من المستحيل اليوم في دمشق أو حلب أن نأكل شيئاً في الشارع، سيلحق بنا أطفال ورجال ونساء يطلبون منّا، بإلحاح شديد، إطعامهم. لقد بدأ هذا الأمر ملحوظاً مع بدايات عمليات النزوح الواسعة نتيجة أعمال النظام العسكرية ضدّ كثير من المدن السورية قبل أعوام، إلا أنّ الوضع اليوم أكثر سوءاً بكثير.
عبر الإحصائيات الأممية وغير الحكومية، نعرف أن تسعين بالمئة من السوريين تحت خطّ الفقر، وأنّ الملايين منهم يعيشون فقراً مُدقِعاً، وأنّ الملايين يُعانون من انعدام الأمن الغذائي، وأنّ ملايين الأطفال لا يحظون بتعليم جيّد، ومثلُهم لا يحصلون على أيّ شكل من أشكال التعليم.
في مختلف أنحاء البلاد، لم يعد يستجلب الملاحظة أن نشاهد الكثيرين يأكلون من حاويات القمامة. سنمرّ بجانبهم كما نمرّ يومياً من أمام إشارة مرورية معطَّلة، دون أن يستوقفنا شيء. سنسمع أيضاً عن رجل مات على طابور البنزين، وعن امرأة وافاها الأجل بانتظار حصولها على الخبز. سنصدّق هذه الأخبار دون حاجة للتثبُّت منها، لأنّنا ندرك أنّ مثل هذا حصل ويحصل.
ويمكننا، في مناطق سيطرة النظام، أن نشاهد عناصر من الشرطة أو من عمال الأفران يحملون خراطيم يضربون بها الناس لتنظيم الطوابير، وأن نراقبهم يُسمِعون المئات والآلاف المنتظِرين للحصول على بعض المخصَّصات شتائم متنوّعة لا تستدعي أيَّ رد، كما لو أنّ المشتومين أشباح تصطفّ بينهم، في الحيّز اللا-مرئيّ واللا-محسوس، وليسوا هم الأشخاص أنفسهم.
يقول لي صديق ما يزال في دمشق: ما الضير في أن نُشتَم جميعاً؟ ألا يجدر بنا التعامل مع هذه الشتائم بوصفها نافذة على المساواة التي حلُمنا بها قبل عشر سنين! ستقول لي إنّا أردنا الكرامة قبل المساواة، وسأقول لك إنّ الخبز كرامة، وإنّ الجوع يسحقُ في الإنسان ما لا يسحقه البارود.
* * * * *
في آخر إحاطة قدّمها إلى مجلس الأمن الدولي، يقول وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية إنّ أكثر من نصف مليون طفل سوري دون سن الخامسة يعانون من التقزُّم نتيجة سوء التغذية المُزمن، وإنّ النسبة ترتفع في الشمالَين الشرقي والغربي من البلاد، حيث واحد من كلّ ثلاثة أطفال مصاب بالتقزُّم، وحيث نصف الأَسِرّة في بعض مشافي هذه المناطق يشغلها أطفال يعانون من سوء تغذية مُزمِن، يموت بعضهم، ومن يبقى على قيد الحياة ستُرافقهم آثار سوء التغذية مدى الحياة، وبشكل لا رجعة فيه، وسيتأثّر نموهم وتعليمهم.
يشير الوكيل مارك لوكوك في نفس الإحاطة إلى أنّ 12.4 مليون سوري، وهم 60 بالمئة من الشعب المقيم في البلاد، لا يحصلون بانتظام على ما يكفي من الغذاء الآمن والمُغذّي.
هذه الأرقام صادمة، ولكنها ليست مُفاجِئة بالنسبة له. من جانبها، قالت اليونيسيف بمناسبة مرور عقد على «النزاع السوري» إنّ 90 بالمئة من الأطفال السوريين بحاجة إلى الدعم الإنساني، وإنّها تناشد الدول للحصول على 1.4 مليار دولار لتنفيذ خطط استجابتها في العام 2021 في سوريا ودول الجوار السوري التي تؤوي اللاجئين.
