ضمن أعمال “مؤتمر العلوم الاجتماعية والإنسانية” في دورته الثامنة حول “الدولة العربية المعاصرة: التصور، النشأة، الأزمة”، والذي ينظّمه “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات” في الدوحة، عُقدت اليوم الجلسة العاشرة بمشاركة مروان قبلان بورقته “لماذا انهارت الدولة (دولة البعث) في سورية؟”، ومنقذ عثمان آغا بورقته “عودة “الدولة” للجنوب السوري نموذجًا للتفاعل بين الدولة والفاعلين من غير الدولة في سورية”، وأدارتها الباحثة إليزابيث سوزان كسّاب.
تناول قبلان ثلاث مراحل أساسية من عمر الدولة السورية التي يصل عمرها إلى قرابة المئة عام، وفقاً لطبيعة ونوعية النخب التي حكمت، وهي مرحلة حكم النخب المدينية والتي تمتّد لحوالي ثلاثة وأربعين عاماً من آذار/ مارس عام 1920 وتنتهي في آذار/ مارس 1963، وتُعرف عموماً بأنها المرحلة الليبرالية التي سيطرت فيها نخب مدينية في مرحلتي الاستعمار الفرنسي وما بعد الاستقلال، تناوبت خلالها على السلطة عوائل وأعيان المدن الكبرى وكبار ملّاكها والتي تشمل دمشق وحلب وحمص وحماة، بمن فيهم أغلب قادة الانقلابات العسكرية التي وقعت بين عامي 1949 و1961.
وانتقل بعدها إلى المرحلة الثانية التي حكم خلالها أبناء الفلاحين والأرياف، ويمكن أن يطلق عليها حقبة “دولة البعث” بمرحلتيها؛ الحزبية التي امتدّت منذ عام 1963 وحتى سنة 1985، والعائلية التي امتدّت منذ ذلك التاريخ وحتى عام 2011 الذي اعتبره المحاضِر نقطة الانهيار في دولة البعث، واستمرت هذه المرحلة حوالي ثماني وأربعين عاماً، سيطرت خلالها على الحكم نخب سواء أكانت مدنية أو عسكرية ذات خلفيات اجتماعية فلّاحية وقامت بعمل تجريف كامل أو اجتثاث للنخب البرجوازية والمدينية.
أمّا المرحلة الثالثة بحسب قبلان، فهي التي نعيشها الآن ونشأت خلالها سلطات موازية بعد أن ثارت قواعد النظام عليه في الأرياف والطبقات الوسطى المدينية بعد تبنّيه سياسات ليبرالية، وازدادت خلالها التوتّرات الطبقية التي شكّلت العامل الرئيسي وراء انهيار دولة البعث التي يرى أن شرعيتها قامت على ثلاثية ماكس فيبر الشهيرة التي تقوم على الوظيفة الاقتصادية للدولة التي تقوم بتوفير الخدمات الرئيسية للمجتمع من صحة وتعليم وغيرهما وتحقيق حد أدنى من الأمان الاجتماعي للطبقات الأكثر هشاشة، والوظيفة الأمنية من خلال حفظ الدولة للأمن والنظام العام داخلياً، وتحتكر بذلك مشروعية استخدام القوة، والوظيفة الأيديولوجية والتي تعني تكريس رؤية الدولة ونهجها الفكري والسياسي في المجتمع.
ونبّه المحاضر إلى أن خطاب البعث المستند إلى العروبة والمقاومة تعرّض إلى هزّة كبيرة بعد انتهاء الحرب الباردة حيث واجه النظام صعوبة في تفسير تحالفه مع دولة غير عربية هي إيران ضد دولة عربية هي العراق خلال الحرب العراقية الإيرانية، ودخل خطابه القومي المعادي للغرب و”إسرائيل” في أزمة شاملة بعد أن انضمت سورية إلى التحالف الدولي الذي قادته الولايات المتحدة لإخراج العراق من الكويت عام 1991، ثم موافقتها للدخول في عملية السلام في السنة نفسها، كما فقد النظام السيطرة على وسائل الإعلام وتدفق المعلومات بعد دخول البث الفضائي والإنترنت منذ منتصف التسعينيات على يد بشار الأسد من أجل تمرير مشروعه في لبرلة الاقتصاد.
