد سربت وسائل إعلام معلومات تفيد بأن مصر حددت جدولاً لاعتبار المفاوضات منتهية مع الجانب الإثيوبي، منتصف نيسان (أبريل) الجاري، وصرح سامح شكري وزير الخارجية أن اجتماعات كينشاسا هي “الفرصة الأخيرة” للاتفاق، قبل الملء.

وقد فندت مصر أكاذيب إثيوبيا في أن استفادتها من مياه النيل “صفر”، وأن مصر تستحوذ على 86 في المئة من مياه النيل… وقال وزير الري الدكتور محمد عبدالعاطي إن حصة بلاده البالغة 55 مليار متر مكعب فقط، في حين تهطل على إثيوبيا كمية 935 مليار متر سنوياً من مياة الأمطار، وتمتلك أكثر من 100 مليون رأس ماشية تستهلك 84 مليار متر مكعب سنوياً، وهو ما يساوي حصة مصر والسودان مجتمعتين، كما تصل حصة إثيوبيا من المياه الزرقاء (المياه الجارية في النهر) إلى 150 مليار متر مكعب سنوياً، منها 55 ملياراً في بحيرة تانا و18 ملياراً خلف السدود القائمة، بخلاف 74 ملياراً في سد النهضة.

المياه سلاح استراتيجي

الموقف الإثيوبي المراوغ المدعوم من قوى إقليمية ودولية يتساوق مع دعوات الرأسمالية العالمية لإقامة “بورصة” أو سوق للمياه، كالبترول، في ظل وجود وفرة مائية لدى دول كإثيوبيا، وشح لدى أخرى كمصر (بلغت حد الفقر المائي منذ سنوات)، مثل بورصة المياه التي جرى تدشينها في كاليفورنيا العام الماضي، بما يحول المياه إلى سلعة و”سلاح استراتيجي” يستخدمه من يقفون وراء إثيوبيا لإكراه مصر على التنازل في ملفات الإقليم أو التخلي عن أجزاء من أرضها لتسوية نزاعات ما أو دفع ثمن حصتها من النيل، وهو ما لن تقبله مصر بأي صورة، لأن نقص مليار متر مياه واحد يعني تشريد مليون مواطن؛ في بلد يقع 40 في المئة من سكانه تحت خط الفقر، وهو أكبر مستورد للقمح في العالم.

أخطار محدقة

وبالنسبة إلى السودان، يتجلى حالياً إدراك سوداني مستجد، لما يمكن أن يتعرض له 20 مليوناً من مواطنيه في أرياف النيل الأزرق، من أخطار محدقة إذا لم يكن هناك اتفاق ملزم قبل الملء الثاني. لم يعد السودان مستعداً لتقبل الرهانات القديمة على فوائد يجنيها من السد؛ خشية أن تداهمه الفيضانات بما لا يطيق، أو ينهار السد نفسه. موقف الخرطوم مثّل تطوراً مهماً في الأزمة، غيّر معادلات وصنع مساراً جديداً، خصوصاً أن السودان يتطلع لمصر، نصفه الآخر، كلما اشتدت أزماته الحدودية مع إثيوبيا أو غيرها، وعندما نجحت القوات السودانية باستعادة الفشقة والقضارف من سيطرة الميليشيات المدعومة من الجيش الإثيوبي، تحدثت القيادات الإثيوبية عن “الطرف الثالث” الذي يحرك الخرطوم.