إذن، تقول عين المشاهد والإحصائيات الأشياء نفسها تقريباً: إنّ شعباً كاملاً يعيش ما يشبه مواتاً جماعياً: جوعاً وفاقة وانعداماً لأساسيات الوجود البشري، وينبغي أن يتوفّر له الطعام والدواء والمسكن لكي يتمكّن من العيش، ولكن من دون القدرة على محو الأضرار التي لحقت به جرّاء مرارات العقد الأخير. ويمكننا أن نطالع تقارير كثيرة من جهات أممية عاملة في سوريا، مثل تقرير هيومن رايتس ووتش الأخير، تقول جميعها إن حجم المساعدات الواصل إلى المنظمات لا يغطي سوى أجزاء بسيطة من احتياجات المستفيدين، في حين أنّ النظام السوري وروسيا يعرقلون وصول ما يتوفّر من المساعدات بشكل متعمّد.
* * * * *
تنقسم سوريا هذه الأيام إلى سوريّات متفاوتة الحجم والتعداد السكاني، وليس من بين السوريات واحدة أفضل من أخرى، فرثاثة الأحوال المعيشية هي المشترك الأبرز بين مناطق النفوذ والسيطرة المختلفة. وإذا كان الوضع في مناطق سيطرة النظام مأساوياً على نحو رهيب بحسب ما ترويه الصور والشهادات القادمة من هناك، فهو لا يقلّ سوءاً في المناطق التي تسيطر عليها أطراف أخرى، لا سيما في مخيمات الشمال البالغ عددها 1,300 مخيم تقريباً، يقطنها ما يزيد على مليون إنسان، يعانون شُحّاً في كلّ ما يتّصل بمقومات العيش الكريم، وفي مقدّمتها الطعام والطبابة والمسكن الآمن.
وقد يبدو للبعض أنّ الحال في مناطق النفوذ التركي أو في مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) أفضل من باقي المناطق، إلا أنّ ذلك ليس دقيقاً أبداً. يمكن القول إنّ شريحةً من السوريين الذين يتقاضون رواتب بالليرة التركية، نتيجة عملهم في المؤسسات الممولة تركيّاً، قادرون على تأمين احتياجاتهم بشكل أفضل من غيرهم، إلا أنهم شريحة قليلة العدد، يُضاف إليها بعض العاملين في عموم المنظمات ذات التمويل الأجنبي في الشمال، وهؤلاء شريحة أقل عدداً من الأولى.
أما في مناطق سيطرة قسد، ورغم الحديث عن استقرار نسبي وعن وجود الغلال الزراعية والنفط والغاز، ونشاط عدد من المنظمات الأجنبية العاملة هناك، إلا أنّ العوز والفقر أكبر من أن تُخطئهما العين، ولا سيما في ظلّ أشكال من السياسة التمييزية تتبعُها مؤسسات قسد، تكاد تجعل الكثير من الوظائف حكراً على فئات محددة، مما بات يثير النقمة على الكوادر الممسكة بزمام الأمور في الهياكل الإدارية للإدارات الذاتية.
بوسعنا أن نُضيف إلى المشهد فساداً ينخر مجمل المؤسسات «الرسمية» على امتداد البلاد، وبغضّ النظر عن الجهة التي تتبع إليها هذه المؤسسات.
* * * * *
اليوم، بالتزامن مع الذكرى العاشرة للثورة السورية، وإزاء هذا المشهد القاتم الذي يعيشه سكان البلاد بحسب ما تشرح الأرقام، وإزاء انهيارات متواصلة للّيرة السورية ومرشَّحة للتطور، ومع تعذُّر الوصول إلى أيّ حلّ سياسيّ يُفضي إلى حلحلة الأزمة الإنسانية ورفع العقوبات المفروضة على السوريين نتيجة تعنُّت النظام وداعميه، ما الذي يمكن فعله؟ كيف بإمكان السوريين، وهنا أعني على وجه الخصوص شرائح معينة من اللاجئين في دول جوار سوريا، وما يزيد على المليون لاجئ سوري في الدول الأوروبية، فضلاً عن الموجودين في دول الخليج والولايات المتحدة وأستراليا وكندا، أن يخفّفوا من أزمة أهلهم المعيشية؟ أزعم أنّه لا بدّ من تحرك أهلي تضامني يساهم في التخفيف عن الناس؛ تحرك ينطلق من حيثية أنْ لا حكومات «معنيّة» أو قادرة على تقديم المساعدة، لا سيما الحكومات المحلية التابعة لنظام الأسد وباقي الأطراف الموجودة على الأرض.
بالتواصل مع فريق ملهم التطوعي، أوضح مسؤول القسم الإعلامي عبد الله خطيب أنّ نسبة التبرعات بحسب الجنسية لا يمكن تحديدها بدقّة، إلا أنه قدّر نسبة الأموال القادمة من سوريين مقيمين خارج البلاد، خلال الأشهر المنقضية من العام الحالي، بحدود 65% من إجمالي التبرعات التي تلقّاها الفريق في حملاته المتواصلة. هذا الرقم، غير الدقيق تماماً، يُظهر أنّ نسبة كبيرة من السوريين يَسعَون بشكل جدي إلى مساعدة من تبقّى داخل البلاد ممن هم خارج حلقاتهم الأضيق المشتملة على الأهل والمعارف والأصدقاء، وهؤلاء المتبرعون، فضلاً عن تبرعاتهم لفريق ملهم وغيره من المنظمات، يرسلون بشكل مباشر الأموال إلى أهلهم ومعارفهم بشكل دوري.
ويمكن لنا في هذا السياق إعطاء مثال آخر عن شكل من التضامن الأهلي الذي نعنيه، وهو حملة أهلية قام بها عدد من أبناء وبنات محافظة دير الزور، هدفها نقل بعض العوائل الديرية التي تسكن الخيام في الشمال السوري إلى وحدات سكنية إسمنتية، بشكل يجعل من حياتهم أكثر استقراراً وآدمية. جمعت الحملة خلال أيام قليلة مبالغ كافية لإسكان عشرات العائلات، ولاقت تجاوباً من سوريين من أبناء المحافظة نفسها ومن المحافظات السورية الأخرى، بل كان من بين المشاركين في هذه الحملة، التي أطلقها أفراد لا ينتمون إلى مؤسسة، متبرعون من جنسيات عربية وأجنبية. شجعت هذه الحملة أبناء الرقة على تنظيم حملة مشابهة من حيث المبدأ، ولكنها تهدف إلى الاستجابة لمتطلبات أخرى متعلّقة باحتياجات الأسر الفقيرة التي ما زالت تقيم في الرقة.
نحن إذن لا نفتقر إلى المتبرعين بقدر ما نفتقر إلى سبل تحفيزهم والوصول إليهم، وبإمكاننا كسوريين المساهمة في جمع أموال أكبر لتلبية احتياجات الناس بغضّ النظر عن الاستجابة الأممية وتبرعات الدول المانحة التي لا غنى عنها. ما نحتاجه هو حشد أكبر الجهود لتشكيل أكبر قدر ممكن من الفِرَق التطوعية الصغيرة، صفريّة التكاليف الإدارية والتنظيمية، التي تدعم عدداً محدوداً من العوائل، ولتشكيل المزيد من الفرق الكبيرة الشبيهة بفريق ملهم التطوعي، يقوم على تبنّيها شخصيات عامة ومشاهير من سوريا ومن حول العالم، لتكون تحت الضوء ومحطّ ثقة منذ انطلاقتها، على أن تعمل هذه الفرق على بناء شبكات قادرة على التبرع وعلى الوصول إلى المتبرعين على نطاق واسع. وفي هذا السياق، لا بدّ من الاستفادة من شبكات العلاقات الجديدة التي كوّنها السوريون في دول اللجوء، وتوسيع الاستجابة للأزمة الإنسانية من سياقها السوري إلى السياق العالمي، ومن سياق المنظمات الأممية والدولية إلى سياق الأفراد والجماعات.
وبإمكان الكثير من الفِرَق أن تستخدم وجودها على الأراضي الأوروبية وعلاقاتها وارتباطاتها هناك في الحصول على تراخيص تسمح بجمع التبرعات بشكل قانوني، إذ تعطي هذه التراخيص الموثوقية المطلوبة للتبرع، وتستفيد من التخفيضات الضريبية التي تُعطى للمتبرعين، لا سيما أن عدداً من الدول الأوروبية تمنح تخفيضات ضريبية تتجاوز أحياناً 65% من قيمة المبالغ المُتبرَّع بها للجهات غير الربحية والعاملة في حقول الإغاثة والتنمية وغيرها.