وأشار إلى تآكل المصادر الشرعية للنظام منذ الثمانينيات؛ حيث بدأت موارده بالنضوب بسبب سياساته الداخلية والخارجية، ثم بعد ذهابه إلى سياسات اقتصادية أكثر تحرراً، ما سبب تآكل قاعدة الدعم التي يعتمد عليها تقليدياً من الفلاحين، ولم يعد الحزب يشكّل سلماً للارتقاء الوظيفي بعد تعرضه لتجريف داخلي، وحين قامت الثورة لم يكن للنظام أية وسائل للتواصل مع القواعد التي كان يدعي تمثيلها.
من جهته، انطلق عثمان آغا في ورقته من بعض المؤشرات والظواهر التي حدثت بعد انطلاق الثورة عام 2011، في محاولة لتحليلها والنظر في نتائجها المحتملة على شكل دولة ما بعد الصراع، ومن أهمها اختراق الدولة في عدّة مستويات، أوله من أسفل إلى أعلى من خلال صعود فاعلين نازعوا الدولة على صلاحياتها ومهامها أو هم أنفسهم لعبوا دور الدولة في أزمنة وأماكن محددة.
إلى جانب اختراق من أعلى إلى أسفل، بحسب المحاضِر، وتمثّل بسيطرة فاعلين خارجيين على مفاصل مهمة داخل الدولة، وتحديداً تفاصيل الإدارة المحلية والأمن الداخلي، بحيث يصبح من الصعب التمييز أحياناً بين الدولة وبين الفاعل الخارجي لتداخلهما الشديد، وتصبح الدولة مجرّد فاعل إلى جانب فاعلين آخرين أقوى منها في بعض القطاعات.
وأشار عثمان آغا إلى أنه يجب النظر إلى هؤلاء الفاعلين ككيانات مستقلة لها أهدافها وأدواتها المستقلة عن الدولة وحتى عن الفاعلين الخارجيين، وإن التقت أهدافها ومصالحها مع أهداف ومصالح الدولة والفاعلين الخارجيين في بعض المساحات، وهم ليسوا بديلاً عن الدولة على الأقل خلال المرحلة الحالية، كما اختلفت سياسة النظام تجاه هؤلاء الفاعلين بشكل كبير خلال سنوات الثورة، حيث تراوحت بين الصدام الكامل وبين الاندماج لعوامل مختلفة، فقد اعتمد عليهم في فترات معينة للقيام بمهمات يصعب عليه القيام بها.
وحول حالة الجنوب السوري موضوع الورقة، رأى المحاضِر أن العلاقة بين الدولة والفاعل من غير الدولة تبدأ من العداوة الكاملة وتنتهي بالوئام، حيث يبدأ أحدهما بإفناء الآخر ثم يضطر الطرفان إلى التكيف أو التعايش مع بعضهما؛ حيث يستفيد النظام من وجود الفاعلين لتحقيق أهداف مشتركة، وصولاً إلى الاندماج التام بينهما.
كما تناول عثمان آغا موقع الفاعل من غير الدولة القانوني بالنسبة للدولة، حيث يكون خاضعاً إدارياً للدولة أو يعمل بالتوازي معها، أو يشكل بديلاً عنها، واختار عشر حالات دراسية منذ عودة النظام إلى الجنوب عام 2018، ويظهر أنه جرى إدخال بعض فصائل الجيش الحرّ إلى الجبهة الجنوبية أو ما يُعرف باللواء الثامن، وجرى أيضاً تجنيد بعض قيادات الجيش الحرّ ضمن الميليشيات المحلية المدعومة من النظام الذي قام من جهة أخرى بضمّ قوات الدفاع الوطني التي أسّسها سابقاً إلى الجيش، إلى جانب تجنيد بعض من قياداته في الجبهة الجنوبية، ورغم انضمامها لكنها ظلت مستقلة عن الدولة في اتخاذ قراراتها وتمويلها وانسجامها الطائفي وعلاقتها مع الفاعلين الخارجيين وخاصة إيران و”حزب الله”، بينما تعايش النظام مع الميليشيات الأجنبية وفتح المجال لمنظمات المجتمع المدني للعمل في جنوب سورية.
المصدر: العربي الجديد