في حوار بيني وبينه، قبل أسابيع، كان السفير الأميركي السابق في دمشق، روبرت فورد، يعيد مرارا إن انخراط الولايات المتحدة في سورية ليس في مصلحتها. كان يدافع عن سياسة أميركية انسحابية في سورية، بينما كنت أدافع عن مزيد من الانخراط الأميركي في الشأن السوري، لأن ذلك سيكون في مصلحة البلدين. وما زلت أعتقد أن هذا من مصلحة الولايات المتحدة. ببساطة، لأن الانسحاب يعني ترك سورية فريسة لروسيا وإيران، الخصمين التاريخيين لأميركا، ومدّ الحبل أمام الإرهاب الذي يمكن أن يضرب في كلّ مكان، واحتمال عودة “داعش”، وإغلاق الباب أمام عودة المهجّرين إلى بيوتهم، لتخفيف العبء عن دول اللجوء والمساهمة في إعادة الإعمار.
كانت سياسة الرئيس السابق، ترامب، في سورية تقوم على الفوضى والارتجال وعدم الاتساق، وبينما كان يوجه ضربة استعراضية إلى مطار فارغ في يوم، كان يأمر قواته بالانسحاب في يوم آخر، ما اضطر قادته إلى الكذب عليه. ومع الرئيس بايدن، ستختلف الأمور إلى حدّ كبير. فالرجل ليس هوائيا ولا هاويا، ولديه في السياسة الخارجية باع طويل، من خلال خبرته في مجلس الشيوخ أو نائبا للرئيس أوباما.
بالطبع ثمّة خوف من أن يكون عهد بايدن النسخة الثانية من عهد أوباما الذي كانت سياسته في سورية، بخطوطه الحمراء وتردده، وبالا على السوريين، بيد أن من يراقب سياسات بايدن الداخلية والخارجية يدرك الفرق بين الرجلين، فهو لم يرتمِ في أحضان الإيرانيين كما كنا نخشى، ولم يمالئ الروس ولم يغمض عيونه عن انتهاكات حقوق الإنسان في كلّ مكان في العالم. ويتمتّع برؤية شاملة، ويبني مواقفه على تبصّر في خطواته وأين ستؤدّي به، فيطلب من مساعديه أن يبيّنوا له مآل قراراته حين يتّخذها. ولكن الرجل كما بدا مولعا بإمساك العصا من المنتصف، كما في سياساته الملحوظة مع إيران والسعودية ومصر وتركيا. وأغلب الظن أنه سيتابع هذه السياسة في ما يتعلّق بالشأن السوري، فلا نتوقع منه أن يقبل حلولا جذرية للمأساة السورية. على أن مشكلة الرئيس بايدن الكبرى هي في المعارضة السورية، فمنذ أعلنت نتائج الانتخابات الأميركية في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، كرّس قادة المعارضة طاقتهم ووقتهم لتوقّع المسار الذي ستسير فيه سياسة بايدن وفريقه، لكي يكيّفوا نفسهم معها. والحال أن ذلك لا يساعد السوريين، ولا بايدن في رسم سياسة سورية صحيحة، فمهما بلغت حنكة الرئيس وخبرته، ومهما بلغت معرفة بريت ماكغورك وإيمي كاترونا في الشؤون السورية، يبقى أهل مكّة أدرى بشعابها، وتبقى المعارضة أدرى بمصلحة السوريين.