ولا يكفي أن تكون الأموال التي يتم جمعها موجّهة لتأمين متطلبات العيش اليومي ومهدَّدة دوماً بالانقطاع مع غياب المتبرّع، بل أن يُصار من خلالها إلى تمكين الأسر المحتاجة من تأمين قوتها بنفسها مستقبلاً، إذ يجب أن يوجَّه قسم من الأموال وفق آلية بناء تراكمية إلى دعم المشاريع الفردية متناهية الصغر، وإلى دعم مشاريع أخرى جماعية، وأن يكون هناك فِرَق مختصة بتقديم هذا الشكل من الدعم وتنظيمه ورَفده بالمهارات والتدريبات. لدينا الكثير من الجهود الواجبة لتحقيق ذلك، ولكنه ليس صعب التحقيق، بل هو معمول به في سوريا نفسها، وإن على نطاق ضيّق جداً في بعض مناطق الشمال والساحل السوري ويستهدف النساء بشكل أساسي.
ولا بد من إخراج هذه المشاريع من الكليشيهات القائمة على التطريز وبعض المهن اليدوية الأخرى التي تُنظَّم لها معارض حول العالم لبيعها بأسعار لا تتناسب مع قيمتها الفعلية في الأسواق، بل المطلوب هو دعم قطاعات مُنتِجة لسلع حقيقية ذات قدرة تنافسية في الأسواق المحلية والعالمية بشكل خاص، وتفعيل شبكات العلاقات لإيجاد منافذ بيع خارج الحدود لمنتجات هذه المشاريع. يمكن في هذا الإطار الاطلاع على تجارب ثريّة وبنّاءة حول العالم، منها تجربة بنك الفقراء في بنغلاديش، وأنشطة أنتروبرونور دو موند الناشطة في دول إفريقية عديدة، وأيضاً تجربة آرك أون سييل في لبنان، التي تمكنت من توظيف مئات المصابين بإعاقات خلال الحرب الأهلية في مشاريع مهنية يُديرونها بأنفسهم وتحقق أرباحاً، فضلاً عن الأمثلة الأخرى حول العالم. ولدينا أيضاً في هذا السياق شركات أهلية كبيرة في دول مختلفة، يملكها مجموعة كبيرة من العاملين فيها، وحقّقت ليس فقط مستوىً معيشياً أفضل لهؤلاء العمال، بل تنمية حقيقية في القرى والمدن التي يسكنونها.
ويجب أن يولى قطاع التعليم أهمية كبرى في هذا السياق، وهو ما بِوِسع المجتمعات المحلية العمل على دعمه بشكل أوفر اقتصادياً وأكثر فاعلية من المنظمات الدولية التي لم تستطع تغطيته بشكل جيد بحسب أرقامها. بالحديث مع معلمة سورية تعمل على عدد من مشاريع التعليم في مناطق الجزيرة السورية، قالت إنّ 150 دولار شهرياً قادرة على تأمين تعليم أوّلي لقرابة 60 طفل. بالتأكيد ليس هذا هو التعليم المنشود، ولكنّ ذلك يضمن، على الأقل، أن يتمكن هؤلاء الأطفال من تعلّم أساسيات القراءة والكتابة والحساب، وهو أمر يفتقده عشرات آلاف الأطفال السوريين. ورغم أنّ ذلك لا يحلّ المشكلة العميقة في الحقل التعليمي، لكنه في النهاية أفضل من أن يُترك جيل كامل تقريباً بلا تعليم إطلاقاً. وبمقدور ذلك أن يجنّبهم، مع بعض الدعم لأسرهم، أن يقعوا ضحية عمالة الأطفال المنتشرة في سوريا على نطاق واسع. ثمة جيل كامل ينمو في سوريا بعيداً عن المدارس، بلا مستقبل وبلا أمل، ولا بدّ من فعل شيء تجاهه، ولو كان ذلك بأبسط الإمكانيات المتاحة.
أمر آخر يمكن فعله، قد يبدو حالماً ولكنه ممكن في حال توفّرت الإرادة، وهو حشد الجهود والتنسيق بين أكبر قدر ممكن من المنظمات الإنسانية ومنظمات المجتمع المدني السورية والشريكة لها من أجل إطلاق منصة دولية لكفالة السوريين المحتاجين، وأن تكون المنصة قائمة على فكرة هي في جوهرها شائعة في السياق السوري وفي بلدان أخرى، ولكنها ليست منظمة ومعمّمة، وهي أن تتيح المنصة الوصول إلى عشرات آلاف الأسر السورية المحتاجة للتكفّل بها بشكل مباشر، ومن خلال بروفايلات واضحة وقدرة على التواصل المباشر بين المتبرع أو المتبرعة والمستفيدين، وبشكل يسمح أيضاً بتطوير علاقة إنسانية مباشرة بين الطرفين، ويأخذ فيها المتبرّع أو المتبرّعة صفة الراعي/ة، وأن تتيح له/ا المنصة مراقبة الأثر الذي يتركه التكفّل بهذه الأسرة على حياتها ومستقبلها. يمكن تطوير الصيغة المعمول بها حالياً – والقائمة على نشر حالات مرضيّة على فيسبوك وتأمين متبرع لها أو طرح حالة طفل يتيم للكفالة – إلى شكل أكثر تطوراً. كل الجهود المعمول بها حالياً محط تقدير، ولكن لا بدّ من تطويرها وتوسيع دائرة المستفيدين منها ودائرة الحلقات القادرة على تقديم الكفالات.
وفي قلب كل هذا، لا بدّ من التواصل المكثّف مع حكومات الدول، الأوروبية على وجه الخصوص، لتأمين طرق إيصال الأموال إلى سوريا المشمولة بالعقوبات الأوروبية والأميركية، إذ ليس من المعقول أن يَترك الناس أهاليهم نهباً للجوع. إنّ الأموال تُحوَّل من هذه الدول على كلّ حال، إلا أنّ عقبات التحويل المفروضة من السلطات تُفضي غالباً إلى وقوع اللاجئين تحت رحمة المحوِّلين الأفراد غير المُرخَّصين، العاملين «بالأسود»، وهو ما يؤدي إلى دفع مبالغ كبيرة لقاء التحويل، تصل إلى 20-25% من قيمة الحوالة أحياناً، وتدفع الكثيرين للامتناع عن إرسال الأموال خشية التعرّض للمساءلة. لا بد أن تكون هناك سياسات مُعِينة من الدول المستضيفة للاجئين السوريين تسمح بنقل الأموال إلى سوريا، لا سيما الأموال العائدة للمنخرطين في سوق العمل ممن لا يحصلون على مساعدات حكومية، ويجب تقديم توجيهات ونصائح قانونية في هذا النطاق للاجئين السوريين، إذ إنّ الكثيرين منهم، مع الأسف، لا يدركون فعلياً إذا ما كان بإمكانهم إخراج الأموال بصيغ قانونية من الدول المستضيفة لهم وكيفية القيام بذلك.
في السياق، تشتكي العديد من المؤسسات السورية المرخَّصة في أوروبا من إقفال حساباتها البنكية منذ عدة سنوات، وبشكل مكثّف خلال العامين الفائت والحالي، تزامناً مع دخول عقوبات قيصر حيّز التنفيذ، وذلك فقط لأنها مرتبطة بالسوريين أو تعمل من أجلهم. هذه المشكلة تستوجب العمل على حلها، فليس من الطبيعي عدم التفريق بين مؤسسات إنسانية وإغاثية ومنظمات مجتمع مدني، وجهات أخرى متهمة بارتكاب انتهاكات وجرائم، وليس من اللائق والعادل أن يُمنَع السوريون، أفراداً ومؤسسات، من استخدام والاستفادة من الأنظمة المصرفية وخدماتها فقط لأنّ البنوك لا تريد إقلاق راحتها بأيّ تفصيل متعلق ببلد تُثار الكثير من علامات الاستفهام حول الأموال الذاهبة إليه أو المُتعلقة به وبالمنحدرين منه. فضلاً عن أنّ ذلك لا يحل المشكلة، بل يجعل السوريين ضحايا مضاعَفين، مرةً بالإقصاء من حقهم في الوصول إلى الخدمات البنكية، ومرةً بتركهم ضحايا لشبكات تحويل الأموال الجشعة وغير القانونية.
يمكن أن تُحَلّ هذه الجزئية من خلال تواصل فاعل مع حكومات هذه الدول إذا كانت تمتلك الرغبة في التحرك الإنساني والأخلاقي تجاه السوريين، بل يجب الضغط عليها إعلامياً في هذا الجزئية المهمة والأساسية، لكي تُعَامَل مؤسسات السوريين كغيرها من المؤسسات، وبموجب إجراءات الشفافية نفسها التي تتّبعها جميع المؤسسات الإغاثية وغير الربحية.