يرى عضو وفد التفاوض السوداني (المستقيل) الدكتور أحمد المفتي أن منطقة بني شنقول التي بني عليها السد، أراض سودانية أعطتها لإثيوبيا، طبقاً لاتفاقية عام 1902 بشرط ألا تبنى أي منشآت مائية على النيل، ومن هنا، فإن من حق السودان استرداد هذه الأراضي، بعد أن أخلت إثيوبيا ببنودها. وقد اعترف وزير الخارجية الإثيوبي أن سد النهضة غيّر الجغرافيا السياسية للمنطقة؛ أي أنه بات أداة بيد إثيوبيا لقلب الموازين الجيو – استراتيجية للإقليم؛ لذلك يؤكد المفتي أن حرب النيل على الأبواب، منوهاً بأن تدمير السد بالطائرات، سيكون المشهد الافتتاحي لهذه الحرب المحتملة، ستعقبه تداعيات خطيرة، على رأسها تأجيج إثيوبيا حربها الحدودية مع السودان، والتي من المرجح أن تتدخل مصر فيها إلى جانب الخرطوم، لا سيما إذا ما استطاعت إثيوبيا كما تزعم إطلاق صواريخ تستهدف السد العالي، وهو أمر مستبعد بحسب التقديرات العسكرية لإمكانات الجيش الإثيوبي الذي اضطر للاستعانة بعدوه القديم (الجيش الإريتري) في حربه على إقليم تيغراي شمال إثيوبيا. وتنظر القاهرة والخرطوم إلى مساعي إثيوبيا لتحويل النيل “بحيرة داخلية” بوصفه جريمة ضد الإنسانية تهدد السلم الدولي، قد تقضي على حياة 150 مليون إنسان، وإذا كان رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد ارتكب مذابح ضد بني وطنه في تيغراي، وفقاً لتقارير دولية، فكيف يأمن السودانيون والمصريون لنواياه.

براميل البارود

تتطاير الوساطات من كل صوب، في تلك الأوقات الحرجة… بعض الوساطات ليس فوق مستوى الشبهات، يهدف لتوفير الوقت لإثيوبيا ودق إسفين بين مصر والسودان، وهو ما يدركه الطرفان، ويدفعهما في ظل بلطجة أديس أبابا، إلى وضع كل الخيارات على الطاولة. دولياً، تتغاضى الإدارة الأميركية بقيادة الرئيس جو بايدن عن المماطلة الإثيوبية، على النقيض من إدارة دونالد ترامب الذي أبدى، ذات مرة، استغرابه من عدم قيام مصر بقصف سد النهضة الذي يهدد حياة شعبها، عقب تهرب أديس أبابا من التوقيع على “اتفاق واشنطن” الذي وقعته القاهرة بالأحرف الأولى. أما أوروبا والصين وروسيا، فتتجاهل إصرار إثيوبيا على الملء الثاني، ما يصعب على مصر والسودان تغيير الأوضاع بالحرب أو بالمفاوضات، ويتيح لإثيوبيا الهيمنة على النيل.

ولأنه لا يمكن السماح بقتل ملايين البشر، عطشاً وجوعاً، قد تكون الحرب هي الخيار الوحيد لعرقلة المخططات الإثيوبية، كدفاع شرعي عن النفس طبقاً للمواثيق الدولية، وقد وقعت القاهرة والخرطوم اتفاقات تعاون عسكري، وقام رئيس المخابرات الحربية المصرية، هذا الأسبوع، بلقاء المسؤولين السودانيين في الخرطوم، كما تفقد رئيس الأركان المصري القوات المشاركة في التدريب الجوي المشترك “نسور النيل – 2” في قاعدة مروي في السودان، بمشاركة عناصر من قوات الصاعقة.

في المقابل ترسل إثيوبيا إشارات بالمضي نحو الملء الثاني، وتعلن الاستنفار العسكري تأهباً لأي احتمال، لكن الحرب المحتملة قد تعجل بتفكيك إثيوبيا نفسها – تتكون من قوميات متصارعة – إلى دويلات؛ وضع تتخوف منه معظم الدول الإفريقية، والتي قد تتخذ موقفاً مناهضاً لمصر والسودان، ليس اقتناعاً بالموقف الإثيوبي، إنما خوفاً من انتقال شرارة التفكك إليها. الأجواء مشحونة للغاية، وإذا لم يحدث اختراق في أزمة النيل فإن براميل البارود سوف تشتعل، والعواقب ستكون كارثية على الجميع في المنطقة والعالم!.

المصدر: النهار العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى