هل كرت المسبحة الأسدية؟

 د. أحمد زكي

بعد عام ونيف من توقيف ضابط المخابرات السوري السابق إياد الغريب في ألمانيا 2019 أعلنت محكمة كوبلينز في الرابع والعشرين من شباط – فبراير 2021 الحكم على الغريب بالسجن لأربع سنوات ونصف السنة بتهمتي ارتكاب جرائم ضد الإنسانية وتعذيب معتقلين في أفرع الأجهزة الأمنية لنظام الأسد في أول قضية متعلقة بانتهاكات حقوق الإنسان في سوريا عقب اندلاع الثورة.

غير أن المحزن في الأمر هو إعلان المحكمة احتساب مدة العقوبة منذ اعتقال الغريب وليس عقب النطق بالحكم وهو ما يعني أن أمام الغريب ثلاثة أعوام وثلاثة أشهر، بعدها يمكنه التمتع بحياته بعدما أزهق آلاف الحيوات على أرض الشام الحزينة لكنه مثل نقطة ضوء في نفق جرائم النظام الأسدي أن المحاسبة والعقاب يمكن تحقيقهما، مهما طال الزمن في انتظار ما ستسفر عنه محاكمة مواطنه أنور رسلان المتهم في القضية ذاتها.

«مجرمون لا لاجئون»

بدأ السوريون المهجرون منذ 2015 تتبع خطى أركان النظام وشبيحته وقادة الفصائل الطائفية التي ارتكبت المجازر من عراقيين ولبنانيين، علاوة على قادة فصيل الدفاع الوطني لإبقاء الأسد على عرشه المتهاوي وكل من تخضبت يداه بدمائهم الزكية وفضح تحركاتهم، خاصة صفحة «مجرمون لا لاجئون» التي سجل القائمون عليها عشرات الحالات لفرار مرتكبي الانتهاكات بحق السوريين عبر جزيرة كوس اليونانية بداية رحلة الفرار إلى أوروبا، ولم يكن إياد الغريب بمنأى عن الأمر بعدما استشعر انتهاء أهميته لدى نظام السفاح، ففر بجلده من النحر على يد العصابة ويمم وجهه تجاه الفردوس الأوروبي بصحبة زياد حامد الدوية ابن عمته ليساعده في إتمام إجراءات اللجوء لإجادته الألمانية.

كما عادة مرتكبي الجرائم اعتقد الغريب أنه سينجو بجرائمه خاصة بعدما انشق عن نظام الأسد الابن وترك عمله في المخابرات السورية بعد أن احتجز الآلاف وتسبب في مقتل عدد كبير منهم في فرع الخطيب بدمشق المعروف بالفرع 251 وتقدم بطلب لجوء إلى ألمانيا 2018 وتنفس الصعداء بعدما نجح أو كما اعتقد أنه كذلك في إقناع سلطات الهجرة الألمانية بمسوغات لجوئه.

شاهد اثنان من المعتقلين السابقين رسلان والغريب عقب وصولهما، الأول في شوارع برلين، والثاني في أحد القطارات المسافرة بين برلين وإحدى المقاطعات الألمانية نظراً لوجود عدد كبير من السوريين اللاجئين في أوروبا عامة وفي ألمانيا بوجه خاص من ناحية، ومن ناحية أخرى تتمتع ألمانيا بمبدأ الولاية القضائية لمحاسبة مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، تمكن النشطاء الحقوقيون السوريون بمجرد معرفتهم بطلب لجوء الغريب من جمع وثائق وشهادات حول انتهاكات الغريب وقدموها لجهات التحقيق الألمانية التي لم تتأخر من توقيف الغريب بعدما تثبتت من صحة الادعاءات بحقه.