من واجب المعارضة السورية، إذن، بدل أن ينتظروا سياسة بايدن، أن يقدّموا النصيحة لإدارته في وضع سياسة سورية جديدة. أن يؤكّدوا أهمية تحقيق خرق دبلوماسي، يؤكد قرار مجلس الأمن 2254، بالحديث مباشرة مع الروس للبحث عن قواسم مشتركة تؤمّن مصلحة السوريين جميعهم أولا، ولا تغفل مصالح الأطراف المعنية الأخرى، وبينها مصالح روسيا. وسيتعين على المعارضة أن تؤكّد للرئيس بايدن أن أي حلّ يقبله السوريون لا بدّ أن يعني رحيل بشار الأسد، وتحقيق مبدأ المساءلة لجميع من ارتكب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، سواء أكان من النظام أم من المحسوبين على المعارضة. ويتعيّن على المعارضة أن تتحلّى بالجرأة للقيام بانتقاد ذاتي في هذا المجال، وعدم تقديم الحماية لمن انتهك حقوق الإنسان من المحسوبين عليهم.
ويرتبط بمبدأ المساءلة مبدأ تعزيز الحماية للمدنيين وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين من شتى الأطراف وفي كلّ المعتقلات، وضمان عودة طوعية كريمة وآمنة لمن يريد العودة من المهجّرين واللاجئين. وبالتالي، أي دعم لإعادة الإعمار لا يمكن أن يتمّ قبل التوصّل إلى حلّ سياسي حقيقي يحقّق سورية مدنية ديمقراطية شاملة لجميع مواطنيها، من دون الأسد وعصابته، وتقوم على أساس تداول السلطة وسيادة القانون وضمان الحقوق الأساسية لجميع المواطنين وللجماعات القومية والدينية في سورية وضمان مساواة المرأة مساواة تامة مع الرجل في كلّ المجالات.
وتمتدّ هذه السياسة أبعد من الحدود السورية، لتحقيق إصلاح للتحالفات الإقليمية، بحيث يتمّ العمل مع الشركاء الإقليميين لتسوية الاختلافات الاستراتيجية، بما في ذلك معالجة التداعيات الإنسانية وردع السلوك الإقليمي الخبيث لإيران، من خلال إشراك الشركاء الإقليميين، للمساعدة في ربط السياسة السورية بالسياسة تجاه الدول المجاورة التي تعاني أيضًا من عدم الاستقرار الشديد، مثل لبنان والعراق. ولا يمكن أن يحدث ذلك من دون البدء بتأمين وصول المساعدات الإنسانية إلى مستحقيها، ما يفرض على إدارة بايدن – هاريس مواصلة الضغط الدبلوماسي لضمان استمرار فتح طرق المساعدات عبر الحدود من خلال تجديد قرار مجلس الأمن 2504، وزيادة الدعم للمنظمات غير الحكومية المحلية والدولية العاملة في جميع أنحاء سورية.
كما على المعارضة السورية أن تطالب الرئيس بايدن بطي قرارات ترامب الجائرة، منع اللاجئين السوريين من الوصول إلى الولايات المتحدة. ومع الإقرار بالفضل لبايدن لطيه قرار حظر دخول المسلمين من بعض الدول، فإن هذا القرار وحده غير كاف، ولا بدّ من فتح الحدود أمام نسبة من اللاجئين السوريين، مع دعم إعادة توطين اللاجئين السوريين في بلدان أخرى.
لا يفيد السوريين ولا المعارضة أن تقف موقف المنفعل، وأن تبني مواقفها وسياساتها على أساس التلقّي والاستجابة للمنحى الذي تسير فيه سياسات الحكومات الغربية والإقليمية. ولا يفيد السوريين ولا المعارضة كيلُ الاتهامات للحكومات ورفعُ الشعارات الراديكالية وحملُ المظلومية السورية في وجه الحكومات، فالحكومات الغربية ليست أمهاتنا، وإنما هي هيئات انتخبتها شعوبها لتحقيق مصالح تلك الشعوب بالدرجة الأولى. ومن المهم والذكي أن نبحث لأنفسنا عن التقاطعات الممكنة بين مصالحنا ومصالح تلك الشعوب، لكي نبني وإياها تحالفا يطول زمنه أو يقصر، لكنه قد يؤدّي إلى ما فيه مصلحة السوريين، جميع السوريين، ما عدا القتلة وكبار المجرمين.
المصدر: العربي الجديد