يمكن أيضاً الاستثمار في حملات إعلامية يشترك فيها المشاهير بهدف دعم قدرة الناس على العيش، من خلال تسليط الضوء أكثر على المشاكل المعيشية. ليس هذا الكلام جديداً أو مجهولاً بالنسبة للناشطات والناشطين السوريين، ولكننا اليوم نحتاجه أكثر من أيّ وقت مضى. لا يمكننا أن نُنكر أن أول خطوة على طريق انتشال الناس من جوعهم هو عملية سياسية تُزيح الأسد وترفع العقوبات عن سوريا، ولكننا أمام خصم عديم الأخلاق ولن يسلِّم السلطة ولو مات الناس جوعاً. كيف يمكن للمنظومة الأسدية التي قتلت مئات الآلاف بالسلاح الكيماوي وبالبراميل وفي السجون أن تهتم لعذابات ملايين آخرين نتيجة الفقر والجوع! لن يؤدي جوع الناس إلى إسقاط النظام، ولو فرضنا أنّ ذلك سيحصل يوماً ما، هل سنترك أهلنا يعيشون أشكالاً متنوعة من العذاب اليومي إلى ذلك الوقت المجهول!
ولكن، في ظلّ العقوبات الحالية على النظام السوري، هل ستكون إغاثة السوريين والحشد لمواجهة الجوع الذي يعانونه في مناطق سيطرته على وجه الخصوص بمثابة خدمة للنظام؟ إنّ تبعات هذا الجوع وهذا الفقر وتعطُّل التعليم أكبر من قضيتنا ضد النظام السوري ومعركتنا معه، فهو سيؤدي إلى مزيد من التشوهات العميقة في بنية المجتمع السوري المحطَّم، وسيكون امتداداً للتشوه الذي حصل في سنوات القتال الماضية الأكثر عنفاً.
أزعم أنّه ليس بوسع العقوبات والأزمة الاقتصادية التي يعيشها السوريون اليوم أن تقود النظام إلى القبول بتسوية سياسية حقيقية أو تقديم التنازلات بالشكل الذي نصّ عليه قانون قيصر، وأزعم أيضاً أنّ إرادة أميركية ودولية حقيقية لدفع النظام نحو تسوية وتنازلات سياسية تقتضي تحركاً سياسياً فاعلاً، وأن قليلاً من الجدية وبضع صواريخ أميركية بإمكانها فعل ذلك أكثر بكثير من العقوبات الحالية. ولا أدري إذا كان الأميركيون يدركون ما ندركه جيداً عن دناءة النظام السوري ورأسِه تحديداً، وعن كونه لن يقدم أي تنازلات ما لم يكن هو المستهدف الحقيقي والفعلي، لا ملايين الناس، في محاولات جرّه إلى تقديم التنازلات.
ليست العقوبات وحدها سبب الأزمة المعيشية، ولكن يجب أن يُعاد التفكير سورياً ودولياً بمسألة العقوبات واستراتيجيات مواجهة نظام الأسد، وأن تُبنى هذه المواجهة بموجب أُطُر واستراتيجيات لا تمسّ حياة شعب هو الأفقر والأكثر هشاشةً معيشية على مستوى العالم. هذا الكلام ليس انهزامياً، ولا أخلاقويّاً، ولا تراجعاً عن جذرية رافِضة لنظام الأسد، بل هو استمرار لما نراه جذرية أخلاقية واعية تجاه أهلنا الذين كان على رأس أهداف الثورة أن تمنحهم العيش الكريم، وهو إخلاص لفكرة الكرامة التي انطلقت لأجلها الثورة.
* * * * *
قد تبدو المقترحات أعلاه بضع أفكار مجردة، رؤيوية ورومنسية وتحتاج جهوداً وطاقات لا يمتلكها السوريون اليوم، ولكن فلتكن دعوة للنقاش وللتحرك بشكل أو بآخر من أجل صون كرامات الناس. بإمكاننا التحرك لتطوير هذه الأفكار وغيرها، والشروع بفعل أشياء كثيرة، ومهما كانت نسبة تنفيذها، ستنقذ في طريقها العديد من الأسر، وهي تدريب مفتوح على التنظيم والتضامن والتكافل والفعل الإنساني النقي. يجدر بنا اليوم، وبعد عشر سنوات من الثورة والعذاب، أن نفكّر بشكل أكثر اتساعاً وواقعية من سوريا العام 2011 وثورتها وأحلام التغيير فيها؛ يجدر بنا التفكّر والتحرك انطلاقاً من وقائع اليوم الحالي، ومن تفاصيل الحال التي وصل إليها عموم السوريين. لا مفر من التحرك الجدي والواعي لتغيير الحال والوقائع المعيشة، وذلك حتى تعيش سوريا ويسقط بشار الأسد.
المصدر: الجمهورية. نت