تعاونت المؤسسات القانونية السورية في ألمانيا مع نظيرتها الألمانية وكذا مع المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان الذي يتمتع بخبرة طويلة في ملاحقة الساسة والعسكريين والشركات المتهمين بارتكاب جرائم حرب، وذلك بالتعاون مع فريق مبادرة العدالة لمؤسسة المجتمع المفتوح، واستمعوا لشهادات من تعرضوا للانتهاكات على يد زبانية المخابرات وجلاوزة الأمن العاملين تحت إمرة النظام الأسدي.

تمكن فريق مبادرة العدالة الذي تزعمه المحامي المختص بالانتهاكات وجرائم الحرب باتريك كروكر من تكوين ملف القضية من أقوال الشهود ودعمها بحجج قانونية بالتعاون مع لجنة العدل والمساءلة الدولية التي جمعت ثمانمائة ألف وثيقة حول أماكن احتجاز المعتقلين لدي نظام بشار وأسماء المتعاونين الرئيسيين معه في الانتهاكات والأساليب المتبعة في تعذيب المقبوض عليهم، ومن ثم قدمها للنائب العام الألماني الذي حدد بدوره موعد المحاكمة ومكانها ليحيط بالغريب ورسلان إحاطة السوار بالمعصم، وهكذا وجد الجلادان السابقان لدى النظام السوري نفسيهما في قبضة العدالة وشعرا أن لحظة انتقام الضحايا باتت قاب قوسين أو أدنى.

هيومان رايتس ووتش

زاد الطين بلة تسريب صور المصور السابق في المخابرات العسكرية المنشق عن نظام الأسد المعروف باسم قيصر والتي أكد في عدد منها تورط الغريب في قتل عدد لا بأس به من المعتقلين المنتفضين ضد سلطة بشار الأسد، وتوالت التهم تترى ضد الغريب حتى وصل عدد التهم الموجهة لرجل النظام المخلص لأربعة آلاف تهمة، كان أبرزها عدم ملائمة أماكن الاحتجاز لاستقبال المعتقلين بالإضافة لمعاناة العشرات من السوريين اللاجئين في ألمانيا من ظروف اعتقال تعسفية ومذلة على يد الغريب قبل تمكنهم من الفرار إلى القارة العجوز، وهكذا بدأت المحاكمة في الثالث والعشرين من نيسان-أبريل 2020 وخلالها ضاق الخناق أكثر فأكثر على الغريب خاصة مع كثرة عدد الشهود الذين لجئوا إلى ألمانيا ما لم يجد معه الإنكار نفعاً فكان الحكم بالسجن مصيره الحتمي.

بالحكم على الغريب تحقق تكهن بعض المنظمات الحقوقية مثل هيومان رايتس ووتش التي توقعت سجن الغريب بين ثلاث وخمس عشرة سنة، فيما اعتقدت منظمات عدلية أخرى سجن العقيد أنور رسلان رفيق الغريب في القضية مدى الحياة خاصة أن رتبته كانت أعلى وانتهاكاته أكبر.

سبق قضية الغربي ورسلان نجاح آخر ساهمت فيه الصحافة والإعلام المرئي، وذلك بعدما نجحت وحدة التحقيقات الاستقصائية بقناة «الجزيرة» من تتبع عدد من مرتكبي الانتهاكات تحت مظلة النظام السوري مثل الطبيب علاء م الذي تسبب في مقتل عشرات المعتقلين في مستشفى حمص العسكري، علاوة على إصابة معتقل سابق بعاهة مستديمة خلال إحدى مناوبات التعذيب ضده بإشراف المخابرات، وقتل آخر ضرباً بأنبوب بلاستيكي قبل أن يفر إلى ألمانيا في 2015 حتى تم توقيفه عام 2020 ومحاكمته في محكمة مقاطعة كارلسروه.

وقد حقق سوريو الشتات نجاحات أخرى في ملاحقة زبانية الأسد وجلاديه في عدة دول أخرى، كما حدث في هولندا الجارة الشرقية لألمانيا التي ألغت إقامة عدد من المقاتلين السابقين في فصائل النظام المسلحة بناءً على دعاوى قضائية من لاجئين سوريين قدموا أدلة إدانة هؤلاء.

