مع ازدياد تفشي الجوع في أوساط دمشق، توسعت دائرة مرتكبي جرائم السرقة لتشمل أشخاصاً سقطوا في هوة الفقر، واندفعوا إليها لتأمين الطعام لبطونهم الفارغة، باتت عائلات كثيرة في أحياء دمشق الشعبية تشكو من سرقة أحذية أفرادها أثناء إبقائها أمام أبواب الشقق السكنية. تقول سناء، وهي سيدة في العقد الرابع، لـ«الشرق الأوسط»، إنها فوجئت في ساعات المساء عند خروجها من البيت بعدم وجود حذائها وكثير من أحذية أولادها أمام باب الشقة، ما دفعها للاستفسار من بناتها إن كن أدخلنها إلى الشقة، لكنهن نفين ذلك، «ليتبين أنها سُرقت».
وتوضح السيدة أن السرقات تزداد عاماً بعد عام منذ السنة الأولى للحرب، وأنه مع اشتداد موجات الغلاء في الأسواق والفقر، لوحظ أطفال غرباء أعمارهم ما بين 10 و12 عاماً في الشارع، تبدو عليهم ملامح الفقر الشديد والجوع، ويجلسون على «الرتبات» المنشأة على جانبي الأبواب الرئيسية للأبنية.
وترجح السيدة أن يكون هؤلاء الأطفال هم من يسرقون الأحذية من أمام أبواب الشقق السكنية عندما يجدون الفرصة مناسبة بهدف بيعها، وتقول: «لا يوجد في هذه الأحياء نواطير للأبنية وكثير من السكان يتركون الأبواب مفتوحة لدى خروجهم أو دخولهم فتصبح الظروف مهيأة لهؤلاء الأطفال لسرقة الأحذية».
كانت «هيومن رايتس ووتش» أعلنت أول من أمس، أن تقاعس الحكومة السورية عن معالجة أزمة الخبز بصورة عادلة وملائمة «يدفع بملايين السوريين نحو الجوع».
وأدت الأزمة الاقتصادية المتفاقمة والتدمير الكبير للبنية التحتية من قبل الحكومة وحلفائها في المقام الأول طوال عقد من النزاع، «إلى نقص حاد في القمح، وفاقمت الحكومة الأزمة؛ إذ سمحت بالتمييز في توزيع الخبز، إلى جانب الفساد والقيود على كمية الخبز المدعوم التي يمكن للناس شراؤها، وهي عوامل أدت إلى الجوع»، حسب تقرير للمنظمة.
ونقلت عن الباحثة في المنظمة سارة الكيالي قولها: «يقول المسؤولون السوريون، إن ضمان حصول الجميع على ما يكفي من الخبز هو أولوية، لكن أفعالهم تظهر عكس ذلك. الملايين في سوريا يعيشون الجوع، ويرجع ذلك بشكل كبير إلى تقصير الحكومة في معالجة أزمة الخبز التي أسهمت في خلقها».
وقبل2011، كانت سوريا تنتج ما يكفي من القمح لتلبية الاستهلاك المحلي، بمتوسط بين 3.5 و4.1 مليون طن سنوياً. وكان الأشخاص ذوو الدخل المحدود خصوصاً يميلون إلى الاعتماد على الخبز باعتباره أرخص المواد الغذائية وأكثرها إشباعاً. لكن النزاع المسلح أدى إلى انخفاض إنتاج القمح المحلي، وفي الوقت نفسه دفع الملايين إلى الفقر؛ ما جعلهم أكثر اعتماداً على الخبز في نظامهم الغذائي.
وخلال سنوات الحرب العشر، ازدادت في دمشق وعموم مناطق سيطرة الحكومة، جرائم سرقة السيارات والأموال والمنازل وأجهزة الهاتف الجوال. كما انتشرت ظاهرة «التعفيش» وهي سرقة قطع الأثاث والأدوات المنزلية من قبل عناصر في الجيش النظامي والميليشيات الموالية للحكومة من المنازل في المناطق التي يستعيدون السيطرة عليها، وإقامة أسواق خاصة لبيعها، إضافة إلى انتشار بسطات على الأرصفة لبيع الأدوات المنزلية الخفيفة المسروقة، مثل الصحون الزجاجية والكؤوس والفناجين والملاعق وبعض الملابس والأحذية وخلاطات المياه والأدوات الكهربائية وغيرها.
أحد أصحاب بسطات الرصيف، يؤكد لـ«الشرق الأوسط»، ازدياد الأشخاص الذين يتوافدون إليه ويعرضون عليه شراء أحذية مستعملة، لكنه يوضح أن المتوافدين إليه بينهم أطفال وشباب ورجال وحتى فتيات ونساء. ويضيف أن طريقة العرض من قبل البعض توحي بأن الأحذية التي يرغبون ببيعها هي ملكهم الخاص ويريدون بيعها لأنهم لم يعودوا يرغبون بها، ذلك أنهم يفاصلون جداً على السعر، بينما البعض الآخر يريد البيع بـ«أي سعر مهما كان، ولذلك يشك بأن تكون الأحذية التي بحوزتهم مسروقة»، ويضيف: «كثير من الأطفال يتوسلون لشراء القطعة منهم ولو بـ500 أو 1000 ليرة، ويحلفون أنهم يريدون شراء خبز أو سندويتش أو دواء».
ويصل ثمن الحذاء الرجالي الأجنبي ذي النوعية الجيدة حالياً في المحال التجارية إلى ما بين 60 و100 ألف ليرة، بينما الحذاء المتوسط المصنّع محلياً ما بين 25 و30 ألف ليرة. (الدولار الأميركي يساوي 4100 ليرة).
وفي صورة أخرى، تؤشر على ازدياد جرائم السرقة بسبب الجوع، يتحدث مواطنون من مناطق في جنوب شرقي دمشق عن انتشار سرقة الكابلات النحاسية الناقلة للتيار الكهربائي من أمام المنازل وكذلك مضخات سحب المياه من مداخل الأبنية. ويقول أحدهم لـ«الشرق الأوسط»: «بعض أصحاب المنازل وأثناء ذهابهم إلى أعمالهم في الصباح يجدون عدداً من المضخات مفكوكة (غير موجودة) وكذلك أسلاك الكهرباء الناقلة للتيار الكهربائي والممدودة من الخزان الفرعي إلى المنازل مسروقة». ويضيف: «الثراء ليس الدافع وراء مثل هذه السرقات وإنما الجوع».
ويعيش نحو 90 في المائة من المقيمين داخل مناطق سيطرة الحكومة تحت خط الفقر، في وقت تزداد فيه مشكلة الجوع يوماً بعد آخر، مع تواصل فقدان مداخيل العائلات الشهرية لجزء كبير من قيمتها، بسبب الانهيار القياسي التاريخي لسعر صرف الليرة السورية أمام الدولار الأميركي، حيث سجل في اليومين الماضيين نحو 4350 ليرة، بعدما كان نحو 50 ليرة قبل عام 2011. وباتت غالبية المواطنين في مناطق سيطرة الحكومة تعيش أوضاعاً معيشية هي الأسوأ في تاريخ سوريا، بسبب الارتفاع الجنوني للأسعار، خصوصاً منها المواد الغذائية، حيث ارتفعت 33 مرة، بينما لا يتعدى متوسط الراتب الشهري لموظفي القطاع العام 20 دولاراً، ولموظفي القطاع الخاص 50 دولاراً، بعدما كان راتب الموظف الحكومي قبل سنوات الحرب نحو 600 دولار.
وتشهد مناطق سيطرة الحكومة بعد 10 سنوات من الحرب، أزمة اقتصادية خانقة فاقمها أكثر تطبيق «قانون قيصر» منذ 17 يونيو (حزيران) الماضي، وحزم العقوبات التي تبعته، إذ تفاقمت بشكل كبير أزمات توفر الطحين والبنزين والمازوت والغاز المنزلي والدواء والانقطاع الطويل للكهرباء وأزمة توفر وسائل النقل العامة والخاصة بسبب نقص الوقود. كما أسهمت تدابير التصدي لوباء «كوفيد – 19»، والانهيار الاقتصادي المتسارع في لبنان المجاور، حيث يودع سوريون كثر أموالهم، في إساءة الوضع بمناطق سيطرة الحكومة السورية.
وتحتل سوريا المركز العاشر عالمياً من حيث ارتكاب الجرائم، وفقاً لدراسة عالمية أعدها العام الماضي موقع «NUMBEO» المتخصص بالإحصائيات حول العالم وجمع البيانات، فيما صنفت لعام 2019 كأكثر دولة خطرة بين الدول العربية من حيث معدلات الجريمة.
وبحسب الموقع، تعد سوريا من الدول التي يسجل فيها مؤشر الجريمة مستوى عالياً، إذ سجلت 68.09 نقطة من أصل 120 نقطة، في حين انخفض مؤشر الأمان إلى 31.91 في المائة. وعن أسباب انتشار الجرائم، قال الباحث الاجتماعي سهيل عرفان، في تصريحات نشرت مؤخراً، إن الفقر والتخوف من المجاعة يضغطان على الناس ويدفعانهم لارتكاب جرائم، مثل السرقة والقتل والخطف، منوهاً بأن الحرب تسببت بتصدع اجتماعي وأزمة إنسانية غيرت مبادئ الناس وقيمهم التي كان يعززها الترابط الاجتماعي.
المصدر: الشرق الأوسط