قوات الدفاع الوطني

نجحت كذلك دعاوى أخرى في إفساد طلبات لجوء لمجرمي النظام في السويد عبر منظمة الكواكبي لحقوق الإنسان التي تمكنت بالتعاون مع المحاميين المخضرمين أنور البني رئيس المركز السوري للدراسات القانونية ورامي حميدو من تتبع شبيح النظام محمد العبد الله الذي قدم طلب لجوء للبلد الاسكندنافي، وألقي القبض عليه وسجن لثمانية أشهر بعد أربع سنوات من ملاحقة الناشطين والحقوقيين السوريين له وكذا في بلجيكا.

كما تمكن ناشطون سوريون مقيمون في كندا من فضح لجوء جورج يوسف الشيخ أحد مقاتلي قوات الدفاع الوطني الموالية لنظام الأسد بعدما نجح منذ عامين في الحصول على اللجوء متذرعاً بالحرب الطاحنة في سوريا ليجد نفسه ملاحقاً بتهم القتل ونهب ممتلكات الفارين من الحرب علاوة على عضويته بعصابة للاتجار بالمخدرات ويدخل السجن عقاباً على جرائمه التي اعتقد أن النسيان قد طواها.

وكان النجاح الأبرز قبل الحكم على إياد الغريب هو الحكم في فرنسا على رفعت الأسد عم الرئيس السوري في الثامن والعشرين من حزيران – يونيو الماضي بتهم تبييض الأموال والاحتيال الضريبي والاختلاس مع مصادرة ممتلكات تصل قيمتها لمليار يورو على الأراضي الفرنسية وتغريمه عشرة ملايين يورو، وعلى الدرب نفسه سارت اسبانيا وصادرت عقارات وشركات بسبعمائة وخمسين مليون يورو، ونال ناهب سوريا الأكبر رامي مخلوف نصيبه من العقاب إذ فرضت عليه عقوبات من وزارة الخزانة الأمريكية بموجب قانون قيصر الذي استهدف أركان نظام الأسد بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في الوقت الذي فرض فيه الأسد الابن الحراسة على شركة سوريا تيل التي يمتلكها مخلوف والتي تسيطر على سوق الاتصالات في الشام.

قانون قيصر الأمريكي كان نتاج عمل دؤوب للمعارضة السورية في الخارج مع المنشقين عن النظام الذين استندوا على تجاربهم وشهاداتهم أمام الكونغرس الأمريكي، وفي القلب منهم مصور المخابرات العسكرية السابق الذي قدم خمسا وخمسين ألف صورة مروعة لأحد عشر ألف معتقل لقوا حتفهم تحت التعذيب الوحشي في مقرات النظام الأمنية خلال جلسة الاستماع.

أقر الكونغرس الأمريكي قانون قيصر في الحادي والثلاثين من كانون الثاني – يناير 2020 وبدأ العمل به في السابع عشر من حزيران – يونيو من العام نفسه وبموجبه:

1- فرضت وزارة الخزانة الأمريكية رقابة على نشاط المصرف المركزي السوري لمنع رأس النظام ورموزه من تهريب أموالهم للخارج أو القيام بأي عمليات لغسيل الأموال.

2 – منع أركان نظام الأسد من التصرف في ممتلكاتهم أو أعمالهم على الأراضي الأمريكية.

3 – معاقبة أي شخص أو شركة أو مؤسسة توفر الدعم المالي أو التقني أو المعلومات بشكل متعمد للنظام السوري.

إذا كان بشار الأسد حكيماً ويتمتع ببقية من عقل، فيجب عليه القفز من السفينة التي كان هو نفسه السبب الرئيسي في إغراقها فكل الأحداث السابقة تؤكد حقيقة واحدة:

مسبحة النظام بدأت في الانفراط ورأس الأسد في طريقها للقطع.

كاتب سوري